حديث حول منهج السلف


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فهذه المحاضرة هي بعنوان "حديث حول منهج السلف".

وهي تنعقد في هذا المسجد، مسجد التنعيم بـمكة المباركة، في هذه الليلة -ليلة الثلاثاء- الموافق العاشر من شهر شعبان، من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، فيا أيها الإخوة الحضور من أهل مكة البلد الحرام، وقاطنيها وساكنيها، ويا أيها الحضور الطارئون على مكة، القادمون إليها، السلام عليكم جميعاً ورحمته تعالى وبركاته:

أحبائي يا مهوى الفؤاد تحيةً     تجوز إليكم كل سدٍ وعائقِ

لقد هدني شوق إليكم مبرحٌ     وقرح جفني دافقٌ بعد دافقِ

وأرقني في المظلمات عليكم     تكالب أعداءٍ سعوا بالبوائقِ

فمنهم عدو كاشرٌ عن عدائه     ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادقِ

ومنهم قريب أعظم الخطب قربه     له فيكم فعل العدو المفارقِ

أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً     ولم تطلبوا إلا حقير الدوانقِ

فسدَّدَ في درب الجهاد خطاكُمُ     وجنبكم فيه خفي المزالقِ

أيها الإخوة الأحبة! حديثي إليكم في هذه الليلة ينتظم في سبعة عناوين:

الأول: مقدمات، هذا الحديث ليس محاضرة علمية عميقة دقيقة حول هذا الموضوع الكبير الخطير، موضوع منهج السلف، أو موضوع المنهج، فقد كان أصل عنوان هذه المحاضرة حديث في المنهج، ثم رأى الإخوة الفضلاء المشايخ القائمون على هذه المحاضرة تعديل العنوان كما أعلن، وحسناً فعلوا، فقد أصابوا ما في النفس وما في القلب، فإن المقصود بالمنهج هو المنهج الشرعي، الذي كان عليه السلف، سلف هذه الأمة وأئمتها رضي الله عنهم أجمعين.

فهذا الحديث ليس حديثاً علمياً عميقاً، ولكنه حديث من طرف الذهن، وفي موضوعات نتذاكر فيها ونتباحث، فهو كما يقال: تفكير بصوت مسموع، فما كان منه من صواب فمن الله تعالى وحده، وهو المستحق للحمد، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله منه بريئان وإني أسألكم ما وجدتم من حق فاقبلوه قبولاً حسناً، فأنتم حريون بذلك، وهو به حري، وما وجدتم من خطأ فردوه على قائله كائناً من كان، فإن العبرة بالحق لا بمن قاله.

ثانياً: الحديث عن المنهج أصبح اليوم ضرورة، لأسباب عديدة منها:

اطراد مسيرة الإنسان وانتظامها

أولاً: إن مسألة المنهج مسألة مهمة في اطراد مسيرة الإنسان، سواء أكانت مسيرته العلمية أم العملية، وسواء أكان الإنسان فرداً أم جماعة، بحيث تنتظم مسيرته وَتطَّرِدُ ولا تتذبذب، فأنت تجد بعض الناس له في كل يوم مشية، وله في كل واد منهج وطريق، فهو يهدم اليوم ما بنى بالأمس، ويهدم غداً ما بناه اليوم، لماذا؟! لأنه ليس له منهج واضح ينطلق منه في علمه، فهو يبدأ اليوم بحفظ القرآن، فإذا حفظ من القرآن شيئاً، قال: وجدت الناس قد ذهبوا بعلم الحديث، فترك حفظ القرآن وأقبل على حفظ الحديث، فإذا أخذ منه شيئاً قال: المهم علم الفقه والحلال والحرام، فترك علم الحديث وذهب إلى الفقه، وهكذا يقضي عمره كله يتذوق العلوم، ويتذوق الفنون، ويتذوق المناهج، ويتذوق الطرائق، ولا يخرج منها بطائل.

انضباط الصحوة الإسلامية بمنهج شرعي واضح

إذاً المنهج ضروري أولاً: في اطِّراد مسيرة الإنسان، وانتظامها وانضباطها، وعدم تذبذبها؟

والمنهج مهم ثانياً: لأننا اليوم نعيش صحوة إسلامية شاملة، في كل مجالات الحياة، وفي كل بقاع الأرض، صحوة يعيشها الرجال وتعيشها النساء، صحوة يعيشها الكبار ويعيشها الصغار، صحوة تعيشها بلاد الإسلام كلها، ومالم تكن هذه الصحوة منضبطة بمنهج شرعي واضح، فإنها قد تضيع كما يضيع ماء الأمطار إذا تدفق في الوديان، ثم انطلق إلى الصحاري، فلم ينتفع منه أحد، بل قد تضيع كما تضيع مياه الأمطار، إذا انطلقت إلى المزارع والحقول والمباني، فهدمتها وأغرقتها، وأتت على الأخضر واليابس فيها.

إذاً إن هذه الصحوة الإسلامية تحتاج أن تكون صحوةً بناءةً راشدةً، قويةً مثمرةً ناضجةً، تأتي بالري، وتأتي بالخير، تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويوجه صفها، ويقود خطاها.

تجلية كلمة المنهج

ثالثاً:- ونحن نحتاج إلى المنهج لأننا بحاجة إلى تجلية هذا المعنى، وبيان هذه الكلمة، كلمة المنهج، التي كثر استعمالها الآن دون وضوح في الدلالة، فإنني أكاد لا أعرف كلمة أكثر تردداً على ألسنتنا اليوم من كلمة المنهج، ولكن حينما تسأل أي متحدث، ما هو المنهج؟ وماذا تقصد بالمنهج؟ وماذا تريد به؟ فربما قلَّب عينيه وحملق فيك! وشعر بأنه -فعلاً- بحاجة إلى أن يجلي هذه الكلمة، ويوضح معناها.

أولاً: إن مسألة المنهج مسألة مهمة في اطراد مسيرة الإنسان، سواء أكانت مسيرته العلمية أم العملية، وسواء أكان الإنسان فرداً أم جماعة، بحيث تنتظم مسيرته وَتطَّرِدُ ولا تتذبذب، فأنت تجد بعض الناس له في كل يوم مشية، وله في كل واد منهج وطريق، فهو يهدم اليوم ما بنى بالأمس، ويهدم غداً ما بناه اليوم، لماذا؟! لأنه ليس له منهج واضح ينطلق منه في علمه، فهو يبدأ اليوم بحفظ القرآن، فإذا حفظ من القرآن شيئاً، قال: وجدت الناس قد ذهبوا بعلم الحديث، فترك حفظ القرآن وأقبل على حفظ الحديث، فإذا أخذ منه شيئاً قال: المهم علم الفقه والحلال والحرام، فترك علم الحديث وذهب إلى الفقه، وهكذا يقضي عمره كله يتذوق العلوم، ويتذوق الفنون، ويتذوق المناهج، ويتذوق الطرائق، ولا يخرج منها بطائل.

إذاً المنهج ضروري أولاً: في اطِّراد مسيرة الإنسان، وانتظامها وانضباطها، وعدم تذبذبها؟

والمنهج مهم ثانياً: لأننا اليوم نعيش صحوة إسلامية شاملة، في كل مجالات الحياة، وفي كل بقاع الأرض، صحوة يعيشها الرجال وتعيشها النساء، صحوة يعيشها الكبار ويعيشها الصغار، صحوة تعيشها بلاد الإسلام كلها، ومالم تكن هذه الصحوة منضبطة بمنهج شرعي واضح، فإنها قد تضيع كما يضيع ماء الأمطار إذا تدفق في الوديان، ثم انطلق إلى الصحاري، فلم ينتفع منه أحد، بل قد تضيع كما تضيع مياه الأمطار، إذا انطلقت إلى المزارع والحقول والمباني، فهدمتها وأغرقتها، وأتت على الأخضر واليابس فيها.

إذاً إن هذه الصحوة الإسلامية تحتاج أن تكون صحوةً بناءةً راشدةً، قويةً مثمرةً ناضجةً، تأتي بالري، وتأتي بالخير، تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويوجه صفها، ويقود خطاها.

ثالثاً:- ونحن نحتاج إلى المنهج لأننا بحاجة إلى تجلية هذا المعنى، وبيان هذه الكلمة، كلمة المنهج، التي كثر استعمالها الآن دون وضوح في الدلالة، فإنني أكاد لا أعرف كلمة أكثر تردداً على ألسنتنا اليوم من كلمة المنهج، ولكن حينما تسأل أي متحدث، ما هو المنهج؟ وماذا تقصد بالمنهج؟ وماذا تريد به؟ فربما قلَّب عينيه وحملق فيك! وشعر بأنه -فعلاً- بحاجة إلى أن يجلي هذه الكلمة، ويوضح معناها.

العنوان الثاني: هو حديث عن هذه الكلمة في أصلها الشرعي:

جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم في قوله عز وجل: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] وجاءت -أيضاً- في أحاديث من أشهرها الحديث الصحيح: {تكون فيكم النبوة ما شاء الله تعالى أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله تعالى أن تكون، ثم يرفعها الله تعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً جبرياً، ثم يكون ملكاً عاضاً، ثم يكون فيكم خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت صلى الله عليه وآله وسلم}.

إذاً المنهاج أو المنهج يُعنى بها الطريقة التي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حكم الأمة، فإنه عليه الصلاة والسلام، وإن كان نبياً مرسلاً مؤيداً بالوحي من السماء، إلا أنه كان حاكماً في أمته، يقيم الحدود، ويجبي الزكاة ويوزعها، ويبعث العمال إلى الأمصار، ويأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويعقد العقود، ويقيم الحروب ويبرم معاهدات السلام، كما هو معروف في تفاصيل سيرته عليه الصلاة والسلام.

معنى تكون خلافة على منهاج النبوة

فإذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: { تكون خلافة على منهاج النبوة } فالمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام، زكى الخلفاء الراشدين من أصحابه، أنهم يحكمون بهديه وسيرته بالعدل والإنصاف، والحكم بما أنـزل الله، وعدم التغيير أو التبديل، وهكذا زكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة الراشدة التي تأتي في آخر الزمان على منهاج النبوة، وقد ذهب بعضهم على أن المقصود خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والأقرب والله تعالى أعلم أن الخلافة على منهاج النبوة، قد تكون هي خلافة في آخر الزمان، على يد المهدي الموعود، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، فإنه سكت بعدها مما يدل على أنها آخر الأمر، ونهاية المشوار، وأنها الخلافة التي يجتمع عليها المسلمون، وهذا لا يمنع أن يوجد في تاريخ الإسلام كله، سواء في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أم في من بعده من خلفاء بني أمية، أم بني العباس، أم من بعدهم، أم من يأتي به الله تعالى، أن يكون في الأمة من يحكم بالعدل والقسط، في رقعة محدودة من المكان، أو في حيز محدود من الزمان، فهذا لا مانع منه، بل الظاهر والأقرب والله أعلم، أن ظهور المهدي عليه السلام، لا بد أن يكون له إرهاصات وبشائر ودلائل تسبقه، في هداية الناس وصلاحهم وانتظام أمرهم، ووجود نوع من الخير فيهم، فإن المهدي الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبعث إلى أمة ميتة، ينفخ فيها الحياة، كلا، إنه لا يحي الموتى، ولكنه يبعث إلى أمة قد دبت فيها الحياة، ووجدت فيها الهداية، وهي بحاجة إلى قيادة ربانية، فيختار الله تبارك وتعالى لها برحمته وقوته هذا الرجل الراشد، الذي يقود الأمة في تلك الأزمنة المظلمة، فهذا معنى قوله: { ثم تكون خلافة على منهاج النبوة } يعني على طريقة النبوة، على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه في الحكم بالقسط والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة شريعة الله تعالى في عباده.

كلمة منهج بحسب ما تضاف إليه

والملحوظ أن معنى الكلمة، كلمة المنهاج، سواء أفي الآية الكريمة أم الحديث أو غيرهما، جاء معنىً عاماً غير محدد، فهو يعني الطريقة أو السنة، أو السبيل، أو ما أشبه ذلك من المعاني، إذاً فكلمة المنهج أو المنهاج، هي كلمة عامة مجملة، وهي تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، فحين نقول مثلاً منهاج النبوة، نعني به طريقة النبوة في الحكم والسياسية، كما جاء في الحديث، وحين نقول منهاج السنة، كما في كتاب ابن تيمية رحمه الله تعالى منهاج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والقدرية فإن المقصود الطريقة الواردة في السنة، في أبواب الاعتقاد كلها، في أبواب الإيمان، في أبواب أسماء الله تعالى وصفاته، في أبواب الصحابة رضي الله عنهم، في النبوات، في الإيمان باليوم الآخر، في الجنة والنار، وما أشبه ذلك من أبواب الاعتقاد المفصلة المعروفة، والمقصود بها -أيضاً- المخالفة لما عليه أهل البدع، من الرافضة والمعتزلةوالقدرية، وغيرهم، الذين تنكبوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وخالفوا ما كانوا عليه.

ولهذا كان العلماء يؤلفون كتباً يسمونها كتب السنة، كما في كتاب السنة للإمام اللالكائي، ولـابن نصر المروزي، ولـعبد الله بن أحمد، وللأثرم، ولـابن أبي زمنين وغيرهم، ويقصدون بها تدوين أبواب الاعتقاد، التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتي خالف فيها المخالفون، الذين غيروا وبدلوا.

وهكذا حين نقول: منهاج فلان من الناس، فإن المقصود طريقته وقواعده وأسسه، التي صار عليها في مصنفاته، أو في علمه أو دعوته، فحين نقول: -مثلاً- منهاج الإمام الطبري في التفسير، نفصد بها الأسس التي صار عليها الطبري في تفسيره كتاب الله تعالى، وفي تأليف كتابه العظيم المعروف في ذلك، من الأخذ من القرآن ومن الحديث، ومن أقوال السلف، والسياق بالإسناد، واختيار الراجح، وما أشبه ذلك من القواعد الأساسية الكلية التي صار عليها، وهكذا حين نقول: المنهج الدراسي، أو المنهاج المدرسي، نقصد به المقررات التي يراد من الطلاب أن يدرسوها، في مكان أو زمان، أو مدرسة أو مستوى معين.

إذاً كلمة المنهج كلمة عامة، تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، بل إن هذه الكلمة قد تستخدم في الخير أو في الشر، فأنت تقول: هذا منهج الصالحين، وهذا منهج الضالين، ولهذا قال الشاعر:-

أمامك فانظر أي نهجيك تنهجُ     طريقان شيء مستقيم وأعوجٌ

ألا أيها الناس طال ضريركم      لآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا

إذاً فهو يقول: طريقان ومنهجان، منهج الحق ومنهج الباطل، منهج الهُدى ومنهج الضلال، ومنهج الخطأ ومنهج الصواب، منهج الإيمان ومنهج الكفر، ومنهج التقوى ومنهج الفجور، فكلاهما يسمى منهجاً، وبهذا ندرك أن هذه الكلمة كلمة عامة، تكتسب المعنى بحسب ما تضاف إليه، فإذا قلنا: منهج السلف، كما هو ظاهر في العنوان، فالمقصود الطريقة التي كان عليها السلف رضي الله عنهم، لكن في ماذا؟ في كل شيء، منهجهم رضي الله عنهم في الاعتقاد، في أبواب الإيمان بالله، والأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، منهج السلف الصالح في الإيمان بالدار الآخرة، منهج السلف الصالح في الصحابة، وفي الخلق والسلوك، والعبادة، وفي التعليم، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود به حينئذٍ المنهج والطريقة العامة، التي تحكم كل شئون الحياة، ولا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة، ولا تترك منها شاذة ولا فاذة، فإن السلف الصالح رضي الله عنهم كان منهم من يعقدون مجالس العلم في المساجد، ومنهم من يذهبون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مجالات الحياة، ويحتسبون على الصغير والكبير، وكان منهم من يذهبون إلى ميادين القتال، ويجاهدون في سبيل الله، ويرابطون على الثغور، وكانوا جميعاً مثلاً أعلى، في أخلاقهم مع أهلهم، وفي تعليمهم، وفي عبادتهم، وفي تقواهم وإخلاصهم، وفي دعوتهم إلى الله، في كل أعمال الخير، فهذا هو المنهج الذي كانوا عليه.

فإذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: { تكون خلافة على منهاج النبوة } فالمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام، زكى الخلفاء الراشدين من أصحابه، أنهم يحكمون بهديه وسيرته بالعدل والإنصاف، والحكم بما أنـزل الله، وعدم التغيير أو التبديل، وهكذا زكى النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة الراشدة التي تأتي في آخر الزمان على منهاج النبوة، وقد ذهب بعضهم على أن المقصود خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والأقرب والله تعالى أعلم أن الخلافة على منهاج النبوة، قد تكون هي خلافة في آخر الزمان، على يد المهدي الموعود، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، فإنه سكت بعدها مما يدل على أنها آخر الأمر، ونهاية المشوار، وأنها الخلافة التي يجتمع عليها المسلمون، وهذا لا يمنع أن يوجد في تاريخ الإسلام كله، سواء في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أم في من بعده من خلفاء بني أمية، أم بني العباس، أم من بعدهم، أم من يأتي به الله تعالى، أن يكون في الأمة من يحكم بالعدل والقسط، في رقعة محدودة من المكان، أو في حيز محدود من الزمان، فهذا لا مانع منه، بل الظاهر والأقرب والله أعلم، أن ظهور المهدي عليه السلام، لا بد أن يكون له إرهاصات وبشائر ودلائل تسبقه، في هداية الناس وصلاحهم وانتظام أمرهم، ووجود نوع من الخير فيهم، فإن المهدي الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم لا يبعث إلى أمة ميتة، ينفخ فيها الحياة، كلا، إنه لا يحي الموتى، ولكنه يبعث إلى أمة قد دبت فيها الحياة، ووجدت فيها الهداية، وهي بحاجة إلى قيادة ربانية، فيختار الله تبارك وتعالى لها برحمته وقوته هذا الرجل الراشد، الذي يقود الأمة في تلك الأزمنة المظلمة، فهذا معنى قوله: { ثم تكون خلافة على منهاج النبوة } يعني على طريقة النبوة، على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هديه في الحكم بالقسط والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة شريعة الله تعالى في عباده.

والملحوظ أن معنى الكلمة، كلمة المنهاج، سواء أفي الآية الكريمة أم الحديث أو غيرهما، جاء معنىً عاماً غير محدد، فهو يعني الطريقة أو السنة، أو السبيل، أو ما أشبه ذلك من المعاني، إذاً فكلمة المنهج أو المنهاج، هي كلمة عامة مجملة، وهي تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، فحين نقول مثلاً منهاج النبوة، نعني به طريقة النبوة في الحكم والسياسية، كما جاء في الحديث، وحين نقول منهاج السنة، كما في كتاب ابن تيمية رحمه الله تعالى منهاج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والقدرية فإن المقصود الطريقة الواردة في السنة، في أبواب الاعتقاد كلها، في أبواب الإيمان، في أبواب أسماء الله تعالى وصفاته، في أبواب الصحابة رضي الله عنهم، في النبوات، في الإيمان باليوم الآخر، في الجنة والنار، وما أشبه ذلك من أبواب الاعتقاد المفصلة المعروفة، والمقصود بها -أيضاً- المخالفة لما عليه أهل البدع، من الرافضة والمعتزلةوالقدرية، وغيرهم، الذين تنكبوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وخالفوا ما كانوا عليه.

ولهذا كان العلماء يؤلفون كتباً يسمونها كتب السنة، كما في كتاب السنة للإمام اللالكائي، ولـابن نصر المروزي، ولـعبد الله بن أحمد، وللأثرم، ولـابن أبي زمنين وغيرهم، ويقصدون بها تدوين أبواب الاعتقاد، التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتي خالف فيها المخالفون، الذين غيروا وبدلوا.

وهكذا حين نقول: منهاج فلان من الناس، فإن المقصود طريقته وقواعده وأسسه، التي صار عليها في مصنفاته، أو في علمه أو دعوته، فحين نقول: -مثلاً- منهاج الإمام الطبري في التفسير، نفصد بها الأسس التي صار عليها الطبري في تفسيره كتاب الله تعالى، وفي تأليف كتابه العظيم المعروف في ذلك، من الأخذ من القرآن ومن الحديث، ومن أقوال السلف، والسياق بالإسناد، واختيار الراجح، وما أشبه ذلك من القواعد الأساسية الكلية التي صار عليها، وهكذا حين نقول: المنهج الدراسي، أو المنهاج المدرسي، نقصد به المقررات التي يراد من الطلاب أن يدرسوها، في مكان أو زمان، أو مدرسة أو مستوى معين.

إذاً كلمة المنهج كلمة عامة، تكتسب معناها بحسب ما تضاف إليه، بل إن هذه الكلمة قد تستخدم في الخير أو في الشر، فأنت تقول: هذا منهج الصالحين، وهذا منهج الضالين، ولهذا قال الشاعر:-

أمامك فانظر أي نهجيك تنهجُ     طريقان شيء مستقيم وأعوجٌ

ألا أيها الناس طال ضريركم      لآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا

إذاً فهو يقول: طريقان ومنهجان، منهج الحق ومنهج الباطل، منهج الهُدى ومنهج الضلال، ومنهج الخطأ ومنهج الصواب، منهج الإيمان ومنهج الكفر، ومنهج التقوى ومنهج الفجور، فكلاهما يسمى منهجاً، وبهذا ندرك أن هذه الكلمة كلمة عامة، تكتسب المعنى بحسب ما تضاف إليه، فإذا قلنا: منهج السلف، كما هو ظاهر في العنوان، فالمقصود الطريقة التي كان عليها السلف رضي الله عنهم، لكن في ماذا؟ في كل شيء، منهجهم رضي الله عنهم في الاعتقاد، في أبواب الإيمان بالله، والأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، منهج السلف الصالح في الإيمان بالدار الآخرة، منهج السلف الصالح في الصحابة، وفي الخلق والسلوك، والعبادة، وفي التعليم، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن المقصود به حينئذٍ المنهج والطريقة العامة، التي تحكم كل شئون الحياة، ولا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة، ولا تترك منها شاذة ولا فاذة، فإن السلف الصالح رضي الله عنهم كان منهم من يعقدون مجالس العلم في المساجد، ومنهم من يذهبون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مجالات الحياة، ويحتسبون على الصغير والكبير، وكان منهم من يذهبون إلى ميادين القتال، ويجاهدون في سبيل الله، ويرابطون على الثغور، وكانوا جميعاً مثلاً أعلى، في أخلاقهم مع أهلهم، وفي تعليمهم، وفي عبادتهم، وفي تقواهم وإخلاصهم، وفي دعوتهم إلى الله، في كل أعمال الخير، فهذا هو المنهج الذي كانوا عليه.

العنوان الثالث: الكلمة المظلومة، إنه لا يكاد يضاهي هذه الكلمة كلمة أخرى في ترددها على الألسن، ألسن الكبار والصغار، ألسن العلماء وغير العلماء، المختصين وغير المختصين، حتى إنك تجد الكثيرين يرددون هذه الكلمة، وكأننا حين نرددها نريد أن نعوض بهذا الترديد عن الشعور بالحاجة إلى ضبط المسير، فكلنا متفقون على ضرورة تصحيح المسير، وضبط الخطوات، والمراجعة والانضباط، وعدم التردد أو التذبذب، أو تكرار الأخطاء التي وقع فيها غيرنا، ولكن الكثيرين ربما يحتاجون إلى مزيد من التوجيه في هذا.

الترديد وحده لا يكفي

يظن بعضهم أن مجرد ترديد كلمة المنهج يغني في هذا، والواقع أنه لا يغني، فنحن -أحياناً- مثل المريض الذي يذهب إلى الطبيب فيقول له الطبيب: بإمكانك أن تشتري نوعاً من الدواء -وليكن إسبرين- فبدلاً من أن يتعاطى هذا العلاج ويشتريه، فإنه يلجأ إلى ترديد هذه الكلمة أسبرين، إسبرين، اسبرين، ويظن أن هذا الترداد ربما شفاه من الصداع.

وأحياناً نردد هذه الكلمة وكأننا نعوض بها عن فقد الدليل الشرعي، فإن الجميع متفقون -أو يجب أن يكونوا متفقين- على أن العبرة ليست بكلام فلان، مهما كان قدره أو منـزلته أو علمه أو جاهه أو مكانته الواقعية أو التاريخية، وإنما العبرة بالدليل، قال الله، قال رسول الله، أو بإجماع علماء هذه الأمة، فإذا لم يكن لدي دليل صريح صحيح، فإنني قد أزين هذا المنهج، وأزركشه لأحتمي به، وربما أحاول أن أجعل كلمةً لشخص ما، من السابقين أو اللاحقين، ولو كان إماماً أو حجة، فضلاً عن أن يكون شخصاً عادياً، ربما أحاول أن أجعل هذه الكلمة دليلاً، كيف أجعلها دليلاً وهي كلام بشر؟! يحتاج إلى أن يستدل له، لا أن تستدل به، أحاول أن أجعلها دليلاً، فحين أربطها بكلمة المنهج، فأقول: المنهج كذا، ولهذا قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، ثم أظن بذلك أنني صنعت شيئاً، ولا أدلَّ على كون هذه الكلمة مظنونة مظلومة، من حديث مثلي عنها في هذا المجال، والله تعالى وحده هو المستعان.

لا مشاحة في الاصطلاح

نعم إن الاصطلاح أمر سائغ فبإمكانك أن تصطلح كما تشاء، وكما يقول العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح، يعني أي طائفة من الفقهاء، أو الأصوليين، أو المفسرين، أو المؤرخين، أو علماء الاجتماع، أو علماء النفس، أو غيرهم، فبإمكانهم أن يتفقوا على مصطلحات معينة في علمهم، تعبر عن بعض المعاني التي تتكرر لضمان عدم التكرار، ولما أشبه ذلك، فهذا أمر لا بأس به، بل لا يوجد علم أبداً إلا وبه مصطلحات خاصة بأهله، يتداولونها فيما بينهم، وقد يتداولها الناس، ولكنها تظل مصطلحات لا تتحول إلى شريعة ملزمة، ولا تتحول إلى نص واجب الاتباع على كل أحد، ولا تتحول إلى دعوة قائمة، لا يسع أحد أن يخالفها في حال.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع