البدعة وآثارها في محنة المسلمين [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.. من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقبل أن نشرع في الرد على محسني البدع نذكر مقدمة ضرورية بين يدي هذا الرد، وهذه المقدمة تتمثل في التنفير من البدعة وذكر مساوئها، وهذه طريقة قرآنية..

إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن ينفر من النار ذكر شيئاً من عذاب أهل النار، وإذا أراد أن يرغب في الجنة ذكر بعض نعيم أهل الجنة، وذلك لأن النفوس تتشوق إلى ذلك.

إن العبد إذا علم شر منقلب أهل البدع، لم يلجأ إلى التأويل الذي تأوله أهل البدع، إنما نريح أنفسنا بذكر هذه المقدمة، لأن الموضوع إذا نوقش فيه بطريقة الجدل النظري لا نصل فيه إلى نتيجة، إذاً: لا بد من دخول المعنى الإيماني في المناقشة، ليست المسألة نظرية بحتة كما يفعل أهل البدع في النقاش، إنما نتكلم عن خير الهدي، وخير الهدي من أعظم الخوارم فيه: البدع.. إذاً: لا بد من دخول المعنى الإيماني أثناء المناقشة.. ولا يكون هذا إلا بذكر سوء منقلب أهل البدع.

صاحب البدعة عمله مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وأصحاب البدعة يدخلون دخولاً أولياً في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] وذلك لأن صاحب البدعة ليس معه برهان من الله ورسوله على الذي يفعله.. شيء استحسنه ففعله، والبرهان لا بد أن يكون كاملاً؛ لأن أصحاب البدعة الإضافية يحتجون بالأصل على الوصف، فأخذوا جزءاً وتركوا جزءاً آخر، لذلك لابد أن يكون البرهان كاملاً وشاملاً حتى يشفع لصاحبه في العمل، كل أصحاب البدع يظنون أنهم يحسنون صنعاً، والباب الذي ولجوا منه هو زيادة التعبد لله تبارك وتعالى بالبدعة.

وتعريف البدعة كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تبارك وتعالى.

فقوله: (في الدين): أخرج بمفهومه الدنيا، حتى لا يعترض بالسيارات والطائرات والقاطرات والصواريخ؛ لأن هذه كلها تعتبر بدع، إذ أنها لم تكن موجودة ثم وجدت، وهذا هو معنى البدعة اللغوية، كما قال تبارك وتعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] أي: ما أنا بأول رسول أرسلت، بل أرسل قبلي.

فقوله: (طريقة في الدين) حتى لا يعترض أهل البدع بأشياء محدثة في الدنيا، فكلما جادلناهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).

وقوله: (مخترعة) أي: ليس لها برهان، ولا دليل شرعي، أي: فيها شبه من الأدلة الشرعية، فالذين يذكرون الله عز وجل عن طريق التمايل يمنة ويسرة، أصل الذكر الذي يفعلونه مشروع، لكن الطريقة التي يفعلونها غير مشروعة.

ما هو مقصود المبتدع؟ إننا لا نزعم أن المبتدع يريد أن يغير دين الله، لا. بل هو يريد بهذا أن يتقرب إلى الله أكثر، لكن هل شفعت له نيته هذه؟

الجواب: لا. كما يقول الناس: (طريق جهنم ملآن بالنيات الصالحة).. وأجود من هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه (كم من مريد للخير لا يبلغه..) لأننا كنا ضلالاً فهدانا الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا التمسنا الخير في غير طريقه ضللنا.. إذا كل خير لم يكن من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من الخير وإن ظنناه كذلك، فما من مبتدع إلا وهو يريد أن يتقرب إلى الله تبارك وتعالى ببدعته .. فهو يظن أنه أحسن الصنيع بهذه القربى.

الخادم الذي يخدم المقبور هل قصد أن يخرج بدينه من ذلك؟

الجواب: لا. هل يظن أنه مأجور على ذلك؟!

الجواب: نعم.. لذلك هو يبالغ في تنظيف الضريح وبالعناية به على اعتبار أن هذه خدمة لأولياء الله، ويلبس عليه الشيطان فتاوي الخدمة لهذا المقبور مع الخدمة للعلماء الأحياء، يقول: لو أن عالماً جليلاً خدمته كنت مأجوراً على ذلك، فأي فرق بين أن تخدم ولياً من أولياء الله وعالماً من علماء المسلمين؟! إذا هو يظن أنه يحسن الصنع بهذه الخدمة، لذلك إذا قلت له: لا تخدم الضريح لأن هذا لا يجوز، ما ترك خدمة الضريح أبداً، لأنه يعتبرها ديناً وقربة إلى الله، وهذا كما لو قلت لعالم من علماء المسلمين: دع تعليم الناس، يقول: لا أدع تعليم الناس أبداً، إنه قربى إلى الله عز وجل، فهذا هو معنى الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [الكهف:103] وجاء لفظ (الأخسر) بصيغة المبالغة إذ ليس هناك من هو أخسر من هذا الإنسان؛ لأن طرق الرجعة كلها مسدودة بالنسبة لهذا الإنسان لاعتقاده أنه يتقرب إلى الله، فإذا زجرته ظن أنك تريد أن تسحبه من طريق الله عز وجل؛ لذلك كان ذلك أدعى له أن يستمر، ولذلك كان أخسر الناس، وهذه الآية حجة على أن المبتدع أخطر من العاصي، لأن العاصي يعلم ولو بنسبة جزئيةٍ ضئيلة أنه ليس على الحق، والله تبارك وتعالى لما خلق الناس جعل في أنفسهم ضميراً، ولذلك تجد الرجل الجاهل الذي لا يدري شيئاً يأتي ليسأل عن شيء في صدره، وهو لا يعلم أحلالٌ أم حرام؟ فما الذي أهاج فيه هذا السؤال؟

هذا الضمير، الذي هو داعي الله في نفس كل مؤمن -كما قال عليه الصلاة والسلام- فما من معصيةٍ إلا والعبد يعلم أنها معصية سواء علماً كلياً أو جزئياً، لذلك يمكن أن يرجع من معصيته إذا وجد رجلاً قوياً خاطب فيه محل الإيمان، بخلاف العاصي المبتدع الذي يتعبد الله ببدعته، ومن أظهر الدلائل على التفريق بينهما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم : أن رجلاً اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشرب الخمر، وشربها أكثر من مرة، وحد أكثر من مرة، فجيء به مرةً وهو سكران، فأقام النبي عليه الصلاة والسلام عليه الحد، فقال رجلٌ بعدما أقيم عليه الحد: اللهم العنه، ما أكثر ما يجاء به وهو سكران! وفي رواية: ما أكثر ما جلد!

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فقد علمتُ أنه يحب الله ورسوله) وهذا عاص شارب للخمر، فقد يجتمع حب الله ورسوله والعصيان في نفس رجل؛ لأن المعصية قد يكون أساسها الهوى، وليس استمراء المخالفة.

إن كثيراً من العاصين يعصون الله عز وجل بسبب ضعف عزائمهم، أو ضعف إيمانهم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً في البخاري ... قال: (جاء رجلٌ شرب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اضربوه، قال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال رجلٌ: اللهم العنه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تعن الشيطان على أخيك)، فهذا عاص، وكف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يلعنه، وقال: (لا تعن الشيطان على أخيك).

خذ على الجانب الآخر المبتدع حديث ذي الخويصرة لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعدل فإنك لم تعدل!! فقال: (ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، فقال رجلٌ: ألا أقتله يا رسول الله؟ قال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) هؤلاء هم المبتدعة، وهذا جد الخوارج الذين كفروا الصحابة وخرجوا عليهم، فانظر كيف قال فيهم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) أي: لأشرعن في قتلهم قتلاً ذريعاً كما قتل الله قوم عاد، وهذه مبالغة في تقتيلهم، ومعلوم أن دم المسلم معصوم لا يهدر إلا من الدين، فما الذي أهدر دم هذا الرجل؟ إنها البدعة.

انظركيف تكلم عن أهل المعاصي وأثبت ما أثبت في الله ورسوله مع وجود المعصية، وانظر كيف قال في أهل البدع.

ثم أصحاب البدع يحملون أوزارهم وأوزار الذين أضلوهم، كما قال تبارك وتعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] إن المبتدعة ليس عندهم علم ولا برهان، وإنما هو استحسان، شيءٌ ظنه قربة إلى الله عز وجل؛ لذلك نخرج من هذا بالقاعدة المعروفة عند أهل السنة: إن الزيادة في الخير ليست خيراً إلا أن تكون مشروعة، وعلى هذا يخرّج كلام الإمام القرطبي عندما استنبط من قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] فقال: ذم الله الذين ابتدعوا الرهبانية؛ لأنهم ما استمروا عليها، فلو أنهم استمروا عليها ما ذمهم، ورددنا على هذا المعنى، لكن قال القرطبي : إن الذي ينوي خيراً لا بد أن يتمه.

نقول: إن الذي نوى خيراً بشرط أن يكون مشروعاً دون اللغو فيه، لأننا نقول في بدء كل خطبة: خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إن المبتدع نصب نفسه نداً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يقول بلسان الحال أو بلسان المقال: إن الشريعة ما تمت، لذلك ينبغي أن نضيف شيئاً لتتميمها، وكفى به خسراناً مبيناً أن ينصب نفسه نداً للرسول عليه الصلاة والسلام!

ثم إن المبتدع لا تقبل توبته حتى يدع بدعته: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله احتجر -وفي رواية-: احتجز التوبة عن صاحب كل بدعةٍ حتى يدع بدعته) رواه الإمام الترمذي وحسنه.

ولو لم يكن في الترهيب من البدعة غير هذا الحديث لكان كافياً؛ لأنه يعبد الله عز وجل من تلقاء نفسه بغير برهان، فكأنما لم يعبد الله بشيء.

وأضف إلى ذلك أن صاحب البدعة محرومٌ من شربة الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليردن أقوامٌ على حوضي أذودهم عنه). أي: أدفعهم، وفي رواية: (ليذادن أقوامٌ عن حوضي فأقول: رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقا)، أي: بعداً لكم.

وهذا الحديث: احتج به الرافضة -وهم الشيعة الموجودون في إيران وغيرهم- على فسق جميع الصحابة واستثنوا علي، والمقداد، وحذيفة، وعماراً، وسلمان، فهل المقصود بهؤلاء: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

هناك جوابان لأهل العلم:

الجواب الأول: أن المقصود بقوله: (أصحابي) هنا، هم أهل الردة الذين منعوا الزكاة وحاربهم الصحابة.

وهناك جوابٌ آخر أقوى: وهو أن لفظ (الصاحب) لا يشترط فيها المصاحبة الفعلية الحسية، بل تشمل المصاحبة ولو باتفاق المذهب مع اختلاف الزمان، ألا ترى أن أي شافعي الآن، أو حنبلي يقول: وهذا قول أصحابنا، مثلاً: كـأبي يعلى ، وابن الجوزي ، وابن عقيل ، والمروذي ، ولا يزال أصحاب المذاهب يقولون: وهذا قول أصحابنا أمثال فلان وفلان، وبينه وبين الذي سماه مئات السنين، صار صاحباً له في الطريقة، وإن لم يصطحبا حقيقةً، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي) أي: الذين آمنوا به واعتنقوا دين الإسلام، وإن تباعد بهم الزمان، وإنما أقول هذا التوضيح حتى لا يلتبس في ذهن أحدٍ.

والحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وددنا لو أنا رأينا إخواننا، فقالوا: يا رسول الله! أولسنا إخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواني أقوامٌ يأتون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني) فمن الممكن أن يقول بعض الناس: هؤلاء هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ونفى أن نكون أصحابه نحن معاشر المتأخرين، بل نحن إخوانه، فيقول: إذاً قوله: (أصحابي أصحابي) يدل على الصحابة.

نقول: لا. إن لفظ (الصاحب) يطلق على المعاشرة الحقيقية، وعلى الموافقة في المذهب، وإن لم تكن هناك معية ذاتية؛ لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي) أي: الذين اعتنقوا دين الإسلام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.

فصاحب البدعة محروم من شربة الحوض؛ ثم إن صاحب البدعة ملعون لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث فيها - أي: في المدينة- أو آوى مُحْدِثاً -والـمُحدث: المبتدع- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

ثم إن صاحب البدعة مردود الشهادة باتفاق العلماء؛ لأنه مخروم العدالة، فأي شيء بقي للمبتدع؟! ما بقي له دينٌ ولا دنيا؛ لذلك ينبغي للمسلم إذا أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل أن يسأل أهل العلم، هل الذي سأفعله قربة إلى الله تبارك وتعالى أم لا؟!

ربما يسأل سائل فيقول: إن العوام يسألون من ليسوا من أهل العلم؛ فيحسنون لهم البدع، أعليهم وزرٌ في ذلك؟ لأن غالب القرى والأرياف المسيطرا عليها قديماً ولا زال فيها فلول الصوفية، فيحسنون لهم البدعة؛ فهل هؤلاء العوام عليهم وزرٌ في ارتكابهم لهذه البدع؟

نقول: إن الرجل إذا ظن في رجلٍ أنه من أهل العلم وهو جاهلٌ بسمت العالم، لكن بذل وسعه في البحث عمن يظن أنه من أهل العلم، فوافق ظنه مبتدعاً من المبتدعة فأفتاه بتحصيل بدعة ما، فعبد الله بها أنه مأجورٌ على ذلك.

وأنا ذكرت قيداً مهماً في الكلام وهو: أن يكون ليس له هوى، وبذل الوسع في السؤال عمن يظن أنه من أهل العلم، وبهذا فعل الذي عليه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] فأهل الذكر عنده فلانٌ وفلان، وقد يصادف أنهم من المبتدعة، فلا لوم عليه إذا فعل الذي أمر به في حدود إمكانياته.

بعد هذه المقدمة الضرورية -وفيها التنفير من البدعة- نذكر شيئاً آخر نذيل به النتيجة النهائية، وهو: وجوب هجران أهل البدع، فلو أننا وقفنا في وجه المبتدعة وقوفاً حازماً وهجرناهم في الله عز وجل؛ لانحصرت دائرة المبتدعة.

إن العاصي ليس أولى بالهجران من المبتدع؛ لأن كلاً يعطى ما يستحقه، وبما أن المبتدع أشر من العاصي، كان التأكيد في حق هجر المبتدع، أعظم من التأكيد في حق هجر العاصي.

إن الرسول عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا هجران العصاة، فهجر كعب بن مالك وأصحابه: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وهجرهم المسلمون خمسين ليلة، وهو يعلم أنهم يحبون الله ورسوله، وظاهر ذلك من حالهم، فـهلال بن أمية ربط نفسه في البيت، وظل يبكي طيلة خمسين ليلة، ولا يكون البكاء المتواصل إلا من رجلٍ نادمٍ حق الندم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يعتزلوا نساءهم جاءت امرأة هلال وقالت: يا رسول الله! إن هلالاً رجلٌ فانٍ ما له من أرب في النساء، يعني: رجل عجوز، وشهوة العجوز مكسورة، لأن الشهوة لا تكون في القوة والشدة إلا في الشباب، أضف إلى ذلك إذا انضم إلى امتثال الشهوة بسبب تقدم السن الغم الذي يملأ الصدر، فلو أن رجلاً فتياً مليء بالقوة والحيوية أصابه غم لا يكون له أرب إلى النساء، فكيف إذا اجتمع الغم مع تقدم السن؟! فقالت: أفتأذن لي أن أخدمه، قال: (بشرط ألا يقربك؟ قالت: والله ما به من أرب وهو يحب الله ورسوله)، وظاهر من حاله الندم الحقيقي، ومع ذلك هجرهم خمسين ليلة.

فالرسول عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا هجر العاصي، فهجر المبتدع من باب أولى، لأن جرمه أعظم من جرم العاصي.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم..

ضوابط هجر المبتدع

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

إن هجر المبتدع له ضوابط: فإن هذا الهجر داخلٌ في باب إنكار المنكر، وإنكار المنكر عند العلماء منوطٌ أو مقيدٌ بألا يعقب الإنكار منكراً أعظم منه، فلو كان للمبتدعة في بلدٍ ما شوكةٌ عظيمة، فأنكرت عليهم هذه البدعة قتلوك أو قلصوا دعوتك؛ حينئذٍ يجب عليك أن تتوقف في إنكار البدعة، إن البدعة لها دولة تقوم عليها، ولها إمكانات هائلة؛ لأن البدعة تواكب هوى النفس بخلاف التكليف، وسميت النصوص الشرعية تكليفاً لأنها كلفة على الناس ومشقة.

فأيهما أهون: أن تصلي جمعة في أول رجب تجبر لك تقصيرك في الصلاة طوال العمر، أو أن تصلي العمر كله؟!

الأشق أن تصلي العمر كله، فكلما أذن المؤذن قمت تتوضأ وتصلي، وهناك بدعة قبيحة تتكئ على حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم (من صلى الجمعة الأولى في رجب جبر كل صلاة تركها العبد قبل هذه الجمعة).

تصوروا هذا الحديث المناقض مناقضةً صريحة لقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ومناقض لقوله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] الذكر هنا مقيدٌ وهو الأذان، وليس مجرد أن تسمع ذكر الله فتقوم لتصلي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ، فكلما ذكر الله في الأذان فقم إلى الصلاة، مع ما تواتر من النصوص الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الصلاة خمساً، وأحاديث المواقيت معروفة، وأجمع المسلمون إجماعاً ضرورياً على أن الصلاة خمس ولا زالوا يفعلونها.

هل تتصور أن هذا يروج على رجل عاقل؟

الجواب: لا. وهل المبتدعة مجانين؟

الجواب: لا. لكنهم خبثاء كسالى، يريدون أن يكونوا من الأبرار بغير جهد.

قلت لكم: إن للمبتدعة دولة في شارع عابدين، مبنى من خمسة أدوار لنشر تراث المبتدعة، وتوزع الكتب مجاناً، أو بسعر التكلفة، ولهم مجلة (الإسلام وطن) يكفرون فيها الأبرار الأخيار من العلماء، وينشرون كتباً على حساب المغفلين، الذين ينفقون أموالهم ويظنون أنهم يحسنون صنعاً بإنفاقها.

والوصية المكذوبة للشيخ أحمد، والتي فيها أن خمسين ألفاً يموتون كل سنة على غير دين الإسلام، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه في المنام وقال له ذلك، وأنه خادم الحجرة النبوية، وأن أي شخص تقع في يده هذه الورقة يجب عليه أن يكتبها خمسين مرة ويرسلها إلى الناس، والذي تصله الورقة ولا يفعل فمصيبته تكون سوداء، وأنه كان هناك مقاول كبير وصلته الورقة ولم يكتبها فاحترقت كل أمواله، وأن هناك آخر وهو فقير وصلته الورقة وكتبها فجاءه الكثير من المال.

وتصور أنه عندما ينشغل كل مسلم بكتابة خمسين ورقة فماذا بقي للمسلمين من الوقت الجاد؟!

ولك أن تحسب عدد المسلمين على وجه الأرض، ولا مانع إذا وصلتك الورقة فكتبتها خمسين وأرسلتها لك مرة أخرى فتكتبها خمسين مرة أخرى، وتظل طوال عمرك كاتباً، وإلا مت على غير دين الإسلام.

هناك من يتطوع بطبع هذه الورقة وإرسالها للمسلمين حسبة لله، وجاره قد يكون على وشك الموت من الجوع فلا يعطيه رغيف خبز!!

ينشر كتاب مكتوب تحته: طبع على نفقة بعض المسلمين، وهو كذبٌ على الله ورسوله، لأنه ظاهر غير مستتر، فالكذب عندما يكون مستتراً قد يهضم، ونقول: معذور صاحبه، قد يكون لفق عليه، لكن عندما يكون الكذب واضحاً جداً كيف يقال: إنه طبع على نفقة بعض المحسنين.

مضمون هذا الكتاب أنه (كان هناك رجل اسمه عبد الله على عهد النبي عليه الصلاة والسلام -إذاً هو صحابي- وكان يعاقر النساء، ويشرب الخمر، ولا يشهد الصلاة والرسول عليه الصلاة والسلام -ورغم أن هذا الرجل كان يرتكب كل هذه العظائم- كان غضبان فقط) فتصور ردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل أنه فقط غضبان، يعني: الذين جلدمه في شرب الخمر هؤلاء أقل شراً من عبد الله هذا الذي يشرب الخمر، والذين قتلهم في الزنا، كان يعلم الرسول أنه يزني وتركه يزني إلا أنه غضب عليه، وهذا لا يؤدي الزكاة ولا يصوم رمضان، والرسول عليه الصلاة والسلام تركه، أليس هذا قدحاً في الرسول عليه الصلاة والسلام؟

يقول صاحب الكتاب: فلما مات عبد الله كان من الطبيعي ألا يصلي عليه الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه غضبان، فإذا بجبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ويسد بأجنحته الآفاق، ويقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إن الله يأمرك أن تصلي على عبد الله، فيقول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يدري-: كيف نصلي على عبد الله؟! ولكنه مأمور، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام مندهشاً -فيظهرونه بمظهر ثالث، الذي لا يدري شيئاً ويصلي على عبد الله- ثم بعد أن جاء ليدفنه يرى الحور كل واحدة تحمل كوباً فيه عصير وتقول: خذ يا عبد الله مني، يتسابقن إليه، وهو عبد الله الفاجر الداعر المخمور، فتزداد حيرة الرسول عليه الصلاة والسلام! ويدفنه، ثم يقول للصحابة: هيا بنا نذهب لامرأته؛ لكي يعلم ماذا كان يعمل عبد الله؟! فيذهبون إلى امرأته ويدقون عليها الباب، فتقول امرأته: من الفاجر الذي يدق الباب؟ فيقال لها: يا أمة الله! اتق الله إنه رسول الله -وهذا منشور موجود وهو كتاب عندي ومكتوب عليه: طبع على نفقة بعض المحسنين، أليس هذا أولى بالقتل من قطاع الطرق؟ أليس هذا أولى بحد المحاربة؟!- فيدخل عليه الصلاة والسلام المندهش وأصحابه على المرأة ويقولون لها: ماذا كان يفعل عبد الله؛ لأن جبريل نزل والحوريات يتسابقن إليه، فماذا كان يفعل هذا الرجل؟ قالت: يا رسول الله! والله ما كان يفعل شيئاً، كان داعراً وفاجراً وسكيراً، وكان لا يصلي ولا يصوم رمضان، إلا أنه إذا كان يوم في رجب قام فصلى ركعتين ودعا الله بهذا الدعاء .. واستغرق هذا الدعاء في الكتاب أربع ورقات؛ فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه المعجزة وهذا الثواب العظيم الجزيل الذي فاته ولم يعرفه إلا من هذا المخمور قام، فقال: من سره أن يأخذ أجر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم فليقرأ هذا الدعاء.

إذاً: ما هو المطلوب من هذا الكتاب؟ المطلوب هو ألا تصلوا! ولا تزكوا ولا تصوموا، ولكن في أول ليلة من رجب قوموا واقرءوا هذا الدعاء فتأخذوا أجر أولي العزم من الرسل.

قلت لكم: إنه كذب قبيح لا يمكن أن ينطلي على أحد ومع ذلك ينشر، كيف ينشر ويقال: طبع على نفقة بعض المحسنين؟! إنه يذكرني بالمرأة التي ذهبت إلى رجلٍ قاتل محترف، وقالت له: إن زوجي قتله فلان أريدك أن تقتله، فقال: بكم؟ فبكت المرأة وقالت: أنا فقيرة! فرق قلب القاتل لها وقال: سأقتله لوجه الله!! ثم يكتب على الكتاب: طبع على نفقة بعض المحسنين!

يمكن أن تنطلي بدعة مغلفة على إنسان ويعذر لها، لكن هذا المناقض لدين الإسلام كليةً وجزئيةً، كيف يمكن أن يقال: إن هذا إحسان؟!!

قلت لكم: إن المبتدعة لهم دولة، وأهل السنة لا يملكون إلا مجلة ضعيفة تعاني من نقص الإمكانيات، كل إماكانياتهم ضعيفة، ومجلة هؤلاء مرصود لها الملايين على نفقة بعض المحسنين.

ينبغي أن يكون الإنسان فقيهاً إذا أنكر البدعة، وهذا له مجالٌ آخر.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يقينا وإياكم شر البدعة، ويقبضنا وإياكم على المحجة البيضاء، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا..

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.