القلب ملك البدن


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة الكرام! إن المرء يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، ولذلك دعا إبراهيم الخليل ربه تبارك وتعالى بدعوات، أبان لنا بهذه الدعوات أن الأمر كله معلق بسلامة القلب، فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].

القلب: هو ملك البدن، وإذا طاب الملك طابت رعيته، وإذا فسد الملك فسدت رعيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعضاء تكفر اللسان، تقول له: يا لسان! اتق الله فينا فإنما نحن بك، إذا استقمت استقمنا وإذا اعوججت اعوججنا).

واللسان هو آلة التعبير عن القلب، فالقلب هو ملك البدن، فمن العجبٍ أن أكثر الناس لا يهتم بقلبه الاهتمام الروحي، من حيث زيادة الإيمان ونقصانه. إنما يهتم بجوارحه.

إننا نقرأ في لافتات الأطباء: أن هذا أخصائي أو (دكتور) في أمراض القلب وضغط الدم، وإذا مرض الواحد منا بمرض ظاهري في القلب فإنه يتخذ مستشاراً له، وإذا حدثت أي تغيرات عليه، فإنه سرعان ما يتصل بالطبيب، فيقول له: البصر فيه ضعف، ويوجد أيضاً ضعف في أطرافك، فتراه يتعاهد بدنه غاية التعاهد، هل هذا له علاقة بالقلب، أم لا؟

نحن في أمس الحاجة أن يكون لكل واحد منا مستشار في أمراض القلب وضغط الهم، أمراض القلب التي تتلفه، نحن في أمس الحاجة لهذا المستشار، كلما شعر المرء بقسوة في قلبه، هل فكر أن يتجه إلى عالم من العلماء فيذكر له هذه القسوة مثل ما كان يفعله العلماء الكبار.

روى أبو العلي القشيري محمد بن سعيد الحراني ، في تاريخ الرقة ، في ترجمة ميمون بن مهران ، وميمون هذا كان كاتباً لـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. شعر ميمون بن مهران بقسوة في قلبه، وكان قد تقاعد، فقال لابنه عمرو : يا بني! خذ بيدي وانطلق بنا إلى الحسن ، قال عمرو : فأخذت بيد أبي أقوده إلى الحسن البصري ، قال: فاعترضنا جدول ماء -قناة- فلم يستطع الشيخ أن يعبرها، فجعلت نفسي قنطرة عليها فمر من فوق ظهري، ثم انطلقت به أقوده، فلما وصلنا إلى بيت الحسن ، وطرقنا الباب خرجت الجارية، فقالت: من؟ قال لها: ميمون بن مهران ، فقالت له الجارية: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء، فبكى ميمون ، وعلا نحيبه، فسمع الحسن بكاءه فخرج، فلما رآه اعتنقا فقال ميمون للحسن البصري : يا أبا سعيد : إني آنست من قلبي غلظة، فاستلم لي -استلم لي: يعني: قل لي شيئاً يلينه أو قل لي شيئاً أصمت له وتزول القسوة التي أشعر بها.

فقال الحسن : بسم الله الرحمن الرحيم: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، فأغشي على ميمون ، فجعل الحسن يتفقد رجله كما تتفقد رجل الشاة المذبوحة، يظن أنه مات، وبعد مدةٍ أفاق، فقالت الجارية لهما: اخرجا، لقد أزعجتما الشيخ اليوم.

نفهم من كلام الجارية: أن هذه الآيات فتتت كبد الحسن هو الآخر، وبمجرد ما تلاها انهار هو الآخر، وانخرط في بكاء، حتى قالت الجارية: ازعجتماه، اخرجا.

قال عمرو : فلما خرجت بأبي أقوده، قلت له: يا أبي! هذا هو الحسن ، قال: نعم يا بني، قال: قلت: كنت أظنه أكبر من ذلك. قال عمرو : فضرب أبي بيده في صدري، وقال: يا بني! لقد قرأ عليك آيات لو تدبرتها بقلبك لأرسلت لها، لكنه لؤم فيك؟

هذه الآيات لا تغادر سمعك حتى تجرح قلبك: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].

كل حيٍ سيموت ليس في الدنيا ثبوت

حركات سوف تفنى ثم يتلوها خبوت

وكلامٌ ليس يحلو بعده إلا السكوت

أيها السادر قل لي أين ذاك الجبروت

كنت مطبوعاً على النطق فما هذا الصموت

ليت شعري أخمود ما أراه أم قنوت

أين أملاكٌ لهم في كل أفقٍ ملكوت

زالت التيجان عنهم وخلت تلك البيوت

أصبحت أوطانهم من بعدهم وهي خبوت

لا سميع يفقه القول ولا حي يصوت

عمرت منهم قبورٌ وخلت منهم بيوت

لم تزد عنهم نحوت الدهر إذ حالت بخوت

خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعوت

إنما الدنيا خيالٌ باطلٌ سوف يفوت

ليس للإنسان فيها غير تقوى الله قوت

أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:206-207].

في أمثالنا في الدنيا، يقول بعضنا لبعض: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته)؛ لأن الله عز وجل خلق فينا التأسي، وكل إنسان يتأسى بغيره.

قالت الخنساء لما قتل أخوها صخر :

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

أي: إنما كانت تسلي النفس عنه بالتأسي، فكلما رأت رجلاً يبكي أو امرأة تبكي على ميت هانت عليها المصيبة.

قال الله عز وجل مخبراً لنا عن هذا الخُلق وأنه لا يكون في الآخرة، فقال تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، لا تتخيل أنك إذا دخلت النار فوجدت رجلاً يعذب بجانبك أن هذا يخفف عنك؟ لا. هذا كان في الدنيا، إذا رأيت مصيبة غيرك هانت عليك مصيبتك، لكن في الآخرة لا، فإن هذا الخلق يزول، ولا ينفعك أن ترى غيرك يعذب: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207]، المتعة: هي جاه أو سلطان أو غير ذلك، فهي لا تنفع المجرم آنذاك: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].

الحسن البصري لما ذكر هذه الآيات، فتتت كبد ميمون ، والموت ما ذكر في ضيقٍ إلا وسعه، ولا في واسعٍ إلا ضيقه.

جَرِّب: وأنت جالس مع أولادك في جلسة سمر، جرب أن تذكر الموت بينك وبين نفسك، يعكر عليك المتعة. تذكر الموت وأنت جالس مع أولادك، وأنتم تأكلون وتشربون وتضحكون، أول ما تتذكر أنك تحمل إلى دار البلى وتدفن بجانب ابنك في قبرٍ واحد، وهذا لا يشعر بهذا ولا ذاك يشعر بذاك، وهذا منعم، وهذا معذب، ولا أحد يحمل عن أحد، أول ما تتذكر هذا تنغص عليك الجلسة، ويضيق عليك الواسع، ويحطم عليك الآمال، ذكر الموت في المستقبل، ويتذكر أن غداً سيدفن ويتذكر مصرعه، فعندها يضيق عليه الأمر.

وما ذكر الموت في ضيق إلا وسعه: أي رجل مبتلى بمرض، وصار هذا المرض ملازماً له لسنين طويلة، فهو يعذب ويتألم منه، لكن أول ما يتذكر القبر، ووحدة القبر، وعذاب القبر والسؤال يقول: ما أنا فيه نعمة؛ فيوسع عليه الأمر، ويخفف عليه المرض.

نحن لا نذكر الموت في بيوتنا، فالرجل منا إذا قال لامرأته: إذا أنا مت... تقول: لا تكمل الله يطول عمرك، يطول عمره إلى متى؟ دعيه يوصي، أقول: إذا أنا مت، افعلي كذا وكذا ولا تفعلي كذا وكذا.

فقد أصبح ذكر الموت في بيوتنا غريباً، لا نكاد نذكر الموت أبداً، كأننا لا نعد له، وإذا ذكر الرجل الموت، يقولون: يوم نكد، الله المستعان عليه، ضيع علينا المتعة.

قابل رجلٌ الإمام أحمد رحمه الله فقال له: أطال الله في عمرك، فقال له: سألت الله في آجالٍ مضروبة. أي: سألت الله في أجلٍ مضروب مقسوم.

إن مادة حياة القلب في اثنتين: في الوحي: كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، -فحياتك في الوحي قرآناً وسنة- وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]، هذه مادة الحياة الأولى.

ومادة حياته الثانية: المحن: تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف؛ وبهذا يحصل إشكال يواجه كثيراً من الناس وهو: لماذا جعل الله البلاء قرين الأنبياء وأتباع الأنبياء؟ لماذا لا يمكّن الله لأنبيائه، ويترك السوقة والرعاع من الناس يتطاولون عليهم ويعذبونهم؟ لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ موسى عليه السلام أكثر الأنبياء تعرضاً للخوف، من حين ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67].. فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14]، لماذا لا يؤمن الله عز وجل وليه وكليمه.

وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يتطاول عليه أبو جهل وأبو لهب ، وسفهاء قريش، لماذا لا يمكن له؟ لأن العبد يوزن عند الله بقلبه، فلأن يبتليك في بدنك حتى يستقيم لك قلبك، أفضل من أن يعافيك في بدنك ويضعف قلبك.

إذاً حياة القلب في المحن، فالإنسان الممتحن المبتلى من أقوى الناس قلباً، وأضعف الناس قلوباً هم أهل الترف.

لماذا صاحب الترف خائف دائماً؟ لأنه سينتقل إلى أقل مما هو فيه، وربنا سبحانه وتعالى: قال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16]، بعض الناس استشكلوا ظاهر الآية، فقالوا: كيف يأمر الله بالفسق حيث قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا )؟! فقال العلماء: الآية لها معان: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28].

أول هذه المعاني للآية: أن الآية فيها أمر، أمرنا مترفيها: يعني: بالطاعة: فبدلوا.

المعنى الآخر والأقوى في الآية: أن (أمرنا) بمعنى (كثرنا)، وهذا المعنى وارد في كثير من الأحاديث، مثل الحديث الذي رواه البخاري في مطلع صحيحه، من حديث ابن عباس (لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل ، وأراد أن يؤلب هرقل على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ممن هاجر إلى هرقل .

قال أبو سفيان : فسألني هرقل عدة مسائل: المهم بعدما أجاب أبو سفيان على أسئلة هرقل، وعلت الأصوات في الجلسة، قال أبو سفيان : لقد أَمِر أمرُ ابن أبي كبشة) أمِر: يعني: فشا وذاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المال تركةٌ مأمورة) ، مأمورة: يعني: كثيرة النتاج.

فبالله عليك: تصور منطقة من المناطق كل أهلها أو غالبهم مترفون فسقة -مترف وفاسق في نفس الوقت- ما الذي تتصوره؟ يطلقون العنان لشهواتهم! لذلك العلماء لما تنازعوا: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟

انفصل محققوهم: على أن الغني الشاكر أفضل، قالوا: لأن الصبر في أهل الفقر كثير، والشكر في أهل الغنى قليل، قلّ مَا تجد غنياً شاكراً يقوم بحق الله في المال، والمال وسيلة الطغيان، فقالوا: إن الغني الشاكر أفضل، لا يقوم بشكر المال إلا أفذاذ من الرجال.

حياة القلب في المحن، فإذا أصبت بمصيبة فلا تخف ولا تجزع؛ فإن الله عز وجل أراد سلامة قلبك، وفي نفس الوقت، يجب أن تسد على قلبك باب الهوى، كل منفذٍ إلى القلب سده، منافذ القلب: الحواس: الذوق، والشم، والسمع، والنظر، فالجوارح لها طريق إلى القلب، وهي تتفاوت في ذلك.

قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس النار: الأجوفان: الفم والفرج)، اعلم أن مدة بقاء الطعام في فمك ثلاثون ثانية فقط، وتنتهي لذة الطعام، ولكن تجد كثيراً من الناس يحرص في هذه الدنيا على كثرة الأكل. والمثل المشهور: (نحن نعيش لنأكل)، فجعل حياته كلها مطعماً، يشتغل فترة، ويشتغل فترتين وثلاثاً لماذا؟ ليوفر المال الذي يشتري به ما يريد من الطعام، فهذا همه.

هذه اللذة والمتعة التي ضيعت عليك قلبك هي لذة نصف دقيقة وهي مدة بقاء الطعام في فمك، فلو أنك ألغيت هذا الباب استرحت ولربما رضيت بالفتات.

لما ابتلي الإمام أحمد في المحنة المشهورة، وجلد ثلاثمائة جلدة في يوم الإثنين وهو صائم، دخل عليه عمه، فقال: يا أحمد قلها- أي: أجبهم إلى ما يريدون- يعجبك المكان الذي تنام فيه، وهذا الطعام الدون الذي تأكله.

فقال له يا عم: إنما هو طعامٌ دون طعام، وكساءٌ دون كساء، وإني عرضت نفسي على السيف وعلى النار، فلم أتحمل النار.

وظل الإمام أحمد سنتين والقيد في رجله، إذا أراد أن يصلي خلع القيد وصلى، وبعدما ينتهي يضع القيد في رجله، امتثالاً للأمر.

إنما هو طعام دون طعام وكساءٌ دون كساء، وإنما هو وقت معدود معلوم، فالدنيا خطوة رجل، هذا المسجد الذي نصلي فيه الآن كان مقبرةً للذين سبقونا، كما قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]، (كفاتاً): مأخوذ من الكفت وهو الجمع، وكما تقول العوام: (الكفتة) وهي التي تجمع من أخلاط وتفرم مع بعضها، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا ، يعني: جمعناهم على ظهرها، ثم جمعناهم في بطنها. خفف الوطء، فما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجساد. ما من مكانٍ في الأرض إلا كان قبراً لرجلٍ سبقنا، إذاً: هي خطوة، ثم تلقى الله عز وجل.

سفيان الثوري مات هارباً: أرادوا أن يولوه القضاء فهرب؛ لأن القضاء تبعاته كبيرة، فخاف أن يأتي الله عز وجل بمظالم العباد، فبحث الخليفة عنه فلم يجده، ومات سفيان الثوري رحمه الله في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي ، وكان معه في لحظة الموت تلميذه الآخر: يحيى بن سعيد القطان ، كان سفيان الثوري نائماً واضعاً رأسه في حجر عبد الرحمن ، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وفجأة انخرط سفيان في بكاءٍ عميق، فقال له: يحيى بن سعيد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ، ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ الذي أفنيت حياتك فيه ولأجله، فأنت قادم عليه، وتخرج من الضيق إلى السعة، وأنت ممن قضى حياته في عبادة ربه، أتخشى ذنوبك؟

فأخذ سفيان الثوري تبنة -قشة من على الأرض- وقال: لذنوبي أهون عليّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة، ما أخشى ذنبي، إنما أخشى سوء الخاتمة. سفيان العابد الزاهد الورع الكبير، يقول: أخشى سوء الخاتمة، لا يزال المرء يذكر الموت والبلى فيرق قلبه، فينتفع به، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فكل طريق يفيد القلب يفسده سده، حتى تنتفع بالوحي؛ فإن صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، قال تبارك وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، إما وحيٌ وإما هوى، صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، وإذا أردت أن تنتفع فسد كل طريق يفسد القلب، سواء عن طريق الذوق أو طريق الشم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأةٍ خرجت مستعطرة فشموا ريحها فهي زانية، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، كم أردى هذا الشم من رجال، فلو أنه أغلق هذا الباب على نفسه استراح قلبه من عناء التصور، واعلم أن السمع والنظر هما أخطر طريقين إلى القلب قاطبةً.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أخطر طريقين إلى القلب يفسدانه هما: السمع، والنظر، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأنجشة ، وكان يحدو الإبل، وكان يركب بعض هذه الإبل بعض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكان أنجشة حسن الصوت جداً، ومعروف أن الإبل إذا حدوت خلفها جدت في السير، فقال عليه الصلاة والسلام: (رويدك يا أنجشة رفقاً بالقوارير)، القوارير في هذا الحديث هن النساء، والقارورة أرق الزجاج وأخفه، وأسرعه كسراً، (رفقاً بالقوارير).

وفي مستدرك الحاكم، بيان لمعنى هذا الأمر: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة هذا أحد المعنيين في الحديث، خاف على زوجاته من حسن صوت أنجشة، وهن زوجاته وأمهات المؤمنين، العفيفات المؤمنات، خاف عليهن، فكيف يترك الرجل امرأته وبناته يستمعن إلى الخنا في ألفاظ الغناء، وهو يأمن عليهن؟! والله لقد رأيت عشرات بل مئات المشاكل كانت سبباً في انهدام بيوت بأكملها، والمشكلة هي الاستماع إلى المحرمات.

رجلٌ له مركز مرموق، جاءني يوماً وقال: إن امرأتي تطلب الطلاق، وأنا متزوجها منذُ خمسة وعشرين سنة، وأولادي في الجامعة، وله منصب عالٍ. يعني: أن طلبها الطلاق منه يهز منصبه؛ لأنه يعتمد على سمعته في هذا المنصب، وهي مصرة على الطلاق.

لماذا يا أخي؟ قال: بدون أي أسباب.

واستمرت المشاكل بينهم فترة ستة أشهر، والمرأة كل يوم تهينه وتسبه حتى ترغمه على الطلاق، وهو صابر محتمل لأجل الأولاد ولأجل السمعة، ولم يجد بداً في النهاية من تطليقها، وبعد انقضاء العدة بيوم واحد تزوجت المرأة، فجاء الرجل وقد تغير وجهه. فقال: تصور أن المرأة تزوجت، وهل تدري بمن؟ قال: بأعز أصدقائي، تعرف أن صديقي هذا كنت وأنا غائب آذن له في دخول البيت؛ فخانني، كنت أوصي امرأتي وأقول لها: لو جاء فلان: أدخليه في (الصالون) حتى آتي، فكان يخلو بها الساعة والثنتين والثلاث والأربع والله أعلم ماذا يجري؟!

وكما يقولون: يذهب الشوق ويبقى الحب والاحترام. يعني: أن البعض أول حياته الزوجية يكون مقبلاً على امرأته، يسمعها كلاماً جميلاً، وبعد ذلك يبدأ الكلام الجميل يذهب، والرجل ليس كلما دخل على امرأته قال لها: الدنيا من غيرك لا تساوي شيئاً، كأنه لا يعرف إلا هذا الكلام، لقد كان يقول هذا الكلام في أول شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين وانتهى، ويبقى الاحترام والمودة والمعاملة بالمعروف.

ليعلم أن المرأة محتاجة لهذا الكلام، فبسبب خلو الحياة الزوجية من الثناء المتبادل بينهما تجد الرجل يقول: والله أنا تعبت مع زوجتي، وأبحث عن الراحة والسعادة، وهي تقول: والله وأنا تعبت مع زوجي، ولم يعد يقول لي الكلام الجميل الذي كان يقوله لي وبدأ الرجل بعد خمس وعشرين سنة مع زوجته الأولى يبحث عن أخرى. يعني: أن المرأة الأولى صار سنها ثلاثة وخمسين سنة، ما بقي من الكرم إلا الحطب.

الرسول عليه الصلاة والسلام قال: قارورة، يعني: أن المرأة يستطيع أي رجل يحسن الكلام أن يستميلها، ولو كان زوجها من أفضل الأزواج، فهي معرضةً لذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير)، يخشى على قلوب زوجاته العفيفات أمهات المؤمنين، أن تتأثر بهذا الحداء الجميل الذي ليس فيه خناً ولا فجور ولا فيه شرك، لا يحلف بعينيها ولا يحلف بحياتها، وإنما هو كلام جميل موزون، ومع ذلك خشي عليهن، وخشي على قلوبهن بأن تنصدع بهذا الصوت الجميل، فهذا خطير جداً، أغلق هذا الطريق عن القلب تستريح كثيراً.

ثم النظر وهو أخطر الطرق كلها، فكم أردى من قتيل؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الدارمي في سننه، قال: (إذا رأى أحدكم المرأة تعجبه فليأتِ أهله، فإن معها مثل الذي معها)، خَلْقٌ واحد، إنما هو الحلال والحرام، والعلماء لهم قاعدة تقول: ( ما منع سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، النظر ليس ممنوعاً لذاته، إنما هو ممنوع لما يجلبه من الفاحشة بعد ذلك، فأمر الله عز وجل المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم حتى لا يقعوا في الزنا.

إذاً: منع النظر إلى النساء سداً لذريعة الزنا.

أما لو وجد في النظر مصلحة راجحة كالنظر إلى المخطوبة، كرجل أراد أن يخطب امرأة أجنبية، فالأصل أنه لا يجوز له النظر إلى المرأة الأجنبية، لكنه يريد أن يحطب ويختار شريكةً لحياته، فيقال له: النظر الذي منعناه سداً لذريعة الزنا أبحناه لك في هذا الموضع؛ تحقيقاً للمصلحة الراجحة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمغيرة بن شعبة لما قال له: (إني خطبت امرأة من الأنصار، قال: هل نظرت إليها؟ قال: لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)، يؤدم: أي: يدوم الود.

وفي الرواية الأخرى قال: (فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، شيئاً: يعني صغراً، كانت عيون نساء الأنصار ضيقة، فلعلها لا تعجب المغيرة ، فلماذا يتزوجها بدون نظر وبعد ذلك لا تعجبه فيطلقها، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن ننظر إلى المرأة الأجنبية للمصلحة الراجحة، أما فيما عدا ذلك فسد علينا الباب وحذرنا منه. قال صلى الله عليه وسلم: (النظرة الأولى لك) أي: النظرة الأولى ليست ربع ساعة، يبقى ينظر ويقول: أنا في النظرة الأولى، لا. النظرة الأولى ورد تفسيرها في الحديث الآخر، التي هي نظرة الفجأة، رجل يمشي رفع رأسه فوجد امرأة؛ فإنه يغض طرفه، هذه هي النظرة الأولى التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: (فإن النظرة الأولى لك والثانية عليك)، فإذا رفع الرجل طرفه مرةً أخرى إلى المرأة كتبت عليه، وكل هذا لسلامة القلب؛ لأن هذا كله يفسد القلب، ويجعل كل جزء منه في كل وادٍ.

فالله اللهَ في قلوبكم؛ فإن العبد يوزن عند الله يوم القيامة بقلبه لا بجسمه، وصدق ابن القيم رحمه الله، لما قال: (يأتي الرجل البدين السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ويأت الرجل النحيف تكون ساقاه أثقل في الميزان من أحد؛ لأن الله يزن العباد بقلوبهم).

وأقرب مثال إلينا: ابن مسعود رضي الله عنه: كان من نحافته لو هبت ريح قوية تكفأه على ظهره، ولما صعد على شجرةٍ ذات يومٍ فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يضحككم منه؟ قالوا: يا رسول الله! يضحكنا دقة ساقية، -رجلاه نحيفتان جداً- فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد)، إنما هذا لسلامة قلب ابن مسعود .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا قلوبنا.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.