الأحاديث المعلة في الجنائز [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي هذا المجلس في غرة شهر جمادى الأولى من عام (1435هـ).

نتكلم على شيء من الأحاديث التي أعلها العلماء في أبواب الجنائز.

وتقدم معنا في المجالس القليلة السابقة شيء من الأحاديث المتعلقة بهذا الباب.

ونتم أيضاً هذه الأحاديث فنقول: إن أول هذه الأحاديث: هو حديث جابر بن سمرة عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وبإزار ولفافة وكفن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى بثوبين ).

هذا الحديث أخرجه البزار في كتابه المسند من حديث ناصح بن عبد الله أبي عبد الله عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كفن في ثلاثة أثواب وإزار ولفافة وكفن عمر بن الخطاب في ثوبين ).

وهذا الحديث حديث منكر، ونكارته في متنه، وكذلك علته في إسناده.

أما بالنسبة لنكارته في متنه، فذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كفن في ثلاثة أثواب، ولم يكفن عليه الصلاة والسلام في شيء زائد عن ذلك، كما جاء ذلك في جملة من الأحاديث منها ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب سحولية، وليس فيها قميص ولا عمامة ).

فلم يكن فيها إزار من باب أولى ولا لفافة، ولم يكن ثمة في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرٌ زائد عن ذلك، وجاء أيضاً هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس كما جاء عند الإمام أحمد في كتابه المسند، وجاء من حديث غيره.

وكل زيادة على ذلك في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي منكرة.

وأما بالنسبة للعلة الإسنادية: فإن هذا الحديث تفرد به ناصح بن عبد الله أبو عبد الله عن سماك بن حرب عن جابر و ناصح قد تكلم عليه غير واحد من العلماء، وهو سيء الحفظ، وقد ضعفه بعض الأئمة، فتفرده بهذا الحديث عن سماك مما يستنكر، وتفرد سماك به عن جابر مما يستنكر أيضاً.

وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث منكرٌ، ومن أمارة نكارته: أنه مخالف للأحاديث التي اعتمدها أهل الأصول في أصولهم في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أولئك: البخاري و مسلم فإنهما قد أخرجا من طرق متعددة في التكفين: سواء كان ذلك في كفن النبي صلى الله عليه وسلم أو في كفن غيره كبنته، وكفن الخلفاء الراشدين: كـأبي بكر و عمر عليهم رضوان الله تعالى.

وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث منكر.

الحديث الثاني: هو حديث الفضل بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثوبين سحوليين ).

وهذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم وابن حبان في كتابه الصحيح من حديث أبي إسماعيل المؤدب عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن أبيه عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كفن في ثوبين سحوليين ).

وهذا الحديث حديث منكر تفرد به يعقوب بن عطاء وهو ابن أبي رباح والده الإمام الفقيه إمام أهل مكة، ولكن ابنه ضعيف الحديث، وليس بالحافظ، وقد ضعفه جماعة من الأئمة كـيحيى بن معين وغيره، وتفرده بهذا الحديث يخالف الأحاديث الثابتة: أنه كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب.

وكذلك فإن هذا الحديث قد استغربه الطبراني رحمه الله في كتابه المعجم.

ثم إن هذا الحديث لو كان عند عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس لرواه ثقات أصحابه، فـعطاء ليس مما يخفى حديثه، فتفرد ابنه عنه بمثل هذا يستنكر، وتقدم معنا الإشارة في بعض المجالس إلى أن رواية الأبناء عن الآباء مما يدفع فيها التفرد، واستثنينا من ذلك بعض الصور، ومن هذه الصور: أن بعض الرواة يشتهر فيستوي أبناؤه وأهل بيته مع غيرهم لاشتهاره، بل إن بعض أصحابه ممن يعتني بروايته وضبط حديثه أولى من أهل بيته من غير المعتنين، وهذا أمر ظاهر، ومثلنا بجملة من الأمثلة وذلك كابن أخي عبد الله بن وهب فإنه ربما يتفرد عنه ببعض الأحاديث فهو لقرابته من عبد الله بن وهب لا نقول: إن هذا من الاختصاص، ويدفع الغرابة والتفرد، بل نقول: إن هذا ليس من الاختصاص لأن عبد الله بن وهب هو من الأئمة المشهورين الذين يروون الحديث ويؤخذ عنهم ويستفيض لكثرة مجالسهم وقصد الناس لهم، فتفرد القرابات في ذلك ليس مما يدفع الغرابة في أمثال هؤلاء.

وكذلك الحال في عطاء بن أبي رباح فهو إمام في الفقه، وكذلك يختص بالرواية عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وهو إمام يقصد بالأخذ بالسماع وممن يتصدر بإسماع غيره والجلوس له، فحديثه يحفظ، ولا يقال: بأن ابنه يختص بمثل هذا إلا إذا كان الابن قد امتاز بغير ميزة قرابة البنوة كأن يكون امتاز بعنايته بالحديث، وهذا ربما يحدث في الأبناء والأحفاد، وكذلك كحال إسرائيل، إسرائيل يتفرد عن أبي إسحاق بأحاديث وهو حفيده ويقدم على غيره، وربما يقدم في بعض الأحوال على بعض الكبار: كـشعبة بن الحجاج و سفيان وغيرهم، وإنما قيل بتقديمه لا لذات القرابة المجردة، وإنما هو في ذاته معتني، فإن أضاف إلى ذلك جانب القرابة وذلك لأنه حفيد لـأبي إسحاق وكان أبو إسحاق أعمى فكان يقوده إسرائيل في ذهابه ومجيئه ويسمع منه ما لم يسمع غيره، ولهذا ربما البخاري و مسلم يقدمان إسرائيل في بعض الوجوه على شعبة و سفيان ، فربما يكون الحديث يرويه هؤلاء الثلاثة ويقدم رواية إسرائيل على غيره لاختصاصه بالرواية وهو في أبي إسحاق يختلف عن روايته عن غيره، أما عن غيره فيقدم الثقات الكبار لروايته عنه، وأما بالنسبة لروايته عن أبي إسحاق فإنه يقدم في بعض الأحيان حتى على الحفاظ الكبار، ولهذا نقول: إن إعلالنا هذا الحديث بتفرد يعقوب بن عطاء عن عطاء بن أبي رباح؛ لأن عطاء إمام كبير ومجالسه في المسجد الحرام تقصد، فلا حاجة إلى أن يقال: إذا اختص بحديثه ابنه أن الغرابة تدفع للقرابة، إنما الغرابة تدفعها بالقرابة إذا كان الراوي لا يكثر المجالسة للناس ولا يقصد بالرواية، وأما إذا كان يجلس للناس ويقصده الناس من الآفاق والبلدان فضلاً عن أهل بلده فحينئذٍ يقال: إن القرابة لا تنفع في دفع الغرابة في الحديث.

وكذلك أيضاً: فإن هذا الحديث من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى يرويه عن الفضل بن عباس في كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كفن عليه الصلاة والسلام في ثوبين سحوليين ).

وتقدمت الإشارة إلى أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله ممن روى كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يروي عن الفضل، فكيف يروي عن الفضل وهو ممن شهد التكفين، وهذه علة تخالف ما روى عبد الله بن عباس وتخالف ما شهده في أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما كفن في ثلاثة أثواب.

وهذا أيضاً له موضع في الكلام عليه تقدم معنا في بعض الأحاديث، وعلى هذا نقول: إن هذا الحديث حديث منكر، وهو حديث يعقوب بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى عن الفضل بن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثالث في هذا: حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب: منها بردٌ أحمر ).

هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في كتابه المسند ، و ابن سعد في كتابه الطبقات، والبزار من حديث عبد الله بن بشر عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة عليها رضوان الله.

وهذا الحديث حديث منكر، ووجه النكارة في هذا الحديث: أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، ولكنه ذكر لوناً لأحد هذه الأبواب: منها بردٌ أحمر، وكفن النبي عليه الصلاة والسلام كله أبيض، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في الصحيحين وغيرهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب سحولية )، والسحولية هي: القطنية البيضاء ناصعة البياض، وهي: ثياب يمانية.

وجاء في صحيح البخاري في رواية من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وليس فيها قميص ولا عمامة ).

وأما ذكر الحُمرة في البرد في كفن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن هذا الحديث تفرد به عبد الله بن بشر بن نبهان الرقي ، تفرد به عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن عائشة عليها رضوان الله، وحديثه في ذلك منكر خالف في ذلك الثقات من أصحاب ابن شهاب، فقد أخرج هذا الحديث الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث محمد بن إبراهيم عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة عليها رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب سحولية ).

وهذا هو الصواب، و عبد الله بن بشر بن نبهان الرقي هو في ذاته صالح، ولكنه سيء الحفظ، وله مفاريد تفرد بها عن ابن شهاب ترد حديثه، له مفاريد في هذا، منها: ما يرويه عن ابن شهاب الزهري في قصة قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وضج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حوله )، فهذا الحديث منكر لمخالفة عبد الله بن بشر بن نبهان في روايته لهذا الحديث عن ابن شهاب الزهري وخالف الثقات من أصحاب ابن شهاب ، و ابن شهاب إمام وروايته في ذلك تشتهر، وتفرد من أمثال عبد الله بن بشر ممن هم من أصحاب الرواية المتوسطة، مع ضعف ولين في حفظه ترد.

وقد أشار بعض الأئمة عليهم رحمة الله إلى أن ابن بشر في روايته عن ابن شهاب الزهري نكارة على سبيل الخصوص مع سوء حفظه في ذاته.

وممن أشار إلى هذا البزار رحمه الله في اعتراض في حديث في كتابه المسند، وأشار إلى هذا ابن خلفون رحمه الله إلى أنه ربما يخطئ عن ابن شهاب الزهري ، ويكفي في هذا مخالفته للثقات من أصحاب ابن شهاب كـمحمد بن إبراهيم فإن الإمام مسلماً رحمه الله قد أخرج في كتابه الصحيح من حديث محمد بن إبراهيم عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.. وذكر الثلاثة الثياب السحولية، وما ذكر البرد الأحمر في كفن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى عند الإمام أحمد في المسند، وكذلك عند ابن سعد في الطبقات من حديث يزيد عن مقسم عن عبد الله بن عباس وذكر الحمرة، ولكنه ضعيف لحال يزيد فإنه ضعيف الحديث.

وكذلك فإن مقسماً في تفرداته عن عبد الله بن عباس فيما يخالف الثقات تلتغى عادة، وعلى هذا نقول: إن ما يخالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في لون ثيابه، وفي عددها، وفي وصفها، فقد تكون بعض الروايات تأتي ثلاث، ولكن يكون وصفها على خلاف الوصف الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، منها ما يتعلق بأنها قمص ولها أزرار، أو أنها تزر أو نحو ذلك، فهذه الأحاديث في هذا ضعيفة، لأن هذه الحادثة حادثة واحدة، ولا تكرر الرواية في ذلك إنما هي على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحديث الرابع: هو حديث أم عطية عليها رضوان الله أنها قالت في كفن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فكفناها في خمسة أثواب، وخمرناها كما نخمر الحي.

هذا الحديث جاء من حديث حفصة بنت سيرين عن أم عطية في الكفن، ولكن جاء هذا الحديث من حديث إبراهيم بن حبيب عن هشام بن حسان القردوسي عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية في الكفن.

وهذا الحديث، أعني: حديث أم عطية في تكفين ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الصحيحين من حديث حفصة ومن حديث محمد ابني سيرين ، ولكن ليس فيه أن الأثواب خمسة، وظاهر هذا الإسناد السلامة، وقد أخرجه الجوزقي من حديث إبراهيم بن حبيب عن هشام فتفرد به هشام بن حسان القردوسي عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية .

وهو معلول بعدة علل: أول هذه العلل: أن إبراهيم بن حبيب ولو كان ثقة في ذاته إلا أنه خالف الثقات ممن يروي هذا الحديث عن هشام بن حسان، و هشام بن حسان روى عنه الحديث جماعة في الصحيحين وغيرهما:

فقد أخرجه البخاري في كتابه الصحيح من حديث يحيى بن سعيد عن هشام بن حسان فذكره ولم يذكر عدد الأثواب خمسة، وكذلك أيضاً قد أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح من حديث يزيد بن هارون .

وتابعهم على ذلك جماعة ممن يروي هذا الحديث فتابعهم على ذلك سفيان الثوري و عبد الأعلى ، و يعلى ، و شعيب ، وغيرهم كلهم يروون هذا الحديث عن هشام ، وخالفوا في لفظه، والأصل أن الرجال والنساء في عدد الأكفان سواء، وهذا الحديث حديث منكر، ومن وجوه النكارة مع ورود المخالفة في ذلك:

أن هذا الحديث يرويه عن أم عطية محمد بن سيرين أيضاً، وقد اشتهر عن أم عطية حديث حفصة بنت سيرين ، و محمد بن سيرين ، ولا يعرف في لفظ من ألفاظ هذا الحديث أو طرقه إلا ما تفرد بهذا الحديث من حديث إبراهيم بن حبيب عن هشام بن حسان ويخالفون في روايته ما جاء في الصحيحين، وهنا العلة هل تحمل في إبراهيم بن حبيب أو هشام بن حسان باعتبار أن إبراهيم بن حبيب الذي خالف الثقات هو أوثق من هشام بن حسان، ولم يطعن فيه أحدٌ من الحفاظ وهو ثقة في حفظه، و هشام بن حسان الذي يروي هذا الحديث ويروي عنه جماعة من الرواة في الصحيحين وغيرهما، هو قد تكلم فيه بعض الأئمة: كـشعبة بن الحجاج فإنه قال: لم يكن حافظاً، هل يحمل هذا الوهم والغلط في هذا الحديث في إبراهيم بن حبيب وهو ثقة لمخالفته للجماعة، أم يحمل في هشام بن حسان لأنه ربما أخطأ.

إبراهيم بن حبيب ثقة ليس فيه مطعن يرويه عن هشام بن حسان و هشام بن حسان فيه مطعن، وهشام بن حسان يرويه عن حفصة عن أم عطية .

فهذا الحديث إبراهيم بن حبيب خالف فيه الجماعة، لكنه ثقة ولا مطعن فيه، يرويه عن شيخه، وشيخه فيه مغمز، هل المخالفة أقوى، أم الطعن في هشام أقوى؟ في قول آخر؟

صحيح أن هشاماً ضابط الحديث؛ لأنه لو خالف إبراهيم راوياً واحداً لأمكن أن نقول: الخطأ من هشام ، لكن هذا الحديث مختصر، و هشام حدث به جماعة حدث به سبعة احتمال أنه حدث به مراراً ليس في مجلس واحد، يعني: أنه ضبط هذا الحديث، لماذا ما أخطأ إلا عند إبراهيم، والراوي إذا روى الحديث أو روي عنه الحديث من عدة وجوه فذلك أمارة على ضبطه لهذا الحديث، لكن لو كانت المخالفة لراوٍ واحد لاحتمل أن الخطأ كان منه فيرويه على الوجهين، أما لو كانت الرواية متعددة فرواه عنه خمسة بلفظ واحد، ثم رواه عنه واحد بوجه مختلف، فالمتهم الواحد؛ لأنه كيف ضبطه خمس مرات وكرره فإنه هذا أدعى للحفظ، ولكنه لما خالفه واحد من هؤلاء السبعة أو من هؤلاء الثمانية دل على أن الوهم هو من الثامن.

وأما من يقول: إن إبراهيم بن حبيب لا مطعن فيه، فنقول: عدم وجود كلام العلماء فيه لا يعني السلامة من كل وهم وغلط.

وأما كلام بعض الأئمة كـشعبة في هشام أنه لم يكن بالحافظ، نقول: هذا في أصل محفوظه لا في ذات الخبر، وذات الخبر دل ظاهر السياق وظاهر الوجوه والطرق على أنه ضابط لهذا الحديث، فرواه لأشخاص متعددين وظاهره أنه في مجالس متعددة.

قد يقول قائل: كيف نعرف أن هذا الحديث رواه في مجالس متعددة؟ نقول: هشام بن حسان ليس ممن يقصد بالمجالسة كالكبار وإن كان ثقة لكنه ليس كـمالك يجلس وعنده خمسون أو مائة أو مائتان فيحدثهم مرة واحدة ثم يصدرون عنه.

وأما من دونه فغالب من يأتيه الواحد فيسمع منه الحديث ثم يمضي أو الاثنين، وهؤلاء وإن كانوا من الثقات فإنه لا مجالس لهم تعقد باعتبار أنهم ليسوا من أهل الفقه، وإنما هم من أهل الرواية فيروون الحديث والحديثين والعشرة والعشرين، فلا مجالس لهم، بخلاف المكثرين، كـابن شهاب و عبيد الله بن عمر ، والإمام مالك ، و يحيى ، و محمد بن إبراهيم وغير هؤلاء، فهؤلاء لهم مجالس، ويحدثون؛ لأن لهم مئات الأحاديث.

أما المقل من الرواية الذي له العشرة والعشرون فيجلس مجلسين وانتهى الذي عنده، حينئذٍ نقول: إن هذا أمارة على أنه إنما حدث الحديث بانفراد أو شبه انفراد، فحدث بالواحد، ثم اثنين مع بعضهما، ثم حدث بالآخر فهذا أمارة على ضبطه للحديث، وأن الخطأ من إبراهيم بن حبيب الذي يروي عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية .

كذلك فإن هذا الحديث يعرف من حديث محمد بن سيرين عن أم عطية أيضاً، وليس فيه ما تفرد به إبراهيم بن حبيب عن هشام بن حسان ، ولهذا نقول: إنما تفرد به إبراهيم بن حبيب عن هشام بن حسان منكر ولا يقال بصحته، بعض المتأخرين يحكمون بحسن هذا الحديث، وهذا فيه نظر، وذلك لمخالفته للأحاديث، أما سلامة الطريق فلا تعني: صحة الإسناد.

ومن الأمارات في نكارة هذا الحديث وما في حكمه في الزيادة على ثلاثة أثواب: أنه يخالف عمل الخلفاء الراشدين وفتاويهم، وذلك أن فتاوى الخلفاء الراشدين في تكفين الميت أنه يكون في ثلاثة أثواب، حيث كفن أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في ثلاثة أثواب.

وعمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: كفنوا موتاكم في ثلاثة أثواب: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].

يعني: لا تغالوا، يرى أن هذا من الإسراف، كما جاء عند ابن أبي شيبة من حديث راشد بن سعد عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.

وإنما قلنا: إن هذا من قرائن الإعلال أن الخلفاء الراشدين يختلفون عن غيرهم من فتاوى بعض الصحابة وغيرهم، فإذا اجتمع مثل أبي بكر و عمر على مسألة من المسائل وهم المقدمون في مشهد النبي صلى الله عليه وسلم في تكفينه ومعرفة حاله، ثم يقولون مثل ذلك ويفتون به ويكون حالهم على هذا الأمر، ثم تخالفهم رواية، فهذا أمارة على علة تلك الرواية، والعلماء عليهم رحمة الله ربما يعلون الحديث المرفوع بسبب موقوف، بل ربما أعلوا الحديث المرفوع بالمقطوع، وهذا جرى عليه بعض الأئمة: فـأبو داود رحمه الله أعل حديثاً مرفوعاً بمخالفة عطاء؛ لأن عطاء ممن يروي هذا الحديث، ولهذا نقول: إن من قرائن ضعف هذا الحديث مخالفة الخلفاء الراشدين له، ولا أعلم من خالف الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله تعالى في هذا، نعم جاء عن علي بن أبي طالب ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى، وهو أيضاً حديث منكر.

الحديث الخامس: هو حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في سبعة أثواب ).

الحديث هذا أخرجه الإمام أحمد في المسند، وكذلك البزار و ابن سعد وغيرهم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية عن علي بن أبي طالب في تكفين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث حديث منكر، وتفرد به عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه منكر، وهو ضعيف في ذاته سيئ الحفظ، وله مفاريد يتفرد بها عن الثقات لا تقبل، وقد تفرد بهذه الزيادة في كفن النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أثواب.

وقد أعل هذا الحديث البزار رحمه الله في كتابه المسند فقال: ولا أعلم أحداً تابع ابن عقيل عليه، ولم يوافق على روايته هذه.

وهنا مسألة تقدمت الإشارة إليها في بعض المواضع وهي: أن هذا الحديث من رواية أهل البيت فإنه يرويه عبد الله بن محمد عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله.

وهل هو مما يعتبر؟ بعض الأئمة يقول: إن رواية العرب الأقحاح ورواية القرشيين، وبالأخص آل البيت أنها تقدم على غيره، نقول: هذه قرينة وليست دليلاً، نعم، الأئمة عليهم رحمة الله يقدمون رواية العربي على رواية الأعجمي، ويقدمون رواية العربي المدني والمكي على رواية العربي من غير الحجاز، والإسناد الذي يرويه العرب من أول السند إلى منتهاه، أقرب إلى الضبط، والعلة في ذلك: أن العرب جبلوا على الحفظ، فالقضية قضية ضبط سواء كان عربياً أو أعجمياً، ولكن لما كانوا من أهل الحفظ، وتأخرت لديهم الكتابة كان اعتمادهم على الذاكرة أكثر من غيرهم، بخلاف المواضع التي انتشر فيها القلم، فالحفظ لديهم أقل، وهذا أشار إليه الإمام أحمد رحمه الله كما جاء في معرفة علوم الحديث نقله عن الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك ابن عبد البر رحمه الله في بعض المواضع في التمهيد، فربما مر على بعض الأسانيد وقال: وهذا إسناد رواته عرب، يعني: أنهم يضبطون، وأشار إلى هذا المعنى في بعض المواضع الخطيب البغدادي في كتابه التاريخ.

وأما بالنسبة لآل البيت والقرشيين فقد أشار إلى هذا ابن المديني رحمه الله في حديث أبي هريرة في البحر في المغيرة بن أبي بردة فقال: هو من قريش، والإشارة إلى كونه من قريش في روايته لهذا الحديث إشارة إلى نوع ضبط، هنا نقول: في رواية عبد الله بن محمد عن محمد بن الحنفية نقول في مثل هذه الرواية في حال المخالفة: قد جاء ما هو أقوى من هذه القرينة، وذلك ضعف عبد الله بن محمد ، وكذلك أيضاً مخالفته للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تكفينه أنه كفن في ثلاثة أثواب سحولية، ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر، ولا أعلم من صحح هذا الحديث لا من المتقدمين ولا من المتأخرين.

الحديث السادس: هو حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، ونصب عليه اللبن نصباً ).

هذا الحديث أخرجه الدارقطني من حديث الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله، وقد تفرد بهذه اللفظة في أن اللبن نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصباً الدراوردي عن هشام بن عروة وخالف في ذلك الثقات من الرواة عن هشام بن عروة .

فقد خالف في هذا سفيان الثوري ، وعبيد الله بن عمر يروونه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، وليس فيه هذه اللفظة: أن اللبن نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصباً، وإنما غاية ما في حديث عائشة هو كفن النبي صلى الله عليه وسلم لا نصب اللبن عليه.

ومن وجوه النكارة: أن هذا الحديث ذكر فيه كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه نصب اللبن، و عائشة عليها رضوان الله تعالى ليست ممن شهد وضع اللبن، ولكنها شهدت تكفين النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الدارقطني رحمه الله في كتابه العلل لما أورد رواية الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: ( أن اللبن نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصباً ). قال: وهذه رواية ليست محفوظة، يعني: في حديث عائشة عليها رضوان الله، ولو جاءت من غير حديث عائشة ولم يتفرد بها الدراوردي عن الثقات لاحتمل القول بقبولها، ولكن نقول: لم تأت من حديث عائشة وتفرد بها الدراوردي عن الثقات، فإننا حينئذٍ نقول بنكارة هذا الحديث.

الحديث السابع: هو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وزر عليه زراره ).

هذا الحديث أخرجه ابن عدي في كتاب الكامل و الخطيب في كتابه التاريخ من حديث أحمد بن عبيد بن ناصح عن الأصمعي عن ابن عون عن محمد عن أبي هريرة ، وهذا الحديث حديث منكر من جهة المتن، معلول من جهة الإسناد.

أما من جهة متنه: فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميص، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله في الصحيحين وغيرهما.

وكذلك في ذكره للأزرار، أنها زرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من النكارة فإنه لم يرد في الأحاديث.

ومن نكارة هذا الحديث: أنه تفرد به أحمد بن عبيد بن ناصح وليس بالقوي في حديثه.

قال البخاري رحمه الله: منكر الحديث.

يرويه عن الأصمعي وهو صدوق في ذاته، ولكنه ليس براوية للأثر، ولا بفقيه في السنة حتى يدرك مواضع الخلاف، ومواضع الزيادة والنقص، وإن وثقه بعض الأئمة فإنهم يوثقونه في ذاته، وكذلك يوثقونه في بابه، كما وثقه أبو داود رحمه الله، وكذلك ابن معين وغيرهما .

فـأحمد بن عبيد تفرد بهذا الحديث عن الأصمعي عن ابن عون عن محمد عن أبي هريرة .

ومن وجوه النكارة في هذا الحديث تفرد الأصمعي به عن من يشتهر الحديث لو كان عنده، فإن هذا الحديث من حديث ابن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عليه رضوان الله.

ومثل هذا الحديث لو كان عندهم لاشتهر بالرواية، ويكفي في ذلك مخالفته للأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن قرائن الإعلال: أن هذا الحديث أخرجه غير أصحاب الأصول، فأخرجه ابن عدي في كتابه الكامل، وأخرجه الخطيب البغدادي ، وتقدم معنا في بعض المواضع الإشارة إلى أن الأحاديث التي يتفرد بها المصنفون المتأخرون من أرباب المسانيد والمعاجم والتواريخ، وما يتعلق بالأحكام أن هذا يغلب عليها الضعف، ولا يكاد الإنسان يجد فيها حديثاً صحيحاً فضلاً عن ما يصنف عادة للأحاديث الضعيفة والمنكرة، والتي تؤخذ على بعض الرواة وذلك كـابن عدي في كتابه الكامل، وكذلك ما ينفرد به أهل التاريخ كـالحاكم في تاريخه، والخطيب البغدادي و ابن عساكر وأضراب هؤلاء.

فإذا لم يوجد الأحاديث الذي هو من أحاديث الأحكام عند أصحاب المصنفات المتقدمة كأصحاب الأصول: الكتب الستة ومسند أحمد ، ومسند الدارمي وأضراب هذه المصنفات وطبقتها وما قاربها، فالأصل فيه أنه منكر، وكلما علا الحديث منزلة ومعنى عند الأئمة ولم يخرجه الأوائل فإن هذا أمارة على النكارة، وأشرنا إلى هذا المعنى، وضربنا مثالاً بالذهب: الأعمار والأيام التي تمضي من عقود كحال الطريق، والأئمة هؤلاء الذين تمر عليهم السنوات كحال الذين يسلكون هذا الطريق يلتقطون فيه كل ثمين، فحديث مر عليه البخاري ومر عليه مسلم ، ومر عليه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وتيقنت أنهم رأوه ثم تركوه لك، ماذا تقول العامة: لو فيه خير ما عافه الطير، صحيح، وهذا أمر معلوم، فالأئمة النقاد في الحديث والرجال تجارتهم في هذا، فإذا كنت تظن أن هذا الحديث بإسناد مكي أو مدني أو عراقي، وهؤلاء نخلوا هذه البلدان، ثم تركوا لك الحديث بعد مائتين سنة أو مائة وخمسين سنة ثم تقول: وجدت له طريقاً صحيحاً فاجزم أن هذا الحديث منكر، فلو أتاك رجل تعرف أنه من أهل الحرفة والصناعة من أهل الذهب والفضة، ويسير في طريق، ويوجد قطعة كبيرة كيلو من الذهب مر عليها الصيرفي الأول ونظرها ومر عليها الآخر والثاني والثالث تركوها لك، فاعلم أنها زيف ولا يمكن أنهم تركوها لك، وهكذا سائر التجارات في النقدين في الذهب والفضة، في العملة النقدية في التجارة في الصناعة، ولهذا نقول: ما ينفرد به المتأخرون عن المتقدمين مما عظم قيمةً لا تحفل به، وهذا أضراب كتب التاريخ جميعاً الأحاديث التي لها قيمة.

أما ما لا قيمة لها فنظيره كحال اللقطة كحال السوط والعصا والسواك الذي لا ينزل إليه صاحب الهمة العالية، والهمة العالية فيما يتعلق بأحكام الدين والأصول هي أمور الأحكام وغير ذلك، لم ينزل إليها؛ لأن العمر يضيق عن لقط كل شيء، فـالبخاري عمره يضيق عن استيعاب السنة وجمعها، ولهذا يدع منها لا وقت لديه، العمر قصير فيدخل البلدة، فيقال له: فلان لديه أحاديث في غزوة تبوك، وأحاديث تتعلق بكذا وكذا فلا يلتفت إليه؛ يبحث عن الأحاديث الأصول الكبار، ثم إذا وجدت من النوع الآخر فلا بأس بذلك.

نتوقف عند هذا القدر.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.