الباقيات الصالحات


الحلقة مفرغة

الحمد لله على تقديره، وحُسن ما صرف من أموره، نحمده سبحانه على حسن خلقه وتصويره، وعلى إعطائه ومنعه، يخير للعبد وإن لم يشكره، ويستر الجهل على من يظهره، خوف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه جلَّ شانه، لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، بعثه الله رحمة للعالمين، ومِنّة للإنس والجن، بَراً حريصاً بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، عليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:-

فيا أيها الناس: إنه لا أحوج للمرء المسلم ولا أبلغ في أن يذكر به ويوصى من تقوى الله سبحانه، فإنها الزمام، وبها القوام، فتمسكوا -رحمكم الله- بوثائقها، واعتصموا بحقائقها؛ تئول بكم إلى أكنان الدعة وأوطان السعة، ومنازل العز والرفعة، في يوم تشخص فيه الأبصار، وينفخ فيه الصور فتدك الشم الشوامخ والصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومقرها قاعاً صفصفاً، وإلا فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً.

عباد الله: أمر مقرر معلوم، لا إخاله خافياً على كل من يحمل مع روحه عقلاً صحيحاً وعلماً صريحاً، وهو أن لكل بداية نهاية، وأن البزوغ يعقبه الأفول، وآحاد العبادات من فرائض وسنن لها أوقات تحد للبداية والنهاية، بل إن طاقات البشر البدنية والنفسية -بلا استثناء- قد تقوى حيناً من الدهر، فتقوى بقوتها العبادة، كما أنها قد تضعف أحياناً، فتضعف بضعها العبادة ما خلا أمراً واحداً لا تعيق عنه العوائق، يستوي فيه الشرخ والشيخ، والصحيح والسقيم، والقادر والعاجز، والقائم والقاعد، بل والمستلقي على ظهره، لا يحتاج إلى استنهاض قوىً، ولا استجماع نشاط، أتدرون ما ذاك عباد الله؟

إنه ذكر الله تعالى، ذكر الله الذي لا يستساغ عذر منقطع عنه، كيف لا وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي وابن ماجة .

ذكر الله -أيها المسلمون- أمر الله جل وعلا به الحجاج بعد انقضاء نسكهم، بل وأمرهم أن يلهجوا به مع الإكثار منه فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة:200]، وهذه الآية عباد الله! لا تفيد بمنطوقها ولا بمفهومها، أن يذكر المسلمون آباءهم مع الله، كلا. ولكنها تحمل طابع التوجيه إلى الواجب واللازم: وهو استبدال ذكر الله بذكر الآباء، بل إنها تؤكد على المسلمين أن يكونوا أشد ذكراً لله، ولا غرو في ذلك إذ المؤمنون هم أشد حباً لله، وذكر الله تعالى هو الذي يرفع العبد حقاً وليس هو التفاخر بالآباء، وما سوى ذلك من حطام الدنيا الفانية، وإن في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنىً جلياً، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، فالمؤمن الصادق يعيش على ذكر الله، ويموت عليه، وعليه يبعث، فما طابت الدنيا إلا بذكره جلَّ وعلا.

يقول ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟!

أيها المسلمون: يقول البارئ جل شأنه: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46]، ويقول: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً [مريم:76].

هاتان الآيتان قال عنهما جمهور من المفسرين: إن الباقيات الصالحات هن الكلمات المأثور فضلها، وهن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

روى الحاكم في مستدركه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا جُنتكم، قلنا: يا رسول الله! من عدو قد حضر؟ قال: لا. جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات )، ومعنى كونها باقيات صالحات أي: أنها من حرث الآخرة، وأن ثوابها باق لها.

الباقيات الصالحات غرس الجنة

إننا -أيها المسلمون- لفي حاجة داعية إلى تحصيل الباقيات الصالحات، إن في المسلمين من الضعف والخواء، والضيق والوحشة، وكثرة الهذيان واشتغال اللسان بما لا طائل من ورائه، ما يحتاجون معه إلى استشعار الباقيات الصالحات، ألا إن أحدنا ليمدن عينه إلى زهرة الحياة الدنيا، بل إن أحدنا ليرى فيه من الحرص على مسكنه، وعلى ما يزينه به من غراس جميل، وخضرة خلابة، هي من سعادة الناظر في الحياة الدنيا، ما يؤكد عليه أن يفقه الباقيات الصالحات.

تمعن أيها المرء! بكم تشتري الفسائل أو أطايب الشجر، وكم يستهويك غرسه أو جنيه، لله كم تزاود أو تماكس في بيعه وشرائه، ألا تشرئب إلى من يدلك على ما هو خير من ذلك كله، بل وأرخص منه، بل ولربما عدَّك العقلاء من الناس مفرطاً مفلساً إن لم تتعجل بشرائه أو غراسه؛ لأن الوقت محدود، والفرصة سانحة، والعذر ليس ذا بال.

إن شئت -أيها المرء- فاسمع الآتي: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أغرس غراساً فقال: يا أبا هريرة ! ما الذي تغرس؟ قلت: غراساً لي، قال: ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة } رواه ابن ماجة .

وروى مسلم والترمذي وغيرهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، -أي: مستوية- وأن غراسها، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }.

فوائد الباقيات الصالحات

قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجة : {لأنْ أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس }.

وفي رواية: {أربع أفضل الكلام لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }.

تلكم -أيها المسلمون- فضائل هذه الكلمات في الجملة، ناهيكم عن كون الإكثار منها سبباً في غفران الذنوب، ومحو الخطايا، وما أحوجنا إلى مثل ذلك.

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليك بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يحططن الخطايا، كما تحط الشجرة ورقها } رواه ابن ماجة .

أضيف إلى ذلك أيها المسلمون: أن ذكرها قد يكون سبباً في إجابة الدعاء، أو قبول الصلاة، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {من تعارَّ من الليل -أي: استيقظ- فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على لك شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن قام فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته } رواه البخاري وغيره.

إننا -أيها المسلمون- لفي حاجة داعية إلى تحصيل الباقيات الصالحات، إن في المسلمين من الضعف والخواء، والضيق والوحشة، وكثرة الهذيان واشتغال اللسان بما لا طائل من ورائه، ما يحتاجون معه إلى استشعار الباقيات الصالحات، ألا إن أحدنا ليمدن عينه إلى زهرة الحياة الدنيا، بل إن أحدنا ليرى فيه من الحرص على مسكنه، وعلى ما يزينه به من غراس جميل، وخضرة خلابة، هي من سعادة الناظر في الحياة الدنيا، ما يؤكد عليه أن يفقه الباقيات الصالحات.

تمعن أيها المرء! بكم تشتري الفسائل أو أطايب الشجر، وكم يستهويك غرسه أو جنيه، لله كم تزاود أو تماكس في بيعه وشرائه، ألا تشرئب إلى من يدلك على ما هو خير من ذلك كله، بل وأرخص منه، بل ولربما عدَّك العقلاء من الناس مفرطاً مفلساً إن لم تتعجل بشرائه أو غراسه؛ لأن الوقت محدود، والفرصة سانحة، والعذر ليس ذا بال.

إن شئت -أيها المرء- فاسمع الآتي: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أغرس غراساً فقال: يا أبا هريرة ! ما الذي تغرس؟ قلت: غراساً لي، قال: ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة } رواه ابن ماجة .

وروى مسلم والترمذي وغيرهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، -أي: مستوية- وأن غراسها، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }.