حاجتنا إلى طلب العلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

روى الإمام الترمذي في سننه -وصححه- من حديث زر بن حبيش رحمه الله قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، فلما رآني قال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم، فقال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب، فقال له: إنه قد حك في صدري شيءٌُ في المسح على الخفين، وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟ قال: نعم، أمرنا إذا كنا سفْراً -أي: مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، فقلت له: هل تذكر في الهوى شيئاً؟ قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفرٍ، إذ ناداه أعرابيٌ بصوتٍ له جهوريٍ: يا محمد، فقلت له: ويحك، اغضض من صوتك، أولم تُنْه عن هذا؟ فقال: والله لا أغضض، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوٍ من صوته: هاؤم، فقال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب، فما زال يحدثنا حتى أخبرنا أن لله تبارك وتعالى باباً لا يغلقُ حتى تطلع الشمس من مغربها، عرضه سبعون -أو قال: أربعون ذراعاً- جعله الله تبارك وتعالى للتوبة).

الاهتمام بالنفسيات من سمات العلماء

هذا الحديث يشتمل على جُملٍ من العلم، أول هذه الجمل: أن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم من فقه بعلم النفس ما لم يكن عند أي جيلٍ جاء بعدهم، والمقصود بعلم النفس هو تنزيل الكلام على مقتضى حال المخاطب، هذا هو فقه النفس.. أن تضع الكلمة في مكانها، سواء كانت بشدةٍ أو كانت بلطف، كما قال المتنبي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

بمعنى أ، الإنسان الرقيق إذا عاملته بالسيف فهذا مضر، لكن إذا وضعت السيف في مكانه، فحسن وجميل؛ برغم أنه شديد، والشدة في موضعها هي اللطف، كما أن اللطف في موقعه هو كذلك، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقهاء، يظهر ذلك من سؤال صفوان بن عسال المرادي -وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام- لما رأى زر بن حبيش جاء وقد قطع هذه المسافات لأجل أن يسأل مسألةً، قال: ما جاء بك يا زر ؟ قال: ابتغاء العلم، قال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب). فهذا هو فقه النفس، أن بشره بالجائزة، فطالب العلم الذي يقطع المسافات الطويلة في سبيل طلب العلم، حين يعلم أن الملائكة تضع أجنحتها له رضاً بما يطلب؛ يهون عليه كل شيء.

الله تبارك وتعالى جبل الناس على أن يعملوا لأجر، لذلك قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، تصور الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المعارك وبين رجل كان يأكل تمرات قال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فرمى بالتمرات وقال: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات)؛ لأن الذي يفصل بينه وبين الجنة هو أن يموت، فاستكثر هذه الدقائق التي يكمل فيها التمر، ورمى بها وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم قاتل حتى قتل.

لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سأله هذا الرجل وقال له: مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: ليس لك شيء؛ هل كان يرمي بالتمرات ويستعجل الموت؟ الجواب: لا، إنما لأن هناك نتيجة وجائزة، رمى بهذه التمرات.

كما جاء رجلٌ إلى عبد الله بن الزبير أيام حربه مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، لما ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فجاء رجل كان مشهوراً بالقتال، فقال لـعبد الله بن الزبير : أنا فارسٌ مغوار، وصنعت كذا وكذا، وجعل يعدد له أمجاده، ما تعطيني إذا قاتلت معك الحجاج؟ فقال: أعطيك كذا وكذا من الأموال، قال: أنقدني، فقال له: عندما نرجع، فتولى عنه الرجل وقال: أُراك تأخذ روحي نقداً، وتعطيني دراهمك نسيئة!

فالله عز وجل جبل الناس على أن يعملوا لشيءٍ.. لأجر، ولذلك جعل الجنة وجعل النار، وجعل يبشر المتقين بالجنان، ويبشر الكافرين بالنار، كل هذا لأنه جبل الناس على أن يعملوا لشيء، وهذا البحث يظهر بشيءٍِ من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).

(فسيلة) أي: نخلة.

لماذا قال: (فليغرسها)؟ لأن الإنسان لكونه لا يعمل إلا لأجل هدفٍ، فإنه لا يغرس النخلة عادةً إلا ليأكل منها من يأتي من بعده من أولاده وأحفاده، فلما تقوم الساعة لن يأكل منها أحدٌ، فلربما تجاوب الرجل مع ما هو مجبول عليه، فيرمي هذه الفسيلة، ويقول لنفسه: من الذي ينتفع بها؟ فيرميها، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال له: خالف ما جبلت عليه واغرسها.

وأضرب مثلاً يقرب المقصود من الحديث: أعرف طبيباً غنياً، وكان عنده عيادتان، وعنده عدة عمارات، وتزوج بابنة خالته وكان شديد الحب لها، والله تبارك وتعالى كأنه قضى عليها بالعقم، وهو يريد الولد منها، فدار تقريباً في أكثر دول العالم المتقدمة في الطب، رجاء أن يرزقه الله تبارك وتعالى الولد منها، وفي آخر مرة ذهب بها إلى النمسا، رجع وقد قضي على آخر أملٍ له في الإنجاب، فلما رجع جعل يبيع العمارات، وباع عيادة من عيادتيه.. فلما سئل: لماذا تفعل ذلك؟ قال: ولمن أترك كل هذا؟

هو لو علم أنه عقيم من أول ما تزوج، أو امرأته عقيم من أول ما تزوج، ما كان عنده ذاك الأمل في هذا البنيان ولا هذه الاستزادة من المال، لكنه كان يؤمِّل يقول: لعل الله تبارك وتعالى يرزقني ويهب لي مولوداً، فلما علم يقيناً أنه لا أمل في ذلك، صار يبيع كل هذا، وصار يستمتع بالمال ويقول: لمن أتركه؟

إذاً: الإنسان مجبول على حب المكافأة، فـصفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه -وهو فقيه عالم بالنفس- بمجرد أن رأى زر بن حبيش قد قطع كل هذه المسافات حتى يسأل عن مسألةٍ، أعطاه الجائزة الذي تهون عليه كل صعبٍ لقيه في سبيل هذه المسألة.

حسن السؤال نصف العلم

فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، فقال له زر : (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين)، وفي هذا دليلٌ على مشروعية أن يسأل المرء إذا حاك في صدره شيء، أن يسأل أهل العلم، ولا يسأل أي إنسان له سمت العالم، إنما يسأل أهل العلم.. فقصة حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما أراد أن يتوب، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب.. فلما سأله: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً؛ ألي توبة؟ قال له: لا، فقتله، وفي بعض طرق الحديث قال: (فدلوه على راهب عابد) ومن أخطر ما يقع فيه اللبس عدم التفريق بين العالم وشبيه العالم، فكثير من الناس لا يفرقون بين العالم الحق وبين من يتزيا بزي العالم؛ فيحدث الخلط، فهذا شد رحاله إلى الصحابي الجليل وسأله سؤالاً، وهذا السؤال دل على فقه زر بن حبيش حيث قال فيه: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين) قال له: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟) نِعمَ السؤال..! ما قال له: ما رأيك في هذا الموضوع؟ أو أنت ما ترى من فتوى؟ وكما قال القائل: ومن طلب البحر استقل السواقيا.

مباشرةً رفع المسألة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (هل عندك عنه شيءٌ؟) وكما قيل قبل ذلك: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا أحسن الرجل السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، وعادةً تجد أكثر الفتاوى التي تخرج من العلماء الأعلام لا توافق الفتوى الصحيحة، والسبب في ذلك أن السؤال لم يكن صحيحاً.

ونحن نقف على فتاوى لبعض العلماء، فنتعجب كيف أفتوا بذلك، لكننا نقف على جواب العالم، ولا نقف على السؤال الذي وُجِّه إليه، وعادةً يكون في الجواب من الخلل بقدر ما يكون في السؤال من الخلل؛ لأن الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت.

وقديماً ذكروا أن صبياً خرج إلى الغابة يصطاد.. فبينما هو يصطاد إذ صرخ، فلما صرخ رجع له صدى الصراخ، فظن أن ولداً آخر في الغابة يغيظه، فقال له: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي: من أنت؟ فرجع الصدى: قل لي: من أنت؟ فأخذ غصناً وجعل يبحث عن هذا الولد الذي يحاكي صوته ليضربه، فلما تعب فقال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له الصوت: إنك حقاً قبيح، فزاد في غيظه، فجعل يبحث عن هذا الولد، فلما يئس أن يجده رجع إلى أمه كسيف البال حزيناً، فلما رأته حزيناً قالت: ما لك يا بني؟ فحكى لها القصة، فتبسمت الأم، وقالت: يا بني إنه لم يكن شيءٌ مما ذكرت، ذلك صدى صوتك، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً!

وتعني بذلك حين قال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له صدى الصوت: إنك حقاً قبيح، فهو لو قال كلمة جيدة، لرجعت له الكلمة الجيدة أيضاً.

فكذلك الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت تماماً، فإذا خرج السؤال سيئاً خرج الجواب على مقتضى سوء السؤال.

أما زر بن حبيش فقد سأل سؤالاً يدل على علمه، وهو أنه يرفع السؤال بأن يطلب دليلاً: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟)، وكذلك كان جميع علمائنا بحمد الله تبارك وتعالى، كما أنهم ويتبرءون من مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياءً وأمواتاً.

هذا الحديث يشتمل على جُملٍ من العلم، أول هذه الجمل: أن الصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم من فقه بعلم النفس ما لم يكن عند أي جيلٍ جاء بعدهم، والمقصود بعلم النفس هو تنزيل الكلام على مقتضى حال المخاطب، هذا هو فقه النفس.. أن تضع الكلمة في مكانها، سواء كانت بشدةٍ أو كانت بلطف، كما قال المتنبي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

بمعنى أ، الإنسان الرقيق إذا عاملته بالسيف فهذا مضر، لكن إذا وضعت السيف في مكانه، فحسن وجميل؛ برغم أنه شديد، والشدة في موضعها هي اللطف، كما أن اللطف في موقعه هو كذلك، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقهاء، يظهر ذلك من سؤال صفوان بن عسال المرادي -وهو أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام- لما رأى زر بن حبيش جاء وقد قطع هذه المسافات لأجل أن يسأل مسألةً، قال: ما جاء بك يا زر ؟ قال: ابتغاء العلم، قال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب). فهذا هو فقه النفس، أن بشره بالجائزة، فطالب العلم الذي يقطع المسافات الطويلة في سبيل طلب العلم، حين يعلم أن الملائكة تضع أجنحتها له رضاً بما يطلب؛ يهون عليه كل شيء.

الله تبارك وتعالى جبل الناس على أن يعملوا لأجر، لذلك قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، تصور الحوار الذي دار بين النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المعارك وبين رجل كان يأكل تمرات قال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فرمى بالتمرات وقال: إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل هذه التمرات)؛ لأن الذي يفصل بينه وبين الجنة هو أن يموت، فاستكثر هذه الدقائق التي يكمل فيها التمر، ورمى بها وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، ثم قاتل حتى قتل.

لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما سأله هذا الرجل وقال له: مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: ليس لك شيء؛ هل كان يرمي بالتمرات ويستعجل الموت؟ الجواب: لا، إنما لأن هناك نتيجة وجائزة، رمى بهذه التمرات.

كما جاء رجلٌ إلى عبد الله بن الزبير أيام حربه مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، لما ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فجاء رجل كان مشهوراً بالقتال، فقال لـعبد الله بن الزبير : أنا فارسٌ مغوار، وصنعت كذا وكذا، وجعل يعدد له أمجاده، ما تعطيني إذا قاتلت معك الحجاج؟ فقال: أعطيك كذا وكذا من الأموال، قال: أنقدني، فقال له: عندما نرجع، فتولى عنه الرجل وقال: أُراك تأخذ روحي نقداً، وتعطيني دراهمك نسيئة!

فالله عز وجل جبل الناس على أن يعملوا لشيءٍ.. لأجر، ولذلك جعل الجنة وجعل النار، وجعل يبشر المتقين بالجنان، ويبشر الكافرين بالنار، كل هذا لأنه جبل الناس على أن يعملوا لشيء، وهذا البحث يظهر بشيءٍِ من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).

(فسيلة) أي: نخلة.

لماذا قال: (فليغرسها)؟ لأن الإنسان لكونه لا يعمل إلا لأجل هدفٍ، فإنه لا يغرس النخلة عادةً إلا ليأكل منها من يأتي من بعده من أولاده وأحفاده، فلما تقوم الساعة لن يأكل منها أحدٌ، فلربما تجاوب الرجل مع ما هو مجبول عليه، فيرمي هذه الفسيلة، ويقول لنفسه: من الذي ينتفع بها؟ فيرميها، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال له: خالف ما جبلت عليه واغرسها.

وأضرب مثلاً يقرب المقصود من الحديث: أعرف طبيباً غنياً، وكان عنده عيادتان، وعنده عدة عمارات، وتزوج بابنة خالته وكان شديد الحب لها، والله تبارك وتعالى كأنه قضى عليها بالعقم، وهو يريد الولد منها، فدار تقريباً في أكثر دول العالم المتقدمة في الطب، رجاء أن يرزقه الله تبارك وتعالى الولد منها، وفي آخر مرة ذهب بها إلى النمسا، رجع وقد قضي على آخر أملٍ له في الإنجاب، فلما رجع جعل يبيع العمارات، وباع عيادة من عيادتيه.. فلما سئل: لماذا تفعل ذلك؟ قال: ولمن أترك كل هذا؟

هو لو علم أنه عقيم من أول ما تزوج، أو امرأته عقيم من أول ما تزوج، ما كان عنده ذاك الأمل في هذا البنيان ولا هذه الاستزادة من المال، لكنه كان يؤمِّل يقول: لعل الله تبارك وتعالى يرزقني ويهب لي مولوداً، فلما علم يقيناً أنه لا أمل في ذلك، صار يبيع كل هذا، وصار يستمتع بالمال ويقول: لمن أتركه؟

إذاً: الإنسان مجبول على حب المكافأة، فـصفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه -وهو فقيه عالم بالنفس- بمجرد أن رأى زر بن حبيش قد قطع كل هذه المسافات حتى يسأل عن مسألةٍ، أعطاه الجائزة الذي تهون عليه كل صعبٍ لقيه في سبيل هذه المسألة.

فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، فقال له زر : (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين)، وفي هذا دليلٌ على مشروعية أن يسأل المرء إذا حاك في صدره شيء، أن يسأل أهل العلم، ولا يسأل أي إنسان له سمت العالم، إنما يسأل أهل العلم.. فقصة حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، لما أراد أن يتوب، قال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب.. فلما سأله: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً؛ ألي توبة؟ قال له: لا، فقتله، وفي بعض طرق الحديث قال: (فدلوه على راهب عابد) ومن أخطر ما يقع فيه اللبس عدم التفريق بين العالم وشبيه العالم، فكثير من الناس لا يفرقون بين العالم الحق وبين من يتزيا بزي العالم؛ فيحدث الخلط، فهذا شد رحاله إلى الصحابي الجليل وسأله سؤالاً، وهذا السؤال دل على فقه زر بن حبيش حيث قال فيه: (إنه قد حك في صدري شيءٌ في المسح على الخفين) قال له: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟) نِعمَ السؤال..! ما قال له: ما رأيك في هذا الموضوع؟ أو أنت ما ترى من فتوى؟ وكما قال القائل: ومن طلب البحر استقل السواقيا.

مباشرةً رفع المسألة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (هل عندك عنه شيءٌ؟) وكما قيل قبل ذلك: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا أحسن الرجل السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، وعادةً تجد أكثر الفتاوى التي تخرج من العلماء الأعلام لا توافق الفتوى الصحيحة، والسبب في ذلك أن السؤال لم يكن صحيحاً.

ونحن نقف على فتاوى لبعض العلماء، فنتعجب كيف أفتوا بذلك، لكننا نقف على جواب العالم، ولا نقف على السؤال الذي وُجِّه إليه، وعادةً يكون في الجواب من الخلل بقدر ما يكون في السؤال من الخلل؛ لأن الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت.

وقديماً ذكروا أن صبياً خرج إلى الغابة يصطاد.. فبينما هو يصطاد إذ صرخ، فلما صرخ رجع له صدى الصراخ، فظن أن ولداً آخر في الغابة يغيظه، فقال له: من أنت؟ فرجع له الصوت: من أنت؟ قال: قل لي: من أنت؟ فرجع الصدى: قل لي: من أنت؟ فأخذ غصناً وجعل يبحث عن هذا الولد الذي يحاكي صوته ليضربه، فلما تعب فقال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له الصوت: إنك حقاً قبيح، فزاد في غيظه، فجعل يبحث عن هذا الولد، فلما يئس أن يجده رجع إلى أمه كسيف البال حزيناً، فلما رأته حزيناً قالت: ما لك يا بني؟ فحكى لها القصة، فتبسمت الأم، وقالت: يا بني إنه لم يكن شيءٌ مما ذكرت، ذلك صدى صوتك، ولو قلت حسناً لسمعت حسناً!

وتعني بذلك حين قال له: إنك حقاً قبيح، فرجع له صدى الصوت: إنك حقاً قبيح، فهو لو قال كلمة جيدة، لرجعت له الكلمة الجيدة أيضاً.

فكذلك الجواب مع السؤال كالصدى مع الصوت تماماً، فإذا خرج السؤال سيئاً خرج الجواب على مقتضى سوء السؤال.

أما زر بن حبيش فقد سأل سؤالاً يدل على علمه، وهو أنه يرفع السؤال بأن يطلب دليلاً: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل عندك عنه شيء؟)، وكذلك كان جميع علمائنا بحمد الله تبارك وتعالى، كما أنهم ويتبرءون من مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياءً وأمواتاً.

وما أجمل ما ذكره بعض المعاصرين -وقد توفي منذُ نحو أربعين سنة- في أرجوزة له لطيفة اسمها: أرجوزة المهدي، أو أرجوزة الهدى، فذكر الكلام المنقول عن علماء المسلمين الأربعة في تبرئهم من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال رحمه الله:

وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل

فيه دليل الأخذ بالحديـث وذاك في القديم والحديث

قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام

أخذاً بأقوالي حتى تعرضـا على الكتاب والحديث المرتضى

ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة

كل كلام منـه ذو قبـول ومنه مردود سوى الرسول

والشافعي قال إن رأيتم قولي مخالفاً لما رويتم

من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا

وأحمد قال لهـم لا تكتبـوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا

فانظر مقالات الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة

لقمعها لكل ذي تعصـب والمنصفون يكتفون بالنبي

صلى الله عليه وآله وسلم! بل قال في هذه الأرجوزة -برغم أنه حنفي المذهب-:

واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب

يعني: وصلت المسألة لدرجة الاعتقاد أن المسيح عليه السلام حين ينزل سوف يحكم بالمذهب الحنفي، بناءً على خرافة أن المسيح عندما ينزل لا يجد شيئاً من الإسلام إلا فقه أبي حنيفة رحمه الله، وهذا موجود في صندوق في نهر جيحون، ثم يذهب ليبحث عن هذا الصندوق حتى يتسنى له أن يحكم بالإسلام.

كم من سنوات التخلف التي عاناها المسلمون بسبب عدم وقوفهم عند النص الشرعي، لو أننا تبنينا هذا السؤال الذي سأله زر بن حبيش رحمه الله لـصفوان بن عسال المرادي، لقل الخلل، لو أنا نقول: ماذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسألة الفلانية؟ بدلاً من أن نقول: ما فتوى العالم الفلاني في المسألة الفلانية؟ لقل الكلام، ولسقطت كثير من الأقوال التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة.

لقد أحسن زر بن حبيش جد الإحسان بذاك بقوله لما قال في سؤاله: (وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل عندك عنه شيء؟) أي: في المسح على الخفين، فقال له: (أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم إذا كنا سفْراً -أو مسافرين- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، لكن من غائطٍ أو بولٍ أو نوم) أي: لكن لا ننزع الخف من غائط أو بولٍ أو نوم.

وطالب العلم إذا ظفر بعالم فليستكثر، طالب العلم الذكي إذا ظفر بعالم يستكثر من السؤال، فما بالك إذا كان هذا العالم هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وطلبة العلم كانوا يتجرعون الهوان أحياناً في استفادة مسألة من المشايخ، فقطعوا مسافات طويلة جداً وقد لا يظفرون.

جاء رجلٌ إلى الأعمش رحمه الله وقال: يا أبا محمد .. أنا رجلٌ فقير اكتريت حماراً بدينار لأسألك مسألة، فقال له الأعمش : اكترِ حماراً بدينارٍ آخر وارجع، وأبى أن يجيبه.

وجاء رجلٌ إلى يحيى بن معين وقال له: يا أبا زكريا أنا مستعجل، أنا ذاهبٌ إلى بلدي، حدثني حديثاً أذكرك به. قال: اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل، وأبى أن يعطيه. بل اشتُهر عن الأعمش رحمه الله أنه كان شديداً جداً على الطلبة، لدرجة أنه كما قال الخطيب البغدادي في "كشف أصحاب الحديث" روي أن الأعمش اشترى له كلباً، مجرد أن يسمع وقع أقدام أصحاب الحديث اقتربوا من الدار يطلق عليهم الكلب، انظر حين يجري أحد كـشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ، هرباً من الكلب، ثم إذا ما الكلب رجع، رجعوا مرةً أخرى إلى بيت الأعمش ، لا يملون أبداً، قال الخطيب في الرواية: حتى ذهبوا إليه ذات يوم فلم يخرج إليهم، فدخلوا الدار فلما رآهم الأعمش بكى، قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد ؟! فقال لهم: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الذي هو الكلب)..

وجاءه رجل مرة من سفر، وقال له: يا أبا محمد .. حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه ولصقه في الحائط، وقال: هذا إسناده.

وكان إذا حدّث رحمه الله لا يحب أحداً أن يجلس بجواره، فجاء رجلٌ من الغرباء، ولا يعرف طبع الأعمش ، فجلس بجواره، فأحس به الأعمش وكان كفيفاً، فلما أحس به، صار يقول: حدثنا.. ويبصق عليه، فلان.. ويبصق عليه، قال: حدثنا.. ويبصق عليه، وهم جميعاً يحذرونه أن يتكلم؛ لأنه لو تكلم لقطع الأعمش مجلس التحديث، فكان طلاب العلم يلقون الهوان، والمشايخ بطبيعة الحال ما كان قصدهم الإذلال لمجرد الإذلال، بل كانوا يقصدون كسر الكبرياء والشموخ الذي عند التلميذ، لأن التلميذ إذا جاء إلى الأستاذ وهو يستحضر نسبه ويستحضر أسرته.. فإنه لا يفلِح أبداً، بل يجب أن يتزيا بزي التلميذ طالما أنه تلميذ.

الإمام الشافعي رحمه الله، كان بلا شك عند جميع العلماء أفضل من محمد بن الحسن الشيباني ، فـمحمد بن الحسن الشيباني ليس مجتهداً مطلقاً، حيث كان ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، أما الشافعي فقد كان مجتهداً مطلقاً، ومع ذلك لمّا أراد الشافعي رحمه الله أن يأخذ فقه أهل العراق ذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني ، وجلس أمامه بسمت تلميذ، حتى أن الشافعي -وقد كان يخالف كثيراً من فتاوى محمد بن الحسن - من أدبه أنه لم يبادر بالاعتراض على الأستاذ، لكن إذا قام محمد بن الحسن الشيباني ناظر التلاميذ، وأظهر لهم أنه أخطأ في المسألة؛ لأن فتواه مخالفة للحديث، ويسوق الأسانيد المتكاثرة بأن المسألة خطأ ومخالفة للأثر، فكانوا لا يجدون جواباً، وكان الشافعي يظهر عليهم كل مرة، فشكوا ذلك إلى محمد بن الحسن فعندها قال له: محمد بن الحسن : إنه بلغني أنك تعترض، وأنك قلت كذا وكذا، فناظرني، فقال له الإمام الشافعي : إني أجلُّك عن المناظرة..! لاحظ الأدب! قد يكون التلميذ في يوم من الأيام أعلم من شيخه أو أستاذه، لكن لا يحمله ذلك على أن يهضم حق شيخه الذي فتح ذهنه على طلب العلم، مهما كان حجم أستاذه ضئيلاً، فالنبلاء يحفظون الجميل، فقال له: لابد لك من ذلك، فناظره الشافعي فظهر عليه؛ لأن الشافعي كان عنده الاهتمام بالحديث والأثر أكثر من أهل العراق.

ثم تناظروا في الماء المطلق، فقال له الشافعي رحمه الله بعد انتهاء البحث: (إنكم لتقولون في الماء قولاً) انظر لكلام الشافعي ، والحقيقة أنه قال كلمة شديدة في محمد بن الحسن الشيباني ، ولكنه صاغ الكلمة في أسلوب جميل، تسمعونه فلا تشعرون أنه طعن فيه، قال له: (إنكم لتقولون في الماء قولاً لعله لو قيل لعاقل: تخاطأ، فقال بقولكم، لكان قد أحسن التخاطؤ).

لاحظ، قد تظن أن الكلمة رقيقة، وهي في منتهى الشدة، ملخصها أنه قال له: إنكم لتقولون في الماء قولاً، لو قيل لعاقلٍ: ادَّعِ الجنون، فمثّل دور المجنون، لما فعل أحسن من قولكم في الماء، لاحظ فإنه كلام شديد جداً.

وكان محمد بن الحسن الشيباني سميناً بديناً، فكان الشافعي يقول: (ما أفلح سمين قط إلا محمد بن الحسن)، وكان يقول: (إن العلم يُزيل الدهن( لأن المعتاد أن طالب العلم الجيد يكثر من السهر، ومن كثرة استغراقه في الطلب باستمرار يضمر، لكنه مازال محتفظاً بهذا السمن، فمعنى ذلك أنه يأكل جيداً وينام جيداً، وهذا ينافي ما كان عليه العلماء، كما روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير قال: ( لا يستطاع العلم براحة الجسد)، وطالب العلم يحتاج إلى قوة أكثر للجسد حتى يتحمل روحه الفتية التي تحرمه النوم.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2601 استماع