شرح كتاب الصيام من منار السبيل [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان رحمه الله تعالى: [ (فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى) لأن النية محلها القلب ].

فيما يتعلق بمسألة النية تقدم أنه لابد أن يسبق الصوم نية؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات )، يعني: إنما قبولها أو ردها وثوابها وعقابها يكون بحسب النية ومقدارها، وقوة تمكنها من القلب. ولابد أن تكون النية سابقة للعمل ومصاحبة له، وأن لا يأتي الإنسان بناقض لها بعد ذلك أو في أثنائها.

وجوب النية في صوم الفرض

ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث سالم عن عبد الله بن عمر أن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ). وهذا الحديث على ما تقدم أنه اختلف في رفعه ووقفه، واختلف أيضاً في وقفه على من؟ على حفصة أم على عبد الله بن عمر ؟ تقدم الكلام على هذا.

فلابد أن تكون النية سابقة للعمل، وهذا الذي عليه عامة السلف وأكثر الفقهاء يقولون: لابد من أن تسبق النية صيام الفرض.

وأما بالنسبة للنفل فعلى ما تقدم الكلام عليه من أنه يتسامح فيه على خلاف عند الفقهاء في مسألة الزمن الأقصى في تبييت النية أو وضع النية فيه، فمنهم من حدده بنصف النهار، ومنهم من جعل ذلك موسعاً وإلى قبل الغروب بساعة، فيجعلون ذلك على الساعة.

وأما بعض الفقهاء وهذا القول الثاني في مسألة الفرض, وهو مروي عن زفر من أهل الرأي. وينسب كذلك لــــأبي حنيفة عليه رحمة الله أنه قال: لا حرج أن تكون نية الفرض في رمضان من النهار. وله قول في ذلك آخر -أعني: أبا حنيفة- أنه يجب على الإنسان أن يجعل النية من الليل موافقاً لجمهور الفقهاء، ولكن نجد أن أبا حنيفة عليه رحمة الله يفرق في مسألة النية في الفرض بين الفرض المعين وبين الفرض غير المعين، يعني: عنده ثمة فرض موسع، وثمة فرض غير موسع.

فالمعين ما عين وعرف كرمضان، وأما بالنسبة لغير المعين فهو كقضاء رمضان، هو واجب عليك ولكن لم يحدد من جهة الزمن، فيوجب النية في الفرض غير المعين من الليل، أي: أنك حين تصوم صوماً تريد به القضاء فلابد أن تحدد النية أنك أردت هذا القضاء، وأما رمضان فمعلوم أن هذا رمضان، فهو معين من الشارع، فكأنه يرى أن ما عينه الشارع لا يحتاج إلى تبييت نية من الليل، وهذا في أحد قوليه عليه رحمه الله.

وأما الإنسان الذي يتردد في النية كأن يقول: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإن لم يكن من رمضان فلست بصائم، أو إذا كان غداً من رمضان فإني صائم، وإذا لم يكن من رمضان فهو صوم نفل لا صوم فريضة، فهذا يرجع إلى أصل, وهو مسألة التردد بالنية، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

وأما هنا يقول: (فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى)، فالنية هي مجرد العلم وتبييت للشيء, وكأنه يريد أن يبين المعنى المراد من عقد النية، ومعلوم أن للقلب عملاً وله قولاً، فعقد النية والعلم بالشيء مع عدم وجود نقضيه في القلب كاف في أمر النية.

حكم تبييت النية في كل ليلة من رمضان

وهل يجب على الإنسان أن يبيت النية لكل ليلة من ليالي رمضان أم يكفي ذلك نية واحدة من أول رمضان؟

نقول: هذه المسألة من مسائل الخلاف أيضاً، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه المسألة على قولين: منهم من يقول بوجوب النية لكل ليلة، وهذا مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله.

والقول الثاني: قالوا: إنه يكفي لرمضان نية واحدة من أول ليلة، فإذا نوى فإن ذلك يجزئه عن سائر الليالي شريطة ألا يوجد ناقض ينقض نية الأصل في أثناء رمضان، وبهذا القول يقول جماعة من الفقهاء: لو أن الإنسان نقض نيته في أثناء صيام رمضان فصام عشرة أيام ثم سافر، ففي السفر ينوي الفطر ولا ينوي الصوم، ثم أقام قالوا: في حال إقامته يجب عليه أن يجدد النية وأن لا يكتفي بما سبق، بل لابد من النية من الليل.

الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة يجعل النية بالنسبة للأيام المتواصلة على حالين:

الحالة الأولى: صيام متتابع لا يقطعه فطر النهار، وذلك كصيام رمضان، وكذلك أيضاً صيام الأيام المتتابعة، ككفارة الظهار وأمثالها، قالوا: فإنه يكفيه في ذلك نية واحدة، وذلك أنه لم يقطعه فطر النهار، وأما الفطر الليلي فإنه لا يضر في ذلك.

وأما الحالة الثانية: وهي ما يقطعها فطر النهار، وذلك في الأيام التي يتخللها شيء من الفطر على ما تقدم في مسألة الصيام في السفر أو في حال الإنسان الذي يصوم شهرين متتابعين في أي نوع من أنواع الكفارة، فالمرأة إذا عذرت مثلاً بالفطر في النهار، فأفطرت لحيضها، أو لنفاسها، أو الرجل لسفره، أو الرجل والمرأة لمرضهما، قالوا: فيجب عليه حينئذ أن يعيد النية في ذلك؛ لأنه تخللها فطر النهار، فالمالكية يفرقون بين الحالين، بين ما يتخلله فطر النهار، وبين ما يتخلله فطر الليل.

ذكر ما يقوم مقام النية

قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا الأكل والشرب بنية الصوم). وقال الشيخ تقي الدين: هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليل رمضان ].

وذلك أن الإنسان يقوم في السحر ليأكل وهذا كاف كأمارة لوجود النية في قلبه، فالعلم بأن غداً رمضان كاف، والفعل أيضاً الذي يشير إلى وجود العلم السابق في القلب من أن غداً من رمضان كالذي يتعشى أو يتسحر لرمضان، فهذا كاف في أنه بيت النية، فإذا خطر في قلبه أن غداً رمضان، أو أكل لأجل الإمساك فهذا أيضاً من أمارات النية.

هذه الأشياء التي يذكرها العلماء عليهم رحمة الله يريدون أن يبينوا بها أنه لا يشرع الإفصاح، ولكن هذه أمارات على ما وجد في القلب من نية، ولهذا الذي يأكل في آخر الليل في ليلة رمضان يختلف عن الذي يأكل في ليلة العيد، فليلة العيد يأكل ولا يوجد صيام، فهذه الأكلة ليست لتحري جوع أو عطش بخلاف ليلة رمضان.

قطع الصوم بالنية

قال رحمه الله: [ (ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم)؛ لأن الله تعالى أباح الأكل إلى آخر الليل فلو بطلت به فات محلها ].

وذلك أن الإنسان إذا نوى الصيام وعزم ثم قام من عشائه ثم رجع إلى الماء وأكل طعاماً وشرب ماء فإنه حينئذ لا يضره ذلك، فقد أتى بما يناقض النية؛ لأن الله عز وجل أباح له. ونيته في ذلك ليس صيام الليل وإنما هو صيام النهار، فإذا جاء النهار فإنه يرجع في ذلك إلى ما يناقض النية.

والنية إذا عقدها الإنسان تبطل بنية مناقضة لها ولو لم يفعل الإنسان المفطر، فيفطر الإنسان بنيته ويمسك بنيته كذلك، وعلى هذا نقول: من نوى الفطر أفطر ولو لم يطعم. وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله في قطع الصوم بالنية، هل ينقطع بذلك أو لابد من مباشرة المفطر؟

اختلفوا في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء -وهو ظاهر قول مالك، والشافعي، والإمام أحمد عليه رحمة الله- إلى أن النية كافية في قطع الصوم ولو لم يتناول الإنسان المفطر.

وذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل الكوفة إلى أنه لابد من فعل المفطر.

ويلزم من هذه المسألة جملة من الأحكام والمسائل:

منها: أن الإنسان إذا نوى من الليل وبيت الصيام ثم نوى قطعها من النهار ولو لم يكن عنده شيء فهذه النية عنده لا تكفي فلابد من المباشرة، فعند جمهور العلماء أنها كافية وذلك كحال الإنسان مثلاً إذا دعي إلى وليمة وقد بيت النية من الليل بيت القطع وبيت الفعل، يعني: أنه سيذهب لتناول طعام الوليمة، وكذلك أيضاً قطعها.

نقول: إذا أراد الإنسان أن يأكل فإن ذلك يختلف عن قطع النية، قطع النية لا يلزم منه الأكل، فإذا قطع النية اكتفي بذلك، وإذا قال: سأذهب إلى فلان ولكني لا أريد قطع النية حتى أباشر وأنظر، ففي هذه الحال إذا تناول المفطر أفطر عند الجميع، وأما إذا بيت النية فإنه يفطر عند جمهور العلماء خلافاً لــــأبي حنيفة، فعنده لابد من الفعل.

وهذا يلتزمه العلماء الفقهاء الثلاثة حتى في مسائل الصلاة, فإذا نوى الإنسان قطع صلاته انقطعت صلاته وهو فيها، ولكن عند أبي حنيفة لابد من فعل مبطل الصلاة، وذلك أن الإنسان إذا استقبل القبلة وكبر للصلاة ثم تذكر أنه لم يصل صلاة أخرى فإنه يحتاج إلى أن يقدم الصلاة التي تركها، فجمهور العلماء يرون أنه بمجرد النية يبطل الصلاة، ثم يستأنف بتكبيرة أخرى بعد النقض القلبي فيأتي بالصلاة السابقة.

وعلى مذهب أبي حنيفة لابد من أن يفعل مبطلاً, وذلك كأن ينحرف عن القبلة أو أن يسلم من صلاته، فحينئذ يقوم باستئناف صلاة أخرى، وذلك يحدث في مسألة ترتيب الصلوات, فإذا كان على الإنسان فائتة، أو جملة من الفوائت فأراد أن يقضيها ثم أراد أن يرتب فجاء بصلاة متأخرة ونسي المتقدمة فكبر, ترد هنا هذه المسألة كذلك؛ ولهذا نقول: إن الصواب في ذلك أن النية كافية في قطع الصوم ولو لم يفعل الإنسان مفطراً.

وهذا أيضاً يظهر في مسألة الصيام إذا ذهب الإنسان إلى أن يقطع صومه النفل بتناول مفطر، فذهب إلى كأس وجده فارغاً, وحينئذ فعلى قول جمهور العلماء فإنه قطع بمجرد نيته ولو لم يجد شيئاً، وعلى قول أبي حنيفة فإن صيامه صحيح، هذا في مسألة الفرض والنفل عند جمهور العلماء.

والنية في النفل تصح نهاراً ولو لم يكن ثمة نية، يعني: لم يكن ثمة نية قبل ذلك من الليل وإنما وجدت نهاراً، فيتسامح في مسألة النفل ما لا يتسامح في مسألة الفرض.

وأما بالنسبة للدليل على إجزاء نية النهار في النفل هو ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى, أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها فقال: ( أعندكم شيء؟ فقالت: لا. قال: فإني إذاً صائم ) ، ثم سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً آخر فقال عليه الصلاة والسلام: ( إني أصبحت صائماً أعندكم شيء؟ فقالت: أهدي إلينا حيس فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم )، فأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام بعدما نوى الصيام.

في هذا مسألة: أن الإنسان إذا نوى النية من الليل في النافلة هل له أن يقطعها نهاراً أم لا؟ له أن يقطعها نهاراً، فمن بيَّت من الليل الصيام, ثم في نصف النهار نوى قطعها هل يقطعها أم لا, ويجوز له ذلك أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة. فمنهم من قال: إن الإنسان إذا بيت النية من الليل حرم عليه أن يقطعها من النهار، وهذا قول جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث الحارث عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله, وهو قول جماعة من الفقهاء من أهل الرأي.

جمهور العلماء على أن صيام النفل يجوز للإنسان أن يقطعه من النهار ولو بيته من الليل، والفقهاء من أهل الرأي يفرقون بين من بيت الصيام من الليل، وبين من بيته من النهار.

التردد في نية الصوم

قال رحمه الله: [ (أو قال: إن شاء الله غير متردد) كما لا يفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ].

وذكر الاستثناء في مسألة العمل لا يضرها باعتبار أن الأصل هو ما وجد في القلب بخلاف من كان متردداً في أصل النية، وذلك أن الإنسان إذا كان متردداً في أصل نيته ولم يجزم الصيام, هل أصوم غداً أو لا أصوم؟ كما يرد كثيراً في صوم يوم الثلاثين عند الشك حيث يقول: إن كان غداً رمضان فإني صائم، كحال الإنسان المسافر أو المنقطع عن وسائل الاتصال فلا يدري أحوال الناس كمن كان مغترباً، أو كان سجيناً بعيداً مثلاً عن العلم بأحوال الناس، فيقول: إن كان غداً فإني أصبح صائماً.

هذا يرجع إلى أصل التردد في النية وعدم العزم بها، هل يصح ذلك من الإنسان أم لا؟ بالنسبة للنفل فالعلماء والفقهاء يتسامحون في مسألة النية ولو كانت من النهار، أما مسألة التردد في الفرض فهذه مسألة أخرى.

في النفل إذا قال الإنسان: أنا لا أدري غداً الإثنين أصوم أو لا أصوم؟ إن وجدت أحداً يعين، أو وجدت في نفسي نشاطاً صمت وإلا لم أصم، هذه المسألة من جهة الأصل فيها اليسر.

أما بالنسبة للفرض كمن يشك في أول رمضان فيتردد إن كان غداً من رمضان صمت أو لم أصم، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء قالوا بعدم صحة ذلك, ولو صام وجب عليه أن يقضي ذلك اليوم، وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أن ذلك لا يضره، وذلك للأصل الذي يبنون عليه في مسألة النية.

ويستدلون على ذلك بما جاء في الصحيح من حديث سلمة بن الأكوع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أسلم أن ينادي في الناس في يوم عاشوراء ضحى: أن من كان صائماً فليتم صومه، ومن كان قد أكل فليمسك بقية يومه ) . قالوا: أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإمساك, وكان عاشوراء قبل رمضان فرض، قال: فيأخذ رمضان حكم عاشوراء كذلك للاشتراك في مسألة الفرض.

ولكن نقول: هذه مسألة أخرى وليست هي المسألة التي نتكلم عنها, وذلك أننا نتكلم على مسألة التردد بالنية، ولا نتكلم على رجل تفاجأ أنه رمضان وهو لا يعلم به، هذا الرجل قد بيت التردد من الليل، وهذا قد جاءه العلم أن رمضان اليوم وهو لا يعلم به.

فهذه المسألة هي مسألة أخرى وهي مسألة من علم بدخول رمضان نهاراً, وكان قد أكل أو لم يأكل. فنقول في هذه المسألة: أنه إذا كان قد أكل فيمسك، ويتم صيام بقية اليوم، وإذا كان لم يأكل فإنه يمسك البقية كذلك، وهل يجب عليه القضاء أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء يرون وجوب القضاء. وذهب جماعة من الفقهاء -وهو قول أبي حنيفة ، وكذلك عمر بن عبد العزيز ، ورجحه ابن تيمية- إلى أنه لا يجب عليه القضاء؛ لماذا؟ لأنه ما ملك نية من الليل ولم يتردد فيها ولو علم لجزم، فهو معذور في هذا، فعلم نهاراً فأمسك، وإذا أكل قبل ذلك فهو معذور لعدم علمه بأنه رمضان، كحال الإنسان الذي نسي فأكل أو شرب فمرت عليه دقائق أو ساعات لم يعلم أن هذا صيام فعذر في ذلك، وكحال الإنسان أيضاً إذا لم يعلم أنه رمضان، فلم نلزم عليه القضاء ولو أكل منه.

قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فمفطر) فبان من رمضان أجزأه؛ لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله, وهو بقاء الشهر.

قال المصنف: [ (ويضر إن قاله في أوله) لعدم جزمه بالنية ].

وهذا ظاهر المذهب أنهم يفرقون بين التردد بالنية في أول رمضان، وبين التردد بالنية في آخره، وذلك أن الأصل بقاء النية بالنسبة للصيام بخلاف شعبان فالأصل بقاء الفطر لا الصيام.

ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث سالم عن عبد الله بن عمر أن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ). وهذا الحديث على ما تقدم أنه اختلف في رفعه ووقفه، واختلف أيضاً في وقفه على من؟ على حفصة أم على عبد الله بن عمر ؟ تقدم الكلام على هذا.

فلابد أن تكون النية سابقة للعمل، وهذا الذي عليه عامة السلف وأكثر الفقهاء يقولون: لابد من أن تسبق النية صيام الفرض.

وأما بالنسبة للنفل فعلى ما تقدم الكلام عليه من أنه يتسامح فيه على خلاف عند الفقهاء في مسألة الزمن الأقصى في تبييت النية أو وضع النية فيه، فمنهم من حدده بنصف النهار، ومنهم من جعل ذلك موسعاً وإلى قبل الغروب بساعة، فيجعلون ذلك على الساعة.

وأما بعض الفقهاء وهذا القول الثاني في مسألة الفرض, وهو مروي عن زفر من أهل الرأي. وينسب كذلك لــــأبي حنيفة عليه رحمة الله أنه قال: لا حرج أن تكون نية الفرض في رمضان من النهار. وله قول في ذلك آخر -أعني: أبا حنيفة- أنه يجب على الإنسان أن يجعل النية من الليل موافقاً لجمهور الفقهاء، ولكن نجد أن أبا حنيفة عليه رحمة الله يفرق في مسألة النية في الفرض بين الفرض المعين وبين الفرض غير المعين، يعني: عنده ثمة فرض موسع، وثمة فرض غير موسع.

فالمعين ما عين وعرف كرمضان، وأما بالنسبة لغير المعين فهو كقضاء رمضان، هو واجب عليك ولكن لم يحدد من جهة الزمن، فيوجب النية في الفرض غير المعين من الليل، أي: أنك حين تصوم صوماً تريد به القضاء فلابد أن تحدد النية أنك أردت هذا القضاء، وأما رمضان فمعلوم أن هذا رمضان، فهو معين من الشارع، فكأنه يرى أن ما عينه الشارع لا يحتاج إلى تبييت نية من الليل، وهذا في أحد قوليه عليه رحمه الله.

وأما الإنسان الذي يتردد في النية كأن يقول: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإن لم يكن من رمضان فلست بصائم، أو إذا كان غداً من رمضان فإني صائم، وإذا لم يكن من رمضان فهو صوم نفل لا صوم فريضة، فهذا يرجع إلى أصل, وهو مسألة التردد بالنية، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

وأما هنا يقول: (فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى)، فالنية هي مجرد العلم وتبييت للشيء, وكأنه يريد أن يبين المعنى المراد من عقد النية، ومعلوم أن للقلب عملاً وله قولاً، فعقد النية والعلم بالشيء مع عدم وجود نقضيه في القلب كاف في أمر النية.

وهل يجب على الإنسان أن يبيت النية لكل ليلة من ليالي رمضان أم يكفي ذلك نية واحدة من أول رمضان؟

نقول: هذه المسألة من مسائل الخلاف أيضاً، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه المسألة على قولين: منهم من يقول بوجوب النية لكل ليلة، وهذا مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله.

والقول الثاني: قالوا: إنه يكفي لرمضان نية واحدة من أول ليلة، فإذا نوى فإن ذلك يجزئه عن سائر الليالي شريطة ألا يوجد ناقض ينقض نية الأصل في أثناء رمضان، وبهذا القول يقول جماعة من الفقهاء: لو أن الإنسان نقض نيته في أثناء صيام رمضان فصام عشرة أيام ثم سافر، ففي السفر ينوي الفطر ولا ينوي الصوم، ثم أقام قالوا: في حال إقامته يجب عليه أن يجدد النية وأن لا يكتفي بما سبق، بل لابد من النية من الليل.

الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة يجعل النية بالنسبة للأيام المتواصلة على حالين:

الحالة الأولى: صيام متتابع لا يقطعه فطر النهار، وذلك كصيام رمضان، وكذلك أيضاً صيام الأيام المتتابعة، ككفارة الظهار وأمثالها، قالوا: فإنه يكفيه في ذلك نية واحدة، وذلك أنه لم يقطعه فطر النهار، وأما الفطر الليلي فإنه لا يضر في ذلك.

وأما الحالة الثانية: وهي ما يقطعها فطر النهار، وذلك في الأيام التي يتخللها شيء من الفطر على ما تقدم في مسألة الصيام في السفر أو في حال الإنسان الذي يصوم شهرين متتابعين في أي نوع من أنواع الكفارة، فالمرأة إذا عذرت مثلاً بالفطر في النهار، فأفطرت لحيضها، أو لنفاسها، أو الرجل لسفره، أو الرجل والمرأة لمرضهما، قالوا: فيجب عليه حينئذ أن يعيد النية في ذلك؛ لأنه تخللها فطر النهار، فالمالكية يفرقون بين الحالين، بين ما يتخلله فطر النهار، وبين ما يتخلله فطر الليل.