أرشيف المقالات

شبهة الجرح وتزيين الوقيعة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
من الشبه التي تُستحَلُّ بها الوقيعةُ في بعض أهل السنة: الجَرْح
من البدهي أنه لا يقع أحدٌ في أحد ثم يقول: إنما أنا مغتاب، أو سابّ، حقي التأديب! فالإنصاف عزيز، والظلم والجهل طبع إنساني ﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]، وأخطأ من ظن أن الإنسانية وصفُ مدح بإطلاق، وتأمَّلْ أكثر إطلاق لفظ الإنسان في القرآن، وكيف وُصِف!
وكثير من عوام المسلمين - بحمد الله - إذا وعظتَه وذكّرته بالله على حين سانِحة أقرَّ بخطئه، وإن كان قد يسرد ما استدعى تلك الوقيعة منه، وكل ذلك مما يُمكن علاجُه في الغالب.
غير أن طائفة من الناس تعُدّ الغيبة وانتقاص الفضلاء ديناً وقربة، ومن اعتقد ذلك فلا تَسَلْ عن آحاد السباب والقدح المنبثقة عنه إذ لا حدَّ لها، والحجة عندهم أن الغيبة في الله، وانتقاص الناس دربٌ من دروب التجريح، الذي جرى عليه السلفُ في عصور الرواية، وأن التحذير من المبتدعة وجرحهم ببدعتهم سبيلٌ لأهل السنة سابلةٌ، وطريقٌ لأئمة السنة مطروقةٌ.
نعم لا يُنكَر أن من الغيبة ما يكون في الله، كما قال شعبة[1]، بيد أنه لم يكن طعنُ أولئك الأئمة على الأعلام المنتسبين للسنة يتجاوز في كثير من الأحيان جهةَ قبول الرواية أو ردها، ولهذا تجد أحدهم يطعن في الراوي وهو يعرف له منزلته، كما قال أحد أئمة هذا الشأن - وهو يحيى بن معين رحمه الله -: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حَطُّوا رحالَهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة.
قال ابن مهرويه: دخلت على عبدالرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذه الحكاية فبكى، وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكايةَ، ولم يقرأ في ذلك المجلس شيئاً[2].
فلله درُّهم، ما أعظمَ ورعَهم! وهذا الورع اقتضى شهادتهم بالإمامة لبعض أهل العلم في أبوابٍ من العلم مع تضعيفهم لهم في الرواية، كحفص بن سليمان إمام القراءة، والواقدي إمام المغازي والسير.
ولم يقتضِ ترك الرواية عنهم وتضعيفهم فيها، ترك أخذ العلم أو التحذير منهم، وإنما حذروا الناس منهم من جهة تحمل الرواية عنهم، وكان تحذيرهم في هذا السياق.
ولهذا تجد في كتب الجرح والتعديل الثناء على رجل ووصفه بالفقه، مع تضعيفهم له أو طعن بعضهم في روايته، كابن لَهِيعة القاضي ضعَّفوه في الرواية، وشهدوا له بالعلم والفقه، حتى قال شيخ الإسلام: "كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء"[3]، وإذا قرأت في كتب التراجم وجدت عدداً من الفضلاء والقضاة قيل فيه: تكلموا فيه، ضعيف، متروك، كذبوه! مع أنهم قضاة ما رفعَهم إلى تلك المنزلة - في تلك العصور - إلاّ علمُهم وفقهُهم الذي لا ينازعون فيه.
وهذا يدل على أن جرحهم لهم كان في تحمل الرواية، لا في أخذ الفقه والعلم عنهم.
وإن وقع كلام من بعضهم خارج هذا الصدد لم يكن محل قبول بمجرده، فكيف يكون حجة! قال الذهبي: "قد تكلم خلق من التابعين بعضُهم في بعض، وتحاربوا، وجرت أمورٌ لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة! والعاقل خصمُ نفسه، (ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، و(لحوم العلماء مسمومة)، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف"[4].
وإذا تبين هذا سقطت دعوى الطعن في بعض علماءِ ودعاةِ أهل السنة بحجة الجرح والتعديل من أصلها، فهل مَن يتحدثون اليوم بتلك الحجة غرضهم النمط الذي أشار إليه الذهبي؟ ولا سيما في هذه الأعصار التي دُوّن فيها العلم، ولم يعد ينتصب فيها للرواية أحد، وإن حصل شيء من هذا كان فَضْلة.
قال القرافي في الفروق: "التجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم عند توقع الحكم بقول المجرح ولو في مستقبل الزمان، أما عند غير الحاكم فيحرم لعدم الحاجة لذلك، والتفكه بأعراض المسلمين حرام، والأصل فيها العصمة.
وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم والإخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به، وهذا الباب أوسع من أمر الشهود; لأنه لا يختص بحكام بل يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله، وإن لم تعلم عين الناقل; لأنه يجري مجرى ضبط السنة والأحاديث، وطالب ذلك غير متعين، ويشترط في هذين القسمين أن تكون النية فيه خالصة لله - تعالى - في نصيحة المسلمين عند حكامهم، وفي ضبط شرائعهم، أما متى كان لأجل عداوة أو تفكه بالأعراض وجرياً مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة، فإن المعصية قد تجر للمصلحة كمن قتل كافراً يظنه مسلماً فإنه عاص بظنه، وإن حصلت المصلحة بقتل الكافر.."[5]، فتأمل كيف قيّد المسألة، وتأمل كيف أطلقها بعضُ المعاصرين.
ووالله ما الخوف على المطعون فيه بأشد من الخوف على طاعنه، "قال أبو الحارث: سمعت أبا عبدالله غير مرة يقول: ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه، قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس، كان يروي عن الأعمش والناس، وكانت له مجالس، وكان صحيح الحديث، إلاّ أنه كان لا يسلم على لسانه أحد، فذهب حديثُه وذِكْرُه.
وقال في رواية الأثرم وذكر الأفطس واسمه عبدالله بن سلمة، قال: إنما سقط بلسانه، فليس نسمع أحداً يذكره.
وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر، فدعا عليه، قال أحمد: فأُراه استجيب له.
والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق.
وقال أبو زرعة عن عبدالله بن سلمة الأفطس: كان عندي صدوقاً، لكنه كان يتكلم في عبدالواحد بن زياد، ويحيى القطان، وذكر له يونس بن أبي إسحاق فقال: لا ينتهي يونس حتى يقول سمعت البراء.
قال أبو زرعة فانظر كيف يرُدُّ أمره، كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم، وكل من لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه"[6].
فينبغي أن نتنبه أن الجرح والتعديل في عصور الرواية لم يكن ليسوّغ إساءة الأدب، وإنما يسوغ ضرباً من الجرح خاصاً في مواطن، إذا توفر شرطه، والله أعلم.




[1] ينظر ضعفاء العقيلي 1/ 11 و15 و39.
[2] تاريخ دمشق 35/ 365.
[3] الرد على البكري 1/ 308.
[4] سير أعلام النبلاء 10/ 93 - 94.
[5] الفروق 4/ 206 - 207.
[6] الآداب الشرعية لابن مفلح 2/ 142 - 143.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣