تأملات في سورة ق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم هشام بنت حارثة أنها قالت: ما حفظت سورة (ق) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقرؤها على المنبر.

وهذه الحفاوة من النبي عليه الصلاة والسلام لهذه السورة لها مغزى، وسورة (ق) من القرآن المكي، والمعاني الرئيسية التي يدور عليها القرآن المكي هي: إثبات التوحيد لله عز وجل، وإثبات صفاته تبارك وتعالى، وذكر القيامة والبعث والجزاء والجنة والنار، وذكر أصناف الناس، ثم ذكر العلة في دخول الداخل النار وفي دخول الداخل الجنة، هذه هي أهم المعاني التي يدور عليها القرآن المكي.

لذلك إذا قرأت القرآن فافتح أذنيك وقلبك؛ لأن الله عز وجل أمرنا بذلك في سورة (ق) أيضاً فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] فتأمل في قوله: (ألقى السمع).

(ألـقى) فيها معنى الاستسلام، فلو قلت لك: ألق أذنك، أي: لا تخف، إنما سيلقى عليك حق، لأن هذه الأذن ينبغي أن تغربل ما يلقى إليها، فقد يلقى إليها الكذب، فينبغي أن يميز المرءُ، فلا يقال: ألق السمع، إلا والكلام حق، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37] فإذا أصغى المرء بقلبه، انتفع بالقرآن، كما ذكره البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (دخلت المدينة في فداء أسرى بدر -وكان كافراً إذ ذاك- فوافى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بالناس، فسمع بعض آياتٍ من سورة الطور: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍأَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون [الطور:35-37] قال: فكاد قلبي أن يطير) وهذا رجل كافر، دخل المدينة كافراً، فلما سمع هذه الآيات قال: (فكاد قلبي أن يطير) أن يطير من موضعه؛ لأن ما جاء في هذه الآيات من الأسئلة لا يستطيع منصف على الإطلاق أن يجد لها جواباً على نحو جواب المشركين، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] ؟ فلا بد لكل صنعةٍ من صانع.

جماعة من الملاحدة أتوا أبا حنيفة رحمه الله يجادلونه في الله تبارك وتعالى: أهو حي؟ أهو موجود؟ فقال لهم: دعوني أتفكر فإني مشغول، قالوا: بم؟ قال: قيل لي: إن سفينةً تمشي في البحر بغير قائد، وتأتي فترسوا على الشاطئ بغير قائد، وتحمل نفسها بالبضائع، وتفرغ البضائع أيضاً بنفسها، فقالوا له: هذا مستحيل!! فقال لهم: (يا نوكى)! -الأنوك: هو الأحمق- إذا كان هذا في سفينة، وأنتم تنكرون أنها تحمل نفسها، وتفرغ نفسها، وتمشي على البحر بغير قائد وترسو بغير قائد، أهذا الكون على ما فيه من الترتيب منذ خلق، ليس له صانع؟!!

فهذا المشرك لما يقال له: قول الله عز وجل: (أم خلقوا)؟ انظر إلى كلمة (أم) هذه، وخزة في هذا الضمير الوثني، تكررت لفظة (أم) هذه أربع عشرة مرة، كلها وراء بعضها، أربع عشرة مرة، تخز في هذا الضمير الوثني، الذي لو وقف وتدبر لحظة لأجاب، ولذلك يقول جبير بن مطعم : (كاد قلبي أن يطير) من وقع الآيات.

ذكر القيامتين، الصغرى والكبرى

فسورة (ق) من جملة القرآن المكي الذي يخاطب القلب، ذكر ربنا تبارك وتعالى فيه القيامتين: القيامة الصغرى، والقيامة الكبرى، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] هذه هي القيامة الصغرى، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:20] وهذه هي القيامة الكبرى، فذكر القيامتين معاً، لكنه تبارك وتعالى نبهنا على داءٍ عظيم، يقع فيه أكثر الناس: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ، يقال: هذا فلان حاد عن الطريق. أي: تركها وسلك بنيات الطريق، أي: ترك الطريق العمومي الواضح وسلك الطرق الفرعية، فيقال له: حاد، أو من ترك سبيل الحجة وكابر وجادل يقال: حاد، أي: انحرف، فربنا عز وجل ينبهنا إلى هذا الداء العظيم؛ وهو عدم ذكر الموت.

هذا الموت الذي كنت منه تحيد، وكنت طول حياتك تهرب منه، ولا تريد أن تذكره، ولا تريد أن تعمل لما بعده، ولو قدر وذكرت الموت في بيتك فإن كل من فيه سيشورون عليك قائلين: اترك الكلام في هذا الموضوع، لماذا نترك الكلام فيه؟ كل المصائب -بلا مبالغة- سببها عدم ذكر الموت.

حقيقة الزهد

جاء من آثار نشر المذهب الإرجائي في الأمة، أن خطباء المساجد يتلقون توصيات شفوياً في الاجتماعات فيقال للخطيب: لا تكثر من ذكر الموت ولا النار حتى لا ترهق نفسية الناس، ولكن اذكر رحمة الله تبارك وتعالى، واذكر الجنة وما فيها من النعيم، فإن هذا الرجل إذا عرف الجنة كان من الصابرين موقناً أنه سوف يدخل الجنة، وأنه إذا لم يحرز الدنيا فسيحرز الآخرة، وهذا خطأ في وضع العلاج، ويأتي في مقابلهم الذين رفضوا أحاديث الزهد في الدنيا، وقالوا: كيف نقول للمسلمين وهم يعيشون على هامش الحياة: ازهدوا في الدنيا؟ وكيف يملك الكفار الدنيا ونحن نقول للمسلمين: ازهدوا في الدنيا؟ وكأننا نطلق الدنيا ويتزوجها الكافر، لابد أن تكون الدنيا بأيدينا، ويحضون الناس على الدنيا وعلى التجارة وعلى الزراعة وعلى استثمار الأموال، وهذا أيضاً يحتاج إلى تخصيص.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما زهَّد الناس في الدنيا زهَّدهم في فضولها، ولم يزهدهم فيما يجب على المسلم أن يحصل، فمثلاً: لم يزهدهم في الإنفاق على الأولاد. حيث قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتاً) ، وفي اللفظ الآخر لـأبي داود : (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) .

استرعاك الله عز وجل رعية: زوجة وأولاداً وأباً وأماً، فيجب عليك أن تنفق عليهم، فإذا قصر الرجل في النفقة على أهله وعلى أولاده فإنه يؤاخذ عند الله يوم القيامة، فعليه أن يجتهد، حتى لو كان العائد قليلاً، وهذا المفهوم لا يتطابق مع ما جاء في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن التكالب على فضول الدنيا، وأكثر الناس لا يسعون في الواجبات، بل يسعون في الفضول، فيريد أن يحصل أموالاً أكثر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) يعني: إذا وجدوا الغداء لا يكون عندهم العشاء، وإذا كان عندهم العشاء لا يكون عندهم الإفطار، هذا هو القوت.

وإنما كان يقول ذلك حتى يعتمد بقلبه على الله، فالذي ليس عنده العشاء يقول: يا رب! ، لكن كثيراً من الناس الذين معهم أموال لا يقولون: يا رب؛ استغناء عن دعائه تعالى، (فالشيك) في جيبه، والفلوس في (البنك)، متى احتاج المال ذهب إلى (البنك) ليصرفه، بخلاف الفقير، الذي يذكر الله عز وجل عن حاجة، فهذا هو الذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه؛ أن تكون الدنيا في قلبك، وقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تبسط الدنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من سبقكم) .

وأنت تجد الفقراء متحابين ليس بينهم خصومات؛ لا في الأموال، ولا في أعراض الدنيا، ففيهم راحة القلب، فكلما استراح القلب فقه عن الله عز وجل كلامه، فالذي يعين المرء على التخلص من الدنيا ذكر الموت، قال علي بن أبي طالب : ( ما كان الموت في ضيق إلا وسعه، ولا في واسع إلا ضيقه ).

وحشة القبر

لو أن الله عز وجل امتحنك ببلاء: مرض أو فقر، أو أي مصيبة من المصائب، وذكرت وحدتك عند دفنك، وأنك غريب، ولا أحد يشعر بك، ولا يتوجع لك، أعني: أن أهلك لا يعلمون أنك تتألم فيتصدقون عنك، ليتهم يعلمون أنك في كرب فيدعون لك؛ لكن شُغل الأولاد بالدنيا، فقليل من الأبناء الذين يترحمون على آبائهم، لاسيما إذا طال بهم العهد فجاوز ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة، فإنهم لا يلبثون أن ينسوهم، فليت أن مصاب الميت يصل إلى الأحياء حتى يترحموا عليه ويدعوا له.

ذات مرة في سنة واحد وثمانين حين كنا في السجن، كان معنا سجين من أسوان، والمسافة ما بين أسوان وما بين القاهرة ثماني عشرة ساعة بالقطار، وكان كل خمسة عشر يوماً في وقت الزيارة يأتي أهلنا إلينا بالطعام والشراب،فنطمئن عليهم ونراهم، ونأكل ونشرب معهم، أما هذا فطول مدة سجنه لم يأته أحد، فقلنا: إن هذا الرجل يعيش في كرب، أليس له أحد يسأل عنه؟ فتشعر حينها بغربة الرجل، ففي كل زيارة تنظر إليه فتراه مكتئباً، ويظل يومه ذاك في هذا الاكتئاب؛ لأنه لا أحد يتوجع لمصابه، ولا أحد يسأل عنه، ولا أحد يهتم به، فخطر لي هذا المعنى في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] ، كحال من يؤتى به يوم القيامة فيدخل الجنة، بينما يقاد ابنه إلى النار ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً.

في مذابح البوسنة التي ارتكبها أهل الصليب ضد المسلمين، كانوا يأخذون الولد أمام أبيه، والولد يصرخ: يا أبي! أنقذني، يريدون أن يذبحوه، ولا يستطيع الوالد أن يفعل شيئاً، قلبه يتمزق وهو يرى الولد يستغيث به ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، بينما في الآخرة فلن يذبح الولد وإنما سيساق إلى النار، ولا يستطيع الوالد أن يفعل لابنه شيئاً، إذا خرج من رحمة أرحم الراحمين فمن يرحمه؟!!

قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة مائة جزءاً، فأنزل على الأرض جزءً واحداً -من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل الخلائق من إنس وجن، وحشرات وطيور، كل المخلوقات تتراحم بجزء واحد- حتى إن الدابة -أي: العجماء التي لا تعقل- لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه كل ذلك بجزء واحد من الرحمة، وادخر تسعةً وتسعين جزءاً لعباده الصالحين في القيامة) فإذا حرم المرء من تسعة وتسعين رحمة فيا له من شقي! يا له من شقي، هذا الذي لم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى!.

الزهد في الدنيا: القصد به زهد القلب، لو كانت الدنيا في يديك وزهد فيها قلبك لتركتها في لحظة، وإذا سلبت منك فلن تبكي عليها، وإنما ستفعل كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.

طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، نام في فراشه يوماً مسهد الطرف، لا يستطيع أن ينام، جفاه النوم، وامرأته إلى جانبه، فقالت: ( ما لك؟ هل رابك منا شيء فنعتبك -تعني: هل ظهر منا ما يغضبك فنعتذر لك-؟ فقال لها: ِنعمَ حليلة المرء المسلم أنت -يعني: أنت نعم الزوجة، لا أشتكي منك- ولكن جاءني مال، ولا أدري ماذا أفعل به -لا يقول هذا إلا رجل خرجت الدنيا من قلبه إلى يده- فقالت: ادع أرحامك ففرقه فيهم. قال: نعم الرأي. فدعا أرحامه ففرَّق فيهم ثلاثمائة ألف درهم ) (ثلث مليون) درهم، ولم تؤثر على الرجل أبداً، لماذا؟ لأنها ليست في قلبه، بل هي في يده، فالذي أعطاه ثلاثمائة ألف درهم سيخلف عليه أضعافاً مضاعفة، وعنده اعتقاد بهذا، وعنده قناعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة ..) ، فالإنسان حين يعطي أرحامه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) .

فهان عليه ثلاثمائة ألف درهم، هذا هو الزهد الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام وربى أصحابه عليه.

كل أحاديث الزهد الموجودة في كتب السنن وكتب الصحاح، المقصود بها زهد القلب في الدنيا، فإذن لا تعارض، لكن إذا وجدنا الناس تكالبوا على الدنيا فمن العبث ومن الخطر ومن الخطأ أن نجر إليهم الزاد ونقول لهم: انطلقوا في الدنيا.. نحن نحتاج إلى الكادر المسلم.. هذا الرجل الذي تشجعه على الدنيا لا يخرج زكاة ماله، فكيف تقول: نريد التاجر المسلم، وهو لا يخرج ماله؟! هذا الإنسان ما أسلم بعد الإسلام المنجي.

كذلك الكلام عن الموت يرقق القلب، وكتب الرقائق وكتب الزهد كلها إنما تجر إلى هذا، وما زهد الزاهدون في الدنيا إلا لقصر عمرها وعظيم خطرها، قال صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله عز وجل طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير!) كيف يأكل الطعام الشهي، ثم انظر كيف يخرج هذا الطعام؟ كذلك الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا أينعت نعت، إذا أدبرت عن المرء سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه خلعت عليه محاسن غيره.

ويظهر هذا في حال كثير من الطغاة، نظرت في كتاب -أيام أن كان بيننا وبين العراق وفاق- وكان الكتاب يوزع مجاناً في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وكان عبارة عن صور للرئيس العراقي، وظهر في إحداها وهو يمسك يمسك المصحف ومكتوب تحتها: الرئيس المؤمن، وصورة له وهو يضع يده على الفرس مكتوب تحتها: فارس العرب.. وهكذا، فالكتاب كله صور، فهل هو فارس؟ هل هو مؤمن؟ هل هو بطل؟ هل هو مغوار؟ قد يكون فيه بعض ما في هذا الكتاب من الأوصاف، لكن ليس كلها، فلما أقبلت الدنيا عليه خلعوا عليه محاسن غيره، كل ما عرف من فضائل الناس جعلوها فيه وهي ليست كذلك، فلما خلعت منه الرئاسة وأصبح فأراً وصار مثل بقية خلق الله، ينظر إلى نفسه فلا يجد الصفات التي كانت تسبغ عليه، أقبلت عليه الدنيا فكانت فيه كل الصفات، فلما أدبرت عنه الدنيا فقد كل تلك الصفات، حتى الصفات الأصلية التي كانت فيه فقدها فلم يعد يوصف بها.

هكذا الدنيا: إذا أقبلت على إنسان خلعت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فعندما يعلم المرء أن هذه الحياة في القبر طويلة، مقارنة بالحياة التي سيقف أمام الله بها، والتي لا تتجاوز ثلاثين سنة، كما أن الذي يحكم عليه بالمؤبد -وهو ما يعادل خمسة وعشرين سنة- في السجن يفرج عنه بعد مضي هذه المدة، بينما من يسجن في هذا السجن الانفرادي -الذي هو القبر- لا يخرج منه إلا مع النفخ في الصور، ولا يعود إلى ملاعب صباه مرةً أخرى، ولا يلتقي بأولاده مرةً أخرى، ولا يعرف عن أحدٍ شيئاً قط، فإذا فصل الله عز وجل بين الناس فإنه لا يتعرَّف على أولاده إلا في الجنة إذا دخل الجنة، فهي رحلة طويلة جداً، هذه الرحلة الطويلة قبلها إعداد لمدة ثلاثين سنة فقط.

فلو قدرنا أن الإنسان يعيش ستين سنة، فإنه لا يؤاخذ عن الستين عاماً كلها، إنما يؤاخذ عن نصفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ) والإنسان في العادة هو ينام ست أو سبع ساعات في اليوم في ستين سنة، فيكون بذلك قد نام عشرين سنة، فهذه عشرون عاماً لا يؤاخذ فيها لأنه نائم، ثم لا يؤاخذ حتى يبلغ (وعن الصغير حتى يحتلم) فهذه عشر سنوات على الأقل تضاف إلى العشرين عاماً، فيبلغ مجموعها ثلاثين سنة، إذن ما بقي من الستين عاماً إلا نصفها -أي: ثلاثون عاماً- وهي التي يحاسب عليها المرء أمام الله عز وجل.

الغفلة عن ذكر الموت

فانظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19] ، الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن ؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)، فواقعهم يقول: إن الموت لا يأتي، مع أنه آتٍ لا ريب فيه، فجملة عملهم يقول: إن الإنسان يشك في موته شكاً لا يقين فيه، مع أن الموت في حقيقة أمره يقينٌ لا شك فيه، فقال تبارك وتعالى: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] كل المشاكل التي يجنيها المرء بعد ذلك سببها عدم ذكر الموت؛ ولذلك بدأ تبارك وتعالى بذكر أهل النار: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23] أي: بما أنك جعلتني رقيباً عليه وعلى تصرفاته، فقد جئتك بكل ما يعمل، فهذا معنى عتيد.

فلما جيء بهذا العبد الذي كان يحيد عن الموت، ولا يظن يوماً أنه سيموت، قال: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد [ق:24] فأورد هنا ست صفات لمن يدخل النار كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ *الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ق:24-26] وهذه الست الصفات للإنسان الذي يهرب من الموت، وهذا متمثل في الكافرين، الذين يستمتعون بزهرة الحياة الدنيا، فبدأت الأوصاف بالكفر وختمت بالشرك، فكان مبدؤها الكفر وكان خاتمتها الشرك فأطبق عليه.

وذكر أيضاً صفات أربع لأهل الجنة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].

فعدم ذكر الموت هو سبب كل المشاكل، وقد ترتب على هذا الإهمال إهمال آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده) ، فكم شخص منا كتب وصيته؟

إن كثيراً منا لم يكتب الوصية، ولم يخطر بباله أن يكتب هذه الوصية، ما هذا الأمان الذي نعيش؟!

الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل

المرء يؤمل استمرار الحياة، مع أنه كم من رجلٍ خرج من بيته ولم يعد إليه، وقد كان يؤمل العودة، حوادث كثيرة نقرؤها في الجرائد، فهذه امرأة أوصلت الإفطار للأولاد ،فذهبت لتعبر الشارع.. وإذا بها تدهسها سيارة فتقتلها، والطعام ما زال ساخناً، والأولاد ينتظرون الأم لتأكل معهم.

فما هذا الأمان الذي يجعل المرء لا يكتب وصيته؟! ما فرط في الوصية إلا لأنه لا يذكر الموت (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلةً -فقط- إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده) .

فأول ما يتوجب عليك -أيها المسلم- عند رجوعك إلى أهلك أن تكتب الوصية، فاكتبها وقل: هذه وصيتي، ومرهم بتقوى الله عز وجل، وأن لا يغتروا بالدنيا، وأن يعملوا الصالحات، وأن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وإذا كان الموصي عليه ديون أو له مال في الخارج فليكتبها، فمن علامة ذكر الموت: ألا يفرط في الوصية.

قال تبارك وتعالى أيضاً: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:26-29]، هذا أيضاً من آثار الحيد عن ذكر الموت.

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] إذا مات المرء لا تلتف ساقه على الحقيقة، إنما هذا إشارة إلى تعسير السير إلى الله عز وجل، تخيل أن رجلاً يمشي في الشارع فالتفت ساقاه، ماذا سيحدث له؟ سيسقط على الأرض.

فمعنى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] أنه عاجز عن السير إلى الله كالذي التفت ساقاه فلا يستطيع أن يسير، ولذلك قال عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32] ، وفي هذا بيان للسبب الذي جعله متعسر السير، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنازة حين تحمل على أعناق الرجال.. إذا كان المحمول فاجراً يقول ويصرخ بصوت يسمعه كل مخلوق ما عدا الإنس والجن: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) بعدما عاين وراءه، يقول: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا من آثار قلة ذكر الموت.

إذاً فالوصية الأولى في هذه السورة المباركة: هي كثرة ذكر الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتخيل أي لذة أنت فيها لو ذكرت الموت لتعكرت عليك، فلو تخيلت حين تكون وسط أولادك ووسط الناس الذين يهنئوك بالعيد، وفاجأك الموت من بين هؤلاء، وبقيت رهين عملك، ولا أحد يزورك، ولا أحد يدعو لك، ولا أحد يتصدق عنك، لو تدبرت هذا المعنى لعكر عليك هذه اللذة. (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

فسورة (ق) من جملة القرآن المكي الذي يخاطب القلب، ذكر ربنا تبارك وتعالى فيه القيامتين: القيامة الصغرى، والقيامة الكبرى، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] هذه هي القيامة الصغرى، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:20] وهذه هي القيامة الكبرى، فذكر القيامتين معاً، لكنه تبارك وتعالى نبهنا على داءٍ عظيم، يقع فيه أكثر الناس: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] ، يقال: هذا فلان حاد عن الطريق. أي: تركها وسلك بنيات الطريق، أي: ترك الطريق العمومي الواضح وسلك الطرق الفرعية، فيقال له: حاد، أو من ترك سبيل الحجة وكابر وجادل يقال: حاد، أي: انحرف، فربنا عز وجل ينبهنا إلى هذا الداء العظيم؛ وهو عدم ذكر الموت.

هذا الموت الذي كنت منه تحيد، وكنت طول حياتك تهرب منه، ولا تريد أن تذكره، ولا تريد أن تعمل لما بعده، ولو قدر وذكرت الموت في بيتك فإن كل من فيه سيشورون عليك قائلين: اترك الكلام في هذا الموضوع، لماذا نترك الكلام فيه؟ كل المصائب -بلا مبالغة- سببها عدم ذكر الموت.

جاء من آثار نشر المذهب الإرجائي في الأمة، أن خطباء المساجد يتلقون توصيات شفوياً في الاجتماعات فيقال للخطيب: لا تكثر من ذكر الموت ولا النار حتى لا ترهق نفسية الناس، ولكن اذكر رحمة الله تبارك وتعالى، واذكر الجنة وما فيها من النعيم، فإن هذا الرجل إذا عرف الجنة كان من الصابرين موقناً أنه سوف يدخل الجنة، وأنه إذا لم يحرز الدنيا فسيحرز الآخرة، وهذا خطأ في وضع العلاج، ويأتي في مقابلهم الذين رفضوا أحاديث الزهد في الدنيا، وقالوا: كيف نقول للمسلمين وهم يعيشون على هامش الحياة: ازهدوا في الدنيا؟ وكيف يملك الكفار الدنيا ونحن نقول للمسلمين: ازهدوا في الدنيا؟ وكأننا نطلق الدنيا ويتزوجها الكافر، لابد أن تكون الدنيا بأيدينا، ويحضون الناس على الدنيا وعلى التجارة وعلى الزراعة وعلى استثمار الأموال، وهذا أيضاً يحتاج إلى تخصيص.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما زهَّد الناس في الدنيا زهَّدهم في فضولها، ولم يزهدهم فيما يجب على المسلم أن يحصل، فمثلاً: لم يزهدهم في الإنفاق على الأولاد. حيث قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتاً) ، وفي اللفظ الآخر لـأبي داود : (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) .

استرعاك الله عز وجل رعية: زوجة وأولاداً وأباً وأماً، فيجب عليك أن تنفق عليهم، فإذا قصر الرجل في النفقة على أهله وعلى أولاده فإنه يؤاخذ عند الله يوم القيامة، فعليه أن يجتهد، حتى لو كان العائد قليلاً، وهذا المفهوم لا يتطابق مع ما جاء في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن التكالب على فضول الدنيا، وأكثر الناس لا يسعون في الواجبات، بل يسعون في الفضول، فيريد أن يحصل أموالاً أكثر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) يعني: إذا وجدوا الغداء لا يكون عندهم العشاء، وإذا كان عندهم العشاء لا يكون عندهم الإفطار، هذا هو القوت.

وإنما كان يقول ذلك حتى يعتمد بقلبه على الله، فالذي ليس عنده العشاء يقول: يا رب! ، لكن كثيراً من الناس الذين معهم أموال لا يقولون: يا رب؛ استغناء عن دعائه تعالى، (فالشيك) في جيبه، والفلوس في (البنك)، متى احتاج المال ذهب إلى (البنك) ليصرفه، بخلاف الفقير، الذي يذكر الله عز وجل عن حاجة، فهذا هو الذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه؛ أن تكون الدنيا في قلبك، وقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تبسط الدنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من سبقكم) .

وأنت تجد الفقراء متحابين ليس بينهم خصومات؛ لا في الأموال، ولا في أعراض الدنيا، ففيهم راحة القلب، فكلما استراح القلب فقه عن الله عز وجل كلامه، فالذي يعين المرء على التخلص من الدنيا ذكر الموت، قال علي بن أبي طالب : ( ما كان الموت في ضيق إلا وسعه، ولا في واسع إلا ضيقه ).

لو أن الله عز وجل امتحنك ببلاء: مرض أو فقر، أو أي مصيبة من المصائب، وذكرت وحدتك عند دفنك، وأنك غريب، ولا أحد يشعر بك، ولا يتوجع لك، أعني: أن أهلك لا يعلمون أنك تتألم فيتصدقون عنك، ليتهم يعلمون أنك في كرب فيدعون لك؛ لكن شُغل الأولاد بالدنيا، فقليل من الأبناء الذين يترحمون على آبائهم، لاسيما إذا طال بهم العهد فجاوز ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة، فإنهم لا يلبثون أن ينسوهم، فليت أن مصاب الميت يصل إلى الأحياء حتى يترحموا عليه ويدعوا له.

ذات مرة في سنة واحد وثمانين حين كنا في السجن، كان معنا سجين من أسوان، والمسافة ما بين أسوان وما بين القاهرة ثماني عشرة ساعة بالقطار، وكان كل خمسة عشر يوماً في وقت الزيارة يأتي أهلنا إلينا بالطعام والشراب،فنطمئن عليهم ونراهم، ونأكل ونشرب معهم، أما هذا فطول مدة سجنه لم يأته أحد، فقلنا: إن هذا الرجل يعيش في كرب، أليس له أحد يسأل عنه؟ فتشعر حينها بغربة الرجل، ففي كل زيارة تنظر إليه فتراه مكتئباً، ويظل يومه ذاك في هذا الاكتئاب؛ لأنه لا أحد يتوجع لمصابه، ولا أحد يسأل عنه، ولا أحد يهتم به، فخطر لي هذا المعنى في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] ، كحال من يؤتى به يوم القيامة فيدخل الجنة، بينما يقاد ابنه إلى النار ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً.

في مذابح البوسنة التي ارتكبها أهل الصليب ضد المسلمين، كانوا يأخذون الولد أمام أبيه، والولد يصرخ: يا أبي! أنقذني، يريدون أن يذبحوه، ولا يستطيع الوالد أن يفعل شيئاً، قلبه يتمزق وهو يرى الولد يستغيث به ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، بينما في الآخرة فلن يذبح الولد وإنما سيساق إلى النار، ولا يستطيع الوالد أن يفعل لابنه شيئاً، إذا خرج من رحمة أرحم الراحمين فمن يرحمه؟!!

قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة مائة جزءاً، فأنزل على الأرض جزءً واحداً -من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل الخلائق من إنس وجن، وحشرات وطيور، كل المخلوقات تتراحم بجزء واحد- حتى إن الدابة -أي: العجماء التي لا تعقل- لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه كل ذلك بجزء واحد من الرحمة، وادخر تسعةً وتسعين جزءاً لعباده الصالحين في القيامة) فإذا حرم المرء من تسعة وتسعين رحمة فيا له من شقي! يا له من شقي، هذا الذي لم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى!.

الزهد في الدنيا: القصد به زهد القلب، لو كانت الدنيا في يديك وزهد فيها قلبك لتركتها في لحظة، وإذا سلبت منك فلن تبكي عليها، وإنما ستفعل كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.

طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، نام في فراشه يوماً مسهد الطرف، لا يستطيع أن ينام، جفاه النوم، وامرأته إلى جانبه، فقالت: ( ما لك؟ هل رابك منا شيء فنعتبك -تعني: هل ظهر منا ما يغضبك فنعتذر لك-؟ فقال لها: ِنعمَ حليلة المرء المسلم أنت -يعني: أنت نعم الزوجة، لا أشتكي منك- ولكن جاءني مال، ولا أدري ماذا أفعل به -لا يقول هذا إلا رجل خرجت الدنيا من قلبه إلى يده- فقالت: ادع أرحامك ففرقه فيهم. قال: نعم الرأي. فدعا أرحامه ففرَّق فيهم ثلاثمائة ألف درهم ) (ثلث مليون) درهم، ولم تؤثر على الرجل أبداً، لماذا؟ لأنها ليست في قلبه، بل هي في يده، فالذي أعطاه ثلاثمائة ألف درهم سيخلف عليه أضعافاً مضاعفة، وعنده اعتقاد بهذا، وعنده قناعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة ..) ، فالإنسان حين يعطي أرحامه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) .

فهان عليه ثلاثمائة ألف درهم، هذا هو الزهد الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام وربى أصحابه عليه.

كل أحاديث الزهد الموجودة في كتب السنن وكتب الصحاح، المقصود بها زهد القلب في الدنيا، فإذن لا تعارض، لكن إذا وجدنا الناس تكالبوا على الدنيا فمن العبث ومن الخطر ومن الخطأ أن نجر إليهم الزاد ونقول لهم: انطلقوا في الدنيا.. نحن نحتاج إلى الكادر المسلم.. هذا الرجل الذي تشجعه على الدنيا لا يخرج زكاة ماله، فكيف تقول: نريد التاجر المسلم، وهو لا يخرج ماله؟! هذا الإنسان ما أسلم بعد الإسلام المنجي.

كذلك الكلام عن الموت يرقق القلب، وكتب الرقائق وكتب الزهد كلها إنما تجر إلى هذا، وما زهد الزاهدون في الدنيا إلا لقصر عمرها وعظيم خطرها، قال صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله عز وجل طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير!) كيف يأكل الطعام الشهي، ثم انظر كيف يخرج هذا الطعام؟ كذلك الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا أينعت نعت، إذا أدبرت عن المرء سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه خلعت عليه محاسن غيره.

ويظهر هذا في حال كثير من الطغاة، نظرت في كتاب -أيام أن كان بيننا وبين العراق وفاق- وكان الكتاب يوزع مجاناً في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وكان عبارة عن صور للرئيس العراقي، وظهر في إحداها وهو يمسك يمسك المصحف ومكتوب تحتها: الرئيس المؤمن، وصورة له وهو يضع يده على الفرس مكتوب تحتها: فارس العرب.. وهكذا، فالكتاب كله صور، فهل هو فارس؟ هل هو مؤمن؟ هل هو بطل؟ هل هو مغوار؟ قد يكون فيه بعض ما في هذا الكتاب من الأوصاف، لكن ليس كلها، فلما أقبلت الدنيا عليه خلعوا عليه محاسن غيره، كل ما عرف من فضائل الناس جعلوها فيه وهي ليست كذلك، فلما خلعت منه الرئاسة وأصبح فأراً وصار مثل بقية خلق الله، ينظر إلى نفسه فلا يجد الصفات التي كانت تسبغ عليه، أقبلت عليه الدنيا فكانت فيه كل الصفات، فلما أدبرت عنه الدنيا فقد كل تلك الصفات، حتى الصفات الأصلية التي كانت فيه فقدها فلم يعد يوصف بها.

هكذا الدنيا: إذا أقبلت على إنسان خلعت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فعندما يعلم المرء أن هذه الحياة في القبر طويلة، مقارنة بالحياة التي سيقف أمام الله بها، والتي لا تتجاوز ثلاثين سنة، كما أن الذي يحكم عليه بالمؤبد -وهو ما يعادل خمسة وعشرين سنة- في السجن يفرج عنه بعد مضي هذه المدة، بينما من يسجن في هذا السجن الانفرادي -الذي هو القبر- لا يخرج منه إلا مع النفخ في الصور، ولا يعود إلى ملاعب صباه مرةً أخرى، ولا يلتقي بأولاده مرةً أخرى، ولا يعرف عن أحدٍ شيئاً قط، فإذا فصل الله عز وجل بين الناس فإنه لا يتعرَّف على أولاده إلا في الجنة إذا دخل الجنة، فهي رحلة طويلة جداً، هذه الرحلة الطويلة قبلها إعداد لمدة ثلاثين سنة فقط.

فلو قدرنا أن الإنسان يعيش ستين سنة، فإنه لا يؤاخذ عن الستين عاماً كلها، إنما يؤاخذ عن نصفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ) والإنسان في العادة هو ينام ست أو سبع ساعات في اليوم في ستين سنة، فيكون بذلك قد نام عشرين سنة، فهذه عشرون عاماً لا يؤاخذ فيها لأنه نائم، ثم لا يؤاخذ حتى يبلغ (وعن الصغير حتى يحتلم) فهذه عشر سنوات على الأقل تضاف إلى العشرين عاماً، فيبلغ مجموعها ثلاثين سنة، إذن ما بقي من الستين عاماً إلا نصفها -أي: ثلاثون عاماً- وهي التي يحاسب عليها المرء أمام الله عز وجل.

فانظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19] ، الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن ؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)، فواقعهم يقول: إن الموت لا يأتي، مع أنه آتٍ لا ريب فيه، فجملة عملهم يقول: إن الإنسان يشك في موته شكاً لا يقين فيه، مع أن الموت في حقيقة أمره يقينٌ لا شك فيه، فقال تبارك وتعالى: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] كل المشاكل التي يجنيها المرء بعد ذلك سببها عدم ذكر الموت؛ ولذلك بدأ تبارك وتعالى بذكر أهل النار: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23] أي: بما أنك جعلتني رقيباً عليه وعلى تصرفاته، فقد جئتك بكل ما يعمل، فهذا معنى عتيد.

فلما جيء بهذا العبد الذي كان يحيد عن الموت، ولا يظن يوماً أنه سيموت، قال: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد [ق:24] فأورد هنا ست صفات لمن يدخل النار كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ *الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ق:24-26] وهذه الست الصفات للإنسان الذي يهرب من الموت، وهذا متمثل في الكافرين، الذين يستمتعون بزهرة الحياة الدنيا، فبدأت الأوصاف بالكفر وختمت بالشرك، فكان مبدؤها الكفر وكان خاتمتها الشرك فأطبق عليه.

وذكر أيضاً صفات أربع لأهل الجنة: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].

فعدم ذكر الموت هو سبب كل المشاكل، وقد ترتب على هذا الإهمال إهمال آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده) ، فكم شخص منا كتب وصيته؟

إن كثيراً منا لم يكتب الوصية، ولم يخطر بباله أن يكتب هذه الوصية، ما هذا الأمان الذي نعيش؟!

الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل

المرء يؤمل استمرار الحياة، مع أنه كم من رجلٍ خرج من بيته ولم يعد إليه، وقد كان يؤمل العودة، حوادث كثيرة نقرؤها في الجرائد، فهذه امرأة أوصلت الإفطار للأولاد ،فذهبت لتعبر الشارع.. وإذا بها تدهسها سيارة فتقتلها، والطعام ما زال ساخناً، والأولاد ينتظرون الأم لتأكل معهم.

فما هذا الأمان الذي يجعل المرء لا يكتب وصيته؟! ما فرط في الوصية إلا لأنه لا يذكر الموت (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلةً -فقط- إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده) .

فأول ما يتوجب عليك -أيها المسلم- عند رجوعك إلى أهلك أن تكتب الوصية، فاكتبها وقل: هذه وصيتي، ومرهم بتقوى الله عز وجل، وأن لا يغتروا بالدنيا، وأن يعملوا الصالحات، وأن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وإذا كان الموصي عليه ديون أو له مال في الخارج فليكتبها، فمن علامة ذكر الموت: ألا يفرط في الوصية.

قال تبارك وتعالى أيضاً: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:26-29]، هذا أيضاً من آثار الحيد عن ذكر الموت.

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] إذا مات المرء لا تلتف ساقه على الحقيقة، إنما هذا إشارة إلى تعسير السير إلى الله عز وجل، تخيل أن رجلاً يمشي في الشارع فالتفت ساقاه، ماذا سيحدث له؟ سيسقط على الأرض.

فمعنى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] أنه عاجز عن السير إلى الله كالذي التفت ساقاه فلا يستطيع أن يسير، ولذلك قال عز وجل: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32] ، وفي هذا بيان للسبب الذي جعله متعسر السير، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنازة حين تحمل على أعناق الرجال.. إذا كان المحمول فاجراً يقول ويصرخ بصوت يسمعه كل مخلوق ما عدا الإنس والجن: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) بعدما عاين وراءه، يقول: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا من آثار قلة ذكر الموت.

إذاً فالوصية الأولى في هذه السورة المباركة: هي كثرة ذكر الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتخيل أي لذة أنت فيها لو ذكرت الموت لتعكرت عليك، فلو تخيلت حين تكون وسط أولادك ووسط الناس الذين يهنئوك بالعيد، وفاجأك الموت من بين هؤلاء، وبقيت رهين عملك، ولا أحد يزورك، ولا أحد يدعو لك، ولا أحد يتصدق عنك، لو تدبرت هذا المعنى لعكر عليك هذه اللذة. (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.