أصحاب الأخدود[1، 2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

روى الإمام مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر. فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.

وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر، وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. ورماها بحجرٍ فقتلها.

فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ. وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة، وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني!

فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك. فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره. فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي. قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين. فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء!

فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى. فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا. فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه.

وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا. فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل، فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت. فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو.

فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟

قال: كفانيهم الله بما شاء.

فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه.

فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.

فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟

قال: كفانيهم الله بما شاء. ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به.

فقال له: وما ذاك؟

قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.

فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام، وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام. فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات.

فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.

فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا.

قال: فماذا نفعل؟

قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار، فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها، حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).

الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن، ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض، ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع، وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل، ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء.

فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك.

أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين.

وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلم بالعبد في العقيدة.

فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم.

كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك، سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا. سواءً كان الإمام البخاري ، أو الإمام أحمد ، أو الإمام الشافعي .

ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق، ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً.

فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري، المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112].

هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس.

قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب. فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب، وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي ، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.

لما رأى الغلام الراهب مال إليه؛ لأنه سمع كلامه فأعجبه، وكلام الراهب إنما هو من الوحي، وقيل له: هذا وحي؛ لأنه يمس القلب، فصار الغلام يطيل الجلوس عند الراهب، فإذا جاء إلى الساحر متأخراً ضربه، والساحر يريد أن يستوفي وقت التعليم، وإذا تأخر الولد في الرجوع إلى أهله ضربوه، فيُضرب هنا وهناك، فشكا ذلك إلى الراهب الذي صار محل سره، فقال له الراهب: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.

هذا النوع من الكذب جائز، قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها-: (ثلاث من الكذبِ لا أعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب) .

هذه الثلاثة الأنواع جائزة وبعضها واجب، مثل: كذب الرجل في الحرب؛ فإنه يأثم إذا صدق، قالوا له مثلاً: أين مطاراتكم؟ أين مواقعكم؟ فإذا قال الحقيقة أثم.

الكذب على الزوجة

كذب الرجل على امرأته: يعني فيما لا يجب الوفاء به، مثل: أن يأخذ مهرها أو يأخذ مالها ثم يقول: سنفعل مشروعاً، ثم سآتي لك بالأرباح، وهو يكذب لكي يأخذ المال! فهذا لا يجوز، ولا يحل له أن يكذب عليها ليذهب بحقها، ولكن الكذب المنصوص عليه في الحديث إنما هو فيما لا يجب الوفاء به؛ مثل إظهار المودة والمحبة القلبية.. ونحو ذلك.

والمفروض على الرجل ألا يخبر امرأته أن الكذب عليها جائز، لكي يستطيع أن يتصرف، لكن إذا قال لها ذلك، فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً، فكلما بدأ بالكذب عليها قالت له: إنك تأخذ أجراً على هذا الكذب، فلم يستفد من رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.

الكذب على المرأة فيما يتعلق بالمحبة والمودة جائز، كأن يظهر لها أنه يحبها وأنه يعزها، وأنها في سويداء القلب، فهذا مستحب.. لماذا؟ لأن الحياة تصلح بذلك، فهذا هو الكذب الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

الكذب للإصلاح بين الناس

النوع الثاني من الكذب: كذب الرجل ليصلح بين المتخاصمين.

فلو اختصم رجلان، فذهبت إلى أحدهما وقلت له: كنت عند فلان فذكر فضائلك ومحاسنك. وقال: فلان -جزاه الله خيراً- لا أنسى جميله علي.. ونحو ذلك، وذهبت إلى الآخر فقلت له نفس الكلام، فهذا مستحب، وتؤجر عليه إن فعلته.

الكذب في الحرب

والنوع الثالث: كذب الرجل في الحرب.

وهو النوع الذي أوصى الراهب الغلام به؛ لأنه في حرب مع الملك كما سمعتم.

فهذه الأنواع الثلاثة من الكذب جائزة.

كذب الرجل على امرأته: يعني فيما لا يجب الوفاء به، مثل: أن يأخذ مهرها أو يأخذ مالها ثم يقول: سنفعل مشروعاً، ثم سآتي لك بالأرباح، وهو يكذب لكي يأخذ المال! فهذا لا يجوز، ولا يحل له أن يكذب عليها ليذهب بحقها، ولكن الكذب المنصوص عليه في الحديث إنما هو فيما لا يجب الوفاء به؛ مثل إظهار المودة والمحبة القلبية.. ونحو ذلك.

والمفروض على الرجل ألا يخبر امرأته أن الكذب عليها جائز، لكي يستطيع أن يتصرف، لكن إذا قال لها ذلك، فقد فوت على نفسه خيراً كثيراً، فكلما بدأ بالكذب عليها قالت له: إنك تأخذ أجراً على هذا الكذب، فلم يستفد من رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.

الكذب على المرأة فيما يتعلق بالمحبة والمودة جائز، كأن يظهر لها أنه يحبها وأنه يعزها، وأنها في سويداء القلب، فهذا مستحب.. لماذا؟ لأن الحياة تصلح بذلك، فهذا هو الكذب الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

النوع الثاني من الكذب: كذب الرجل ليصلح بين المتخاصمين.

فلو اختصم رجلان، فذهبت إلى أحدهما وقلت له: كنت عند فلان فذكر فضائلك ومحاسنك. وقال: فلان -جزاه الله خيراً- لا أنسى جميله علي.. ونحو ذلك، وذهبت إلى الآخر فقلت له نفس الكلام، فهذا مستحب، وتؤجر عليه إن فعلته.

والنوع الثالث: كذب الرجل في الحرب.

وهو النوع الذي أوصى الراهب الغلام به؛ لأنه في حرب مع الملك كما سمعتم.

فهذه الأنواع الثلاثة من الكذب جائزة.

وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة، فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة. فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية.

ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك، فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛ لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق.

كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار، فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد.

فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.

بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء، فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة، وفي هذا دليل على ما ورد في بعض الآثار، ولكن فيه نزاع والراجح ضعفه، والذي قال فيه: (إن الهدية تسل سخيمة الصدر).

فهذا الرجل جاء بهدايا عظيمة، وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.

فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.

هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل:راقب كلام الغلام! ولاحظ دقته في التعبير! قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك. فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.

فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع، وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك، فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.

ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر...) وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.

أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال: (قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).

فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.

قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا. قال أنس : وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة) .

وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) فكان حول المدينة مطر وفوقها شمس.

وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم ؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة. واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة) .

والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.

قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.

قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-. أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرف رب العالمين للناس، فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81].

فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:81] لم يقل: (هو)، والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.

والهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.

فلما التبس الأمر بين العبد وربه قال: (هو) أي: لا غيره، هو لا غيره الذي يشفيني، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79] من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني. نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع، ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب، وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها.. لا، الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.

يقول: إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79] هو الذي يشبعني، كما في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد. فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك، وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) .

فلما التبس هذا الأمر أكده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

(وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).

ثم قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] انظر إلى الأدب! نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه، وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله، كما قال العبد الصالح: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه، ولما ذكر التفضل قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا [الكهف:82].

نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى، فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.

مرةً سمعت خطيباً يقول: وقد بلَّغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان رب العالمين!!

هل الله سبحانه وتعالى له لسان؟! هل يجوز أن يقول الإنسان هذا في جنب الله تبارك وتعالى؟! صفات الله عز وجل إنما تتلقى بالسمع، وليس بالاجتهاد، لا يحل لك أن تأتي بصفةٍ لم تجدها في القرآن ولا السنة وتنسبها إلى الله عز وجل؛ لأن بعض الصفات قد تكون عندنا -معاشر المخلوقين- صفة كمال، لكن هي عند الله صفة نقص.

شخص وضع مذكرة عرض للقرآن الكريم، ثم لما وصف السموات والأرض، ووصف خلق السموات قال: إن الله عز وجل هو المهندس الأعظم!!

هل يليق هذا الكلام؟ أين هو من قول الله عز وجل: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، انظر الفرق! بديع: ابتدعهما على غير مثال سابق. صفات الله عز وجل لا يجتهد فيها إنما تتلقى بالسمع، فما لم يأت به القرآن، ولم يتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لنا أن ننسبه إلى الله تبارك وتعالى، وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].

كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني. وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل، اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.

أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب. فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر.. صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه. ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان. قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.

كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز، وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.

حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟! أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله، فلذلك أثبته بهذا الضمير: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].

ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.

لما عرض الغلام المسألة على جليس الملك احتار، وأنت تعلم أن من أشد ما يبتلى به الإنسان العمى، ولذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إذا ابتليت عبدي بأخذ كريمتيه فصبر؛ لم أجد له جزاءً إلا الجنة) .

وقال في اللفظ الآخر: (بأخذ حبيبتيه)؛ لأنه لا يحب الدنيا إلا بهما.

الأعمى يتساوى عنده الدر الثمين والشيء المهين، والثوب المرقع والثوب الجديد؛ لأنه لا يحب الدنيا إلا بعينيه؛ لذلك سماها حبيبة، وسماها كريمة؛ لأنها تكرمه، فالأعمى لا يستطيع أن يعبر الشارع حتى ينادي الناس، والحاجة إلى الناس ذُل، ولذلك فإنه يكرم نفسهُ إذا كان صحيحاً، فكان البلاء بفقد العينين عظيماً، وكان الجزاء أيضاً على الصبر عظيماً، قال: (لم أجد له جزاءً إلا الجنة).

فلما قال له: (آمن بالله يرد عليك بصرك)، آمن الرجل.

بعض الصحفيين يعيرون شباب الصحوة، فيقولون: إن تدين هؤلاء مغشوش.

لماذا مغشوش؟

قال: لأنهم ما آمنوا إلا لأنهم فقراء.

سبحان الله! رجل وقع في ورطة فعلم أنه لا نجاة له إلا من الله، فرجع إلى الله، ما الذي يعيبه في هذا الموضوع؟ مثلاً: افتقر فعلم أن الله هو الذي يغنيه فرجع إلى الذي يغنيه.

لما رد الله على جليس الملك بصره دخل على الملك وما كان أحد يقوده، فهال الملك ما يرى، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال له: ربّي. فقال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، الله ربي وربك ورب العالمين، فأمر بتعذيبه.

صفات الوفاء والإخلاص وحفظ الجميل ليست عند هؤلاء، خلت قواميس هؤلاء من مفردات الوفاء، هذا صاحبك وحبيبك وتقعدون مع بعض! ومع ذلك فمع أول مخاصمة وأول نشوز عذبه!

أنا قرأت قصة عجيبة في كتاب "الطريق إلى المنصة" يقول:

كان هناك تاجر موبيليا شهير، وكان مرافقاً للمشير عبد الحكيم عامر ، وكان هذا المشير عندما يريد أن يقضي ليلة من الليالي مع امرأة، كان يذهب ويأتي به ويجعله في غرفة بجانبه! وكان هذا يصور المشير دون أن يعلم بذلك، لكي يستخدم الصور عند الضرورة، فصور المشير عدة صور وهو في هذه الأوضاع المخلة، فضاعت صورة من الصور، فقالوا: لا يوجد غير فلان الذي يمكن أن يأخذها، فذهبوا فأتوا إليه الساعة الثالثة ليلاً وأخذوه، قالوا له: أين الصورة؟ قال: أي صورة؟! أنا لا أعرف شيئاً. فقالوا له: ستعترف رغماً عن أنفك. فعذبوه، وكان آنذاك موجوداً في السجن مع الإخوان المسلمين.

المهم أنهم حبسوه مع هؤلاء، وكان يتحدث معهم عن بعض الأشياء التي رآها، قال: رأيت بعيني منظراً عجيباً لا أنساه، يقول: رأيتهم أخذوا رجلاً وقيدوا يديه ورجليه، ثم ربطوه بسلسلة طويلة إلى فرس وعلى الفرس فارس، وكان هذا الفارس يجري بالفرس بأقصى سرعة.

المهم، قال: بعد ما يقرب من خمس دقائق فكوا رباطه والرجل كله دم، فقلت لهم: الحمد لله، أنا تبت ورجعت إلى الله.

فكان هذا سبب التزامه؛ لأن بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.

انظر إلى الملك كيف يقطع الأرحام! ولا يبقي وداً بين والد وولد، ولا بين رجل وأخيه.

قال الملك لجليسه بعد ذلك: هل لك ربٌ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.

قال: فما زال يعذبهُ حتى دل على الغلام.

هناك كلمة قالها الراهب للغلام عندما قتل الدابة، وصار له صيت، قال له: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.

استفدنا من هذه الوصية هذه ثلاثة أشياء:

الشيء الأول: تواضع الأستاذ، يقول: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني.

حسناً: فما هو فضل الغلام على الراهب؟! فضل الغلام أنه صغير السن، ومع ذلك قام بالدعوة إلى الله عز وجل، لكن الراهب ما استطاع أن يقوم بذلك، فهذا يدلنا على أن فضل العلم في نشره، وكلما نشرت العلم كلما يصير لك خصم؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا بريحه، لو أن إنساناً لديه زجاجة عطر ووضعها في جيبه لا يستفيد هو ولا غيره بها؛ لأنه لا يستفاد من العطر إلا إذا فاح، مثل العلم.

مرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بينما هو يتفقد الزكوات دخل إلى حجرة العطور، فأول ما دخل حجرة العطور أمسك أنفه، فقالوا له: إنما هو ريح -هواء-. فقال لهم: وهل ينتفع به إلا بريحه، وهذا عطر المسلمين، لله دره رضي الله عنه!

الفائدة الثانية: قال: (وإنك ستبتلى).

فهذا يدلك على أن الذي يدعو إلى الله عز وجل لابد أن يبتلى بأي بلاء دق أو جل، ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من غار حراء ليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك.

فقال: أومخرجي هم؟

قال: ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي.

سنة لا تتغير (ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي).

إذاً: العداء لدعوة الرسل جزءٌ لا يتجزأ منها: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251].

فلا تطمع أن ينفك أعداء الله عنك.

الفائدة الثالثة: فإذا ابتليت فلا تدل علي.

وفي هذا دليل على أنه لا يجوز للعبد أن يلقي بنفسه إلى التهلكة، لكن إذا كان الأمر لا ينفك عن أذاه ولا مناص إلا من هذا البلاء ليبلغ الدعوة فعليه أن يفعل.

مثل المشقة: بعض الناس يفهمون المشقة والأجر والرابط بينهما خطأً، مثلاً: رجل معه مال وأراد أن يحج وله القدرة على ركوب الطائرة ولكنه قال: أركب السيارة؛ لأن المشقة فيها أكثر، فهل يؤجر على هذا؟ لا.. لماذا؟ لأن ديننا نفى المشقة، والله عز وجل قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

متى تؤجر على المشقة؟ إذا كان العمل لا ينفك عن المشقة، لا حيلة لك، عندما لا تملك المال الكافي لركوب الطائرة فتذهب بالسيارة فتتعب في سفرك، هذه هي المشقة التي قصدها الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال لـعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك) .

كذلك لا يجوز للمسلم أن يقصد البلاء قصداً، إنما يتحاشاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو) ، مع أن لقاء العدو هو الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولو مات المرء في الجهاد كان شهيداً، برغم أن الجهاد يوفر لك كل هذه المزايا، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تتمنوا لقاء العدو) ، لماذا؟

لأنك لا تدري إذا لقيت العدو أتثبت أم تفر؟ والفرار من الزحف إثمه كبير جداً، وقد يدرك المرء جراحة من الجراحات فيقتل نفسه كما فعل بعض الناس، قتل نفسه بسبب الألم الذي ما تحمله، فأنت لا تدري ما يفعل الله بك، فلا تتمنى البلاء، هذا هو معنى الكلام.

فهذا الراهب العالم يؤدب الغلام، قال: إن ابتليت فلا تدل عليَّ. ليست من الشجاعة أن تقول: أنا في المكان الفلاني، وليس من العيب أن تهرب.

سفيان الثوري رحمه الله مات هارباً في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي وكان يحيى بن سعيد القطان حاضراً وكلاهما من شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فكان سفيان يحتضر ورأسه في حجر عبد الرحمن ، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وقد بكى بكاءً شديداً قبل موته فقال له عبد الرحمن : ممّ تبكي؟ أتخاف من ذنوبك؟

فتناول الثوري رحمه الله حفنة من على الأرض، وقال: لذنوبي أهون عليَّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة.

وقال له يحيى بن سعيد القطان : لم تبكي؟ ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟!

لماذا تبكي وأنت قادم إلى الذي كنت تعبده، وأنت هارب من أجله وطفت الدنيا تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتبلغ كلام الله عز وجل؟ هذا الذي نصرت له وصبرت له أنت قادم عليه، من حقك أن تفرح.

فلما قال له ذلك: سكن.

فلا يحل لإنسان أن يقصد البلاء قصداً، ولذلك قال له: إن ابتليت فلا تدل عليّ.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أصحاب الغار 3 1179 استماع
أصحاب الغار 1 1104 استماع
أصحاب الأضرحة 1070 استماع
أصحاب الغار 2 404 استماع