إنما الدنيا لأربعة نفر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.

روى الإمام الترمذي وأحمد بسندٍ قوي عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقْسِم عليهن: ما نَقَصَ مالٌ من صدقة، ولا صَبَرَ عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً، ولا فَتَحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب ذل، إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٍ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رَحِمَهُ، ويؤدي لله فيه حقَّه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٍ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي كَفُلان لفعلت فِعْله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٍ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رَحِمَهُ، ولا يؤدي حق الله فيه، فهذا بأخبث المنازل، ورجلٍ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، يقول: لو أن لي كَفُلان، لفعلتُ فِعْلَه، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء).

هذا حديث صحيح جميل! ما أحوجنا إلى معرفة فقهه! إذ ليس هناك أحد في الدنيا إلا وهو واحدٌ من هؤلاء الأربعة. فانظر أين أنت منهم؟

- عالم غني.

- عالم فقير.

- غني جاهل.

- جاهل فقير.

لا يخرج الناس عن هؤلاء الأربعة.

فالسعيد العاقل: هو الذي يختار لنفسه أفضل المنازل، أو التي تليها.

أسباب قسم الله ورسوله على أمر ما

بدأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بصيغة لم نعهدها منه، وهو أنه يُقْسِم على صدق الكلام، مع أنه مُصَدَّق بدون قسم، وقلَّ ما يُقْسِم على شيءٍ، فإذا أقسم على شيءٍ فاعلم أن المسألة فيها لبس، وتحتاج إلى تجلية، كما قال تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات:22-23] فأقسم بذاته على هذه القضية؛ لأن كثيراً من العباد يخلط فيها، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]؛ فأكثر الناس لا يصدق هذه الحقيقة، مع أن رزقك ورزق الذي يهددك بقطع رزقك في السماء لا في الأرض، وهذا الذي يهددك بأن يَفصلَك من عملك ويُجوعَك ويُضيعَك هو لا يملك رزقَه، بل رزقُه في السماء، ولو أن الرزق كان في الأرض لأذل الناسُ بعضُهم بعضاً، كما قال تبارك وتعالى: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ [الإسراء:100]، لو أن هذا الرزق بيد أحدٍ لاستكثره على الناس؛ لأنه بخيل ظالم جهول، وهذه صفة الإنسان، وأصله.

فلأن العباد لا يصدقون هذه المسألة، أقسم الله تبارك وتعالى أن هذا حق مع أننا نصدقه بغير قَسَم، وكان بعض سلفنا إذا قرأ هذه الآية بكى لها، ويقول: مَن أغضبَ الجليلَ حتى حَلَف؟! أي: نحن نصدقه بغير حَلِف، فحَلَف أن هذا حق، ثم ضرب لك مثلاً بدَهياً لا تشك أنت فيه قال: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] إذا كنت تشك في أنك تتكلم فشُكَّ في هذه القضية، فإذا كان الشك لا يرقى أصلاً إلى مسألة الكلام هذه فكيف يرقى إلى مسألة الرزق، وأنه في السماء؟!

فإذا رأيت الآية أو الحديث فيهما حَلِف فاعلم أن الأمر جليل.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)

النبي صلى الله عليه وسلم حلف على هذه الثلاث: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، العبد يظن أن الصدقة ضرراً، فإذا كان معه عشرة جنيهات فتصدق بجنيه يقول: أصبح معي تسعة، مع أنها لا تُحسَب هكذا، فحسابك أنت غير حساب الملك، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى عائشة رضي الله عنها تعد تمراً في جراب لتعرف كم سيبقى هذا التمر، وكذلك كان الناس يفعلون، كما نعد البرتقال، حتى نعرف كل واحد كم يأخذ! وهذا العد يضيع البركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة وهي تعد وتحسب: (لا توكي فيوكي الله عليك) لا تحسبي فيحسب الله عليك، وهي لما رأت أن في الجراب تمراً، كل يوم تأخذ منه ولا ينفد، استغربت، وقالت: ما هذا التمر؟ هل هذا في جراب أم أنه تمر في مخزن؟! فبدا لها أن تعده، فعدته.

والصدقة إذا أخرجتها يتلقاها الله بيمينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليأخذ الصدقة بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فلوه) (الفلو) هو الفرس المولود، تربيه على عينك حتى يصير مُهراً كبيراً، فالله تبارك وتعالى يأخذ منك الصدقة قرشاً أو جنيهاً، فإذا بك عندما توافي ربك يوم القيامة تراها كأمثال الجبال، وهذا مما يُسْعِد العبد.

ألم تر أنك وقد وضعتَ في جيبك مبلغاً كبيراً من المال، ثم نسيتَه، وليكن في قميص شتوي، فإذا انتهى الشتاء خلعت القميص ووضعته في الدولاب، وأنت تسأل نفسك: أين ذهب هذا المال؛ لكن لا تعرف، حتى يأتي الشتاء القادم، فتلبس القميص، فتضع يدك في جيبك، فإذا بك تجد المال، فتكون فرحتك به كبيرة، بالرغم أنه مالك، وما أحدٌ أعطاك إياه، لكنك تسعد به؛ لأنه جاءك عن غير حساب.

ولذلك المصيبة عندما تأتي غير متوقعة يكون ألمها شديداً جداً؛ كذلك النعمة إذا جاءت غير متوقعة يكون فرحها شديداً جداً أيضاً.

فإذا تصدقت فلا تحسبها كما يحسب بقية الخلق؛ لأن المال لا ينقُص من صدقة أبداً، إنما الله تبارك وتعالى يربيها لك.

إذا أعطيت الدينار أو الدرهم فوقع في يد الكريم الملك الغني، فإنه يضاعفها لك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وليست المسألة ستقف عند هذا الحد، بل الله يضاعف لمن يشاء.

فلأن العباد يحسبونها خطأً أقسم علي أنه لا ينقص أبداً (ما نقص مال من صدقة).

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما صبر عبد على ظلم)

قال: (وما صبر عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً): يعطي له هيبةً في قلوب الخلق؛ لأن رد السيئة بالسيئة أسهل ما يكون، وأنت تجهل على من جهل عليك هذا أسهل؛ لكن أن تكتم غيظَك، وتحلُم على من أساء عليك، فهذا لا يستطيعه إلا الرجال.

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعدما حصل الخلاف الذي حصل واستتب له الأمر، قام يخطب في المسلمين، وكان المسلمون يريدون عبد الله بن عمر أميراً للمؤمنين، وعبد الله بن عمر رجلٌ من رجالات الآخرة، حتى قال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وغير واحدٍ من الصحابة: (ما منا من واحدٍ إلا تقلبَت به الدنيا وتقلب بها إلا ابن عمر ؛ إنه على العهد الأول) أيام كان الرسول موجوداً.

فهذا رجل من رجالات الآخرة أتته الخلافة تحت قدمه فأباها ورفضها، ولو أن عبد الله بن عمر رشَّح نفسه للخلافة لأخذها بإجماع، ليس لأن أباه عمر ، بل لأنه عبد الله بن عمر نفسه، وبسبب عمله.

فـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما استتبت له الخلافة، قال: (إننا أحق بهذا الأمر من فلان وأبيه)، يعرض بـابن عمر، فالكلمة أغاظت ابن عمر ، وكان جالساً في الناس، قال: (فحملت قبوتي، وأردت أن أقوم، فأقول له: بل مَن جالَدَك وأباك على الإسلام أحق بها) قال: (ثم خشيتُ أن تكون فتنة، فذكرتُ ما عند الله، فجلستُ). أي: ذكر الجنة، وذكر الصبر.

وهناك ناسٌ يستفيضون في أعراض الخلق، ولا يردعهم رادع من تقوى ولا سلطان، فمثل هذا إن أردت أن تحفظ عزتك وكرامتك لا ترد عليه، وقديماً قيل: (لا تجاري السفيه بسفهٍ مثله) فهذا يدل على أنك رضيت سلوكه فحذَوت مثالَه إذ لو كنت تنكر عليه سفاهته فلم تسافهتَ عليه؟!

يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍِ زاده الإحراق طيبا

وهل تحس بحلاوة البخور إلا إذا أشعلت النار فيه؟!

فما تشعر بقيمة الرجال إلا في الغضب، فالرجل نقي المعدن الذي لا يجتاله الغضب عن الحق ولو قليلاً، ولذلك يعرف الناس في هذه المواقف، فإذا رأيت رجلاً متحولاً متقلباً، إذا أغضبتَه انقلب عليك، فإذا أرضيتَه كان كالنعل في قدمك، اغسل يديك منه، لأنه لا خير فيه.

ولذلك مدح الله تبارك وتعالى هذا الصنف قال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] كلمة (الغيظ) فيها حرف الظاء وهو من حروف الاستعلاء والتفخيم، وشكل الحرف نفسُه يوحي لك بالمعنى، فتحس أنه قربة ملأى، أي: ممتلئ غيظاً؛ لأن الغيظ يملأ الإنسان، ودائماً حروف الاستعلاء تحس فيها بفخامة وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ليس هذا فقط.

بل أيضاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] لأنك لا بد أن تصرف الغيظ، ولا يكفي أن تكظم فقط؛ لأنك إن كظمت مرة بعد مرة ستنفجر، لذلك سن بعد الكظم العفو؛ لأنه لا بد من تصريف للغيظ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].

وهذا التصريف ليس سهلاً، وقليل من الناس هو الذي يصرِّف غيظ، ولهذا رغَّبك في التصرف فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] كأن كظْمَك ثم صَرْفَك لهذا الغيظ بالعفو إحسان، والإحسان هو أعظم الدرجات كلِّها، فإن المراتب ثلاث:

- إسلام.

- إيمان.

- إحسان.

وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وقليل من الخلق هم أصحاب هذه المرتبة؛ بل هم أندر من الكبريت الأحمر.

إذاً: الصبر على المظلمة عز بما يجعل الله لك من الهيبة في قلوب الخلق، ولذلك أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (إن الرجل ليكبُر في نظري حتى يتكلم) طالما أنه ساكت فهو كبير؛ لأنك لا تدري أهذا عاقل أم مجنون؟ كلامُه در أم بعر؟ فإذا تكلم الإنسان وَزَنَ نفسَه؛ لكن كلما كان الإنسان ساكتاً ظَلَّ كبيراً.

فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام تثبيتاً لأصحاب هذه المرتبة أقسم عليها، أي: ليس ردُّك وانتقامك من صاحبك دليل العز والغلبة، بل بما يضعه الله لك من الهيبة في قلوب الخلق. (وما صبر عبدٌ على مظلمة إلا زاده الله بها عزاً).

معنى: سؤال الناس ذل

قال: (ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): وهذا -واللهِ- حق. وانظر إلى أي شَحَّاذ الآن! قبل أن يمتهن هذه المهنة القبيحة الرديئة، هل كان يتخيل أنه يمكن أن يُقَبِّل نعلَك بعشرة قروش؟! ما كان يتخيل هذا لا في عشرة قروش ولا عشرة جنيهات بل ولا أكثر من ذلك، إذ ما قيمتها، وهو يظل يترجى برغم أنه ليس محتاجاً، وحتى وإن كان كذلك فقد أراق ماء وجهه، فيرده مَن هو أحقر منه، وهذا ذُلٌّ، يظل يسأل الناس فيردونه أو يعطونه، والذي يعطيه يكلِّح في وجهه ولا تكاد ترى رجلاً يعطي الشحاذ من أول مرة، بل يقول: الله يفتح عليك، ولا يعطيه إلا بعدما يكاد الشحاذ يمسك بتلابيبه ويقول: اعمل معروفاً، أريد أن آكل، أريد أن أشرب، فيعطيه المال وهو كاره، فهذا منتهى الذل.

ففَتَح هذا على نفسه باب مسألةٍ فأراق ماء وجهه على كل الأعتاب، حتى على عتبة اللئيم الذي لا يستحق التكريم، لذلك يجب أن يتعفف الإنسان.

الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات رائعة في العفة، وفي صَوْن النفس عن المهانة، قال رحمه الله:

لقَلْعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمْسِ

وقَرُّ بَرْدٍ وقَوْدُ فـردٍ ودَبْغُ جلدٍ بغير شمْسِ

ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ برُبعِ فلْسِ

كل هذا ...

أهونُ مِن وقفةِ الحـرِّ يرجو نوالاً ببابِ نحْسِ

مع أن الأشياء التي ذكرها منها ما هو مستحيل، كأن ترجع الأمس! وأن تحمل عاراً، بأن يحمل الإنسان العار على أكتافه، ويبيع داره بربع فلس، فيبيعها بخسارة واضحة جداً، ودبغ جلدٍ بغير شمس، مع أن الجلد لا يدبغ بغير الشمس؛ لأنه يتعفن مباشرة، بل لا بد من الشمس، وإلا فلن تنتفع بالدباغ ويذهب عليك الجلد، فكل هذه الخسائر أهون من أن يقف الحر على باب لئيم، يطلب نوالاً، أي: يطلب عطاءً.

بدأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بصيغة لم نعهدها منه، وهو أنه يُقْسِم على صدق الكلام، مع أنه مُصَدَّق بدون قسم، وقلَّ ما يُقْسِم على شيءٍ، فإذا أقسم على شيءٍ فاعلم أن المسألة فيها لبس، وتحتاج إلى تجلية، كما قال تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات:22-23] فأقسم بذاته على هذه القضية؛ لأن كثيراً من العباد يخلط فيها، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]؛ فأكثر الناس لا يصدق هذه الحقيقة، مع أن رزقك ورزق الذي يهددك بقطع رزقك في السماء لا في الأرض، وهذا الذي يهددك بأن يَفصلَك من عملك ويُجوعَك ويُضيعَك هو لا يملك رزقَه، بل رزقُه في السماء، ولو أن الرزق كان في الأرض لأذل الناسُ بعضُهم بعضاً، كما قال تبارك وتعالى: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ [الإسراء:100]، لو أن هذا الرزق بيد أحدٍ لاستكثره على الناس؛ لأنه بخيل ظالم جهول، وهذه صفة الإنسان، وأصله.

فلأن العباد لا يصدقون هذه المسألة، أقسم الله تبارك وتعالى أن هذا حق مع أننا نصدقه بغير قَسَم، وكان بعض سلفنا إذا قرأ هذه الآية بكى لها، ويقول: مَن أغضبَ الجليلَ حتى حَلَف؟! أي: نحن نصدقه بغير حَلِف، فحَلَف أن هذا حق، ثم ضرب لك مثلاً بدَهياً لا تشك أنت فيه قال: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] إذا كنت تشك في أنك تتكلم فشُكَّ في هذه القضية، فإذا كان الشك لا يرقى أصلاً إلى مسألة الكلام هذه فكيف يرقى إلى مسألة الرزق، وأنه في السماء؟!

فإذا رأيت الآية أو الحديث فيهما حَلِف فاعلم أن الأمر جليل.

النبي صلى الله عليه وسلم حلف على هذه الثلاث: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، العبد يظن أن الصدقة ضرراً، فإذا كان معه عشرة جنيهات فتصدق بجنيه يقول: أصبح معي تسعة، مع أنها لا تُحسَب هكذا، فحسابك أنت غير حساب الملك، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى عائشة رضي الله عنها تعد تمراً في جراب لتعرف كم سيبقى هذا التمر، وكذلك كان الناس يفعلون، كما نعد البرتقال، حتى نعرف كل واحد كم يأخذ! وهذا العد يضيع البركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة وهي تعد وتحسب: (لا توكي فيوكي الله عليك) لا تحسبي فيحسب الله عليك، وهي لما رأت أن في الجراب تمراً، كل يوم تأخذ منه ولا ينفد، استغربت، وقالت: ما هذا التمر؟ هل هذا في جراب أم أنه تمر في مخزن؟! فبدا لها أن تعده، فعدته.

والصدقة إذا أخرجتها يتلقاها الله بيمينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليأخذ الصدقة بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فلوه) (الفلو) هو الفرس المولود، تربيه على عينك حتى يصير مُهراً كبيراً، فالله تبارك وتعالى يأخذ منك الصدقة قرشاً أو جنيهاً، فإذا بك عندما توافي ربك يوم القيامة تراها كأمثال الجبال، وهذا مما يُسْعِد العبد.

ألم تر أنك وقد وضعتَ في جيبك مبلغاً كبيراً من المال، ثم نسيتَه، وليكن في قميص شتوي، فإذا انتهى الشتاء خلعت القميص ووضعته في الدولاب، وأنت تسأل نفسك: أين ذهب هذا المال؛ لكن لا تعرف، حتى يأتي الشتاء القادم، فتلبس القميص، فتضع يدك في جيبك، فإذا بك تجد المال، فتكون فرحتك به كبيرة، بالرغم أنه مالك، وما أحدٌ أعطاك إياه، لكنك تسعد به؛ لأنه جاءك عن غير حساب.

ولذلك المصيبة عندما تأتي غير متوقعة يكون ألمها شديداً جداً؛ كذلك النعمة إذا جاءت غير متوقعة يكون فرحها شديداً جداً أيضاً.

فإذا تصدقت فلا تحسبها كما يحسب بقية الخلق؛ لأن المال لا ينقُص من صدقة أبداً، إنما الله تبارك وتعالى يربيها لك.

إذا أعطيت الدينار أو الدرهم فوقع في يد الكريم الملك الغني، فإنه يضاعفها لك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وليست المسألة ستقف عند هذا الحد، بل الله يضاعف لمن يشاء.

فلأن العباد يحسبونها خطأً أقسم علي أنه لا ينقص أبداً (ما نقص مال من صدقة).

قال: (وما صبر عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً): يعطي له هيبةً في قلوب الخلق؛ لأن رد السيئة بالسيئة أسهل ما يكون، وأنت تجهل على من جهل عليك هذا أسهل؛ لكن أن تكتم غيظَك، وتحلُم على من أساء عليك، فهذا لا يستطيعه إلا الرجال.

معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعدما حصل الخلاف الذي حصل واستتب له الأمر، قام يخطب في المسلمين، وكان المسلمون يريدون عبد الله بن عمر أميراً للمؤمنين، وعبد الله بن عمر رجلٌ من رجالات الآخرة، حتى قال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وغير واحدٍ من الصحابة: (ما منا من واحدٍ إلا تقلبَت به الدنيا وتقلب بها إلا ابن عمر ؛ إنه على العهد الأول) أيام كان الرسول موجوداً.

فهذا رجل من رجالات الآخرة أتته الخلافة تحت قدمه فأباها ورفضها، ولو أن عبد الله بن عمر رشَّح نفسه للخلافة لأخذها بإجماع، ليس لأن أباه عمر ، بل لأنه عبد الله بن عمر نفسه، وبسبب عمله.

فـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما استتبت له الخلافة، قال: (إننا أحق بهذا الأمر من فلان وأبيه)، يعرض بـابن عمر، فالكلمة أغاظت ابن عمر ، وكان جالساً في الناس، قال: (فحملت قبوتي، وأردت أن أقوم، فأقول له: بل مَن جالَدَك وأباك على الإسلام أحق بها) قال: (ثم خشيتُ أن تكون فتنة، فذكرتُ ما عند الله، فجلستُ). أي: ذكر الجنة، وذكر الصبر.

وهناك ناسٌ يستفيضون في أعراض الخلق، ولا يردعهم رادع من تقوى ولا سلطان، فمثل هذا إن أردت أن تحفظ عزتك وكرامتك لا ترد عليه، وقديماً قيل: (لا تجاري السفيه بسفهٍ مثله) فهذا يدل على أنك رضيت سلوكه فحذَوت مثالَه إذ لو كنت تنكر عليه سفاهته فلم تسافهتَ عليه؟!

يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍِ زاده الإحراق طيبا

وهل تحس بحلاوة البخور إلا إذا أشعلت النار فيه؟!

فما تشعر بقيمة الرجال إلا في الغضب، فالرجل نقي المعدن الذي لا يجتاله الغضب عن الحق ولو قليلاً، ولذلك يعرف الناس في هذه المواقف، فإذا رأيت رجلاً متحولاً متقلباً، إذا أغضبتَه انقلب عليك، فإذا أرضيتَه كان كالنعل في قدمك، اغسل يديك منه، لأنه لا خير فيه.

ولذلك مدح الله تبارك وتعالى هذا الصنف قال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] كلمة (الغيظ) فيها حرف الظاء وهو من حروف الاستعلاء والتفخيم، وشكل الحرف نفسُه يوحي لك بالمعنى، فتحس أنه قربة ملأى، أي: ممتلئ غيظاً؛ لأن الغيظ يملأ الإنسان، ودائماً حروف الاستعلاء تحس فيها بفخامة وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ليس هذا فقط.

بل أيضاً: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] لأنك لا بد أن تصرف الغيظ، ولا يكفي أن تكظم فقط؛ لأنك إن كظمت مرة بعد مرة ستنفجر، لذلك سن بعد الكظم العفو؛ لأنه لا بد من تصريف للغيظ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].

وهذا التصريف ليس سهلاً، وقليل من الناس هو الذي يصرِّف غيظ، ولهذا رغَّبك في التصرف فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] كأن كظْمَك ثم صَرْفَك لهذا الغيظ بالعفو إحسان، والإحسان هو أعظم الدرجات كلِّها، فإن المراتب ثلاث:

- إسلام.

- إيمان.

- إحسان.

وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وقليل من الخلق هم أصحاب هذه المرتبة؛ بل هم أندر من الكبريت الأحمر.

إذاً: الصبر على المظلمة عز بما يجعل الله لك من الهيبة في قلوب الخلق، ولذلك أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (إن الرجل ليكبُر في نظري حتى يتكلم) طالما أنه ساكت فهو كبير؛ لأنك لا تدري أهذا عاقل أم مجنون؟ كلامُه در أم بعر؟ فإذا تكلم الإنسان وَزَنَ نفسَه؛ لكن كلما كان الإنسان ساكتاً ظَلَّ كبيراً.

فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام تثبيتاً لأصحاب هذه المرتبة أقسم عليها، أي: ليس ردُّك وانتقامك من صاحبك دليل العز والغلبة، بل بما يضعه الله لك من الهيبة في قلوب الخلق. (وما صبر عبدٌ على مظلمة إلا زاده الله بها عزاً).

قال: (ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): وهذا -واللهِ- حق. وانظر إلى أي شَحَّاذ الآن! قبل أن يمتهن هذه المهنة القبيحة الرديئة، هل كان يتخيل أنه يمكن أن يُقَبِّل نعلَك بعشرة قروش؟! ما كان يتخيل هذا لا في عشرة قروش ولا عشرة جنيهات بل ولا أكثر من ذلك، إذ ما قيمتها، وهو يظل يترجى برغم أنه ليس محتاجاً، وحتى وإن كان كذلك فقد أراق ماء وجهه، فيرده مَن هو أحقر منه، وهذا ذُلٌّ، يظل يسأل الناس فيردونه أو يعطونه، والذي يعطيه يكلِّح في وجهه ولا تكاد ترى رجلاً يعطي الشحاذ من أول مرة، بل يقول: الله يفتح عليك، ولا يعطيه إلا بعدما يكاد الشحاذ يمسك بتلابيبه ويقول: اعمل معروفاً، أريد أن آكل، أريد أن أشرب، فيعطيه المال وهو كاره، فهذا منتهى الذل.

ففَتَح هذا على نفسه باب مسألةٍ فأراق ماء وجهه على كل الأعتاب، حتى على عتبة اللئيم الذي لا يستحق التكريم، لذلك يجب أن يتعفف الإنسان.

الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات رائعة في العفة، وفي صَوْن النفس عن المهانة، قال رحمه الله:

لقَلْعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمْسِ

وقَرُّ بَرْدٍ وقَوْدُ فـردٍ ودَبْغُ جلدٍ بغير شمْسِ

ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ برُبعِ فلْسِ

كل هذا ...

أهونُ مِن وقفةِ الحـرِّ يرجو نوالاً ببابِ نحْسِ

مع أن الأشياء التي ذكرها منها ما هو مستحيل، كأن ترجع الأمس! وأن تحمل عاراً، بأن يحمل الإنسان العار على أكتافه، ويبيع داره بربع فلس، فيبيعها بخسارة واضحة جداً، ودبغ جلدٍ بغير شمس، مع أن الجلد لا يدبغ بغير الشمس؛ لأنه يتعفن مباشرة، بل لا بد من الشمس، وإلا فلن تنتفع بالدباغ ويذهب عليك الجلد، فكل هذه الخسائر أهون من أن يقف الحر على باب لئيم، يطلب نوالاً، أي: يطلب عطاءً.

بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضايا الثلاث دلف إلى أنواع الناس، وهذا رباط قوي جداً بين أول الحديث وآخره.

ليس الخبر كالمعاينة

قال: (إنما الدنيا لأربعة نفرٍ) ولم يقل: إنما الآخرة، فذكر منهم مَن هم من أهل الآخرة، بل هم أجلُّ أهل الآخرة، حتى يقول لك: إنك ستجني ثمرة الذي تفعله وأنت حيٌ قبل أن تموت، فتعاينه بأم رأسك، فإن الإنسان يحب العاجلة، وبعض الناس قد يدفعه أن يرى مكانه في العاجلة ليعمل للآخرة، فليس المُخْبَر كالمعايِن، وإذا رأيت الشيء بعينيك زاد إيمانك إذا كنت من أهل الإيمان، وتصوُّرك للمسألة هو الذي يرسخ الإيمان في صدرك، ورؤياك للقضية هو الذي يثبِّت اليقين.

ألم ترَ إلى موسى عليه السلام لما كان يناجي ربه في الطور، فأبلغه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل، فعلم موسى عليه السلام أنهم عبدوا العجل، أخذ الألواح في يده وفيها هدىً ونور، لكنه أول ما ذهب ورأى العجل ألقى الألواح من الغضب، بينما لم يلقِ الألواح لما أخبره الله عز وجل أنهم عبدوا العجل لأنه لم يرَ بعينيه.

وبهذا البحث تفهم النكتة في قوله تبارك وتعالى: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، فإن المظلوم لا يشفى إلا إذا رأى مصرع ظالمه، فإذا رأى ظالمَه وقد هلك فيشعر ويحس أن الغيظ ذهب، بخلاف ما لو كان يسمع أنه هلك ولا يراه.

لذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الدنيا)، أي: إن مَن فَعَل هذه الأشياء سيكون له في الدنيا شأن، لكن شأن يختلف على حسب الصفات الموجودة في الإنسان.

هناك أشخاص حتى الآن يذكرون باللعنات: كفرعون، وقارون، وهامان، وأبي جهل ، وأبي لهب؛ حتى دفع حب الذكر ذاك الرجل أن يبول في ماء زمزم أيام الحج، فلما قيل له: لِمَ؟ قال: أردتُ أن أُذْكَر ولو باللعنات!!

فهناك كثير من الخلق يُذْكَرون؛ لكن إذا ذُكِروا لُعِِنوا.

لذلك المسلم لا يبحث عن الشهرة؛ فإن هناك مشهورين؛ لكن باللعنات، ولكن يبحث عما يشتهر به.

ومن عاقبة الإخلاص أن الله تبارك وتعالى يجعل لك لسان صدقٍ في الآخِرين، وهذا نوع من العز الذي أشار إليه الحديث: (إنما الدنيا)، فالأنبياء والأولياء الذين كانوا أخلص الناس لله، نحن الآن نذكرهم، بل إن بعض العباد كان يعبد الله بين أربعة جدر، وصل إلينا خبره، وكان يستتر بعبادته، فكيف وصل؟!

هذه هي عاقبة الإخلاص.

فالله تبارك وتعالى يصير ذكرك حسناً، برغم أنك لم تسعَ إلى هذا الذكر؛ لكنه يصيره لك.

فالدنيا لهؤلاء الأربعة.