معيشة أصحاب النبي


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

روى الإمام البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله غيره، لقد رأيتُني أعتمد على كبدي من الجوع، ولقد وقفتُ في طريقهم يوماً فمر بي أبو بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني، -وفي رواية قال: إلا رجاء أن يشبعني- فأجابني وانصرف، فمر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله وإنها لَمَعي، ما سألته إلا رجاء أن يستتبعني -وفي رواية: يشبعني- قال: فمر ولم يفعل، قال: حتى جاء أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم فنظر في وجهي فعرف ما بي، فتبسم وقال: أبا هر ! الحق بنا، قال: فانطلقت معه حتى دخل الدار مع بعض أصحابه فوجد قدحاً فيه لبن، فقال: من أين هذا؟ فقالوا: أهداه لك فلان الأنصاري، فقال: يا أبا هر ! الحق بأهل الصفة فادعهم يشركوننا في هذا اللبن، قال: فأحزنني ذلك؛ لأنني رجوت أن أشرب شربة أقيم بها صلبي، وما يفعل هذا اللبن في أهل الصفة، وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق أبو هريرة رضي الله عنه ودعا أهل الصفة، قال: وقد أحزنني أيضاً أنني دعوتهم فسأكون آخرهم شرباً، ولم يكن من طاعة الله ولا طاعة رسوله بُد، فانطلق فدعاهم فجاءوا فجلسوا، فوضع يده على الإناء وسمى الله تبارك وتعالى، ثم قال: أبا هر ! اسقهم، قال: فأعطيت الأول فشرب حتى رده، فأخذته فأعطيته الثاني، فشرب ورده، فأخذته فأعطيته الثالث.. وهكذا، حتى شربوا جميعاً واللبن كما هو، قال: فلما وصلت إليه صلى الله عليه وسلم نظر إلي وتبسم، وقال: أبا هر ! لم يبق إلا أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: أبا هر ! اقعد قال: فقعدت، قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب، فشربت، ثم قال: اشرب اشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، فقال: أرني فسمى الله تبارك وتعالى، وشرب الفضلة).

لقد بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (باب معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

قوة الإيمان خير من قوة الأبدان

في الحقيقة أن هذا الجيل فريد، ولا أظن أن يتكرر هذا الجيل أبداً إلا أن يشاء الله رب العالمين.

وهذه عاقبة الإخلاص، أي رجل يخلص لدعوته يرضى بالمر في سبيلها، الصحابة رضوان الله عليهم كانت السمة العامة لعيشهم هو الشظف، ومع ذلك بارك الله تبارك وتعالى لهم في أبدانهم وقوتهم.

ربما أننا نأكل في المرة الواحدة من ألوان الطعام ما لم يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا أقول: ربما، بل أقول: نحن نأكل طعاماً ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، قالت عائشة رضي الله عنها: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير)، أما خبز البر الذي هو القمح الذي نأكله الآن فما رآه بعينيه، ولا أكله قط، ولا رأى منخلاً قط بعينيه، إنما كانوا يأتون بالشعير فيذرونه في الهواء، وما بقي كانوا يعجنونه على حاله ويأكلونه.

هذا هو أكل النبي عليه الصلاة والسلام، وأكل أصحابه رضوان الله عليهم.

طعام الصحابة في بدر وطعام الكفار

في معركة بدر خرج أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يريدون عير قريش، فجمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، كانوا يقتسمون التمرات، لأنهم ما خرجوا لقتال حتى يتأهبوا ويأخذوا معهم الزاد، إنما هي حفنة تمر، وانطلقوا لكي أن يقطعوا على قريش الطريق ويغنموا العير ويرجعوا، ظنوها ساعةً من نهار، وعلى الجانب الآخر خرجت قريش تريد القتال، حتى لما أرسل أبو سفيان إلى مكة بعدما نجا قال لهم: ارجعوا فقد نجت العير ولا حاجة للخروج، لكن تعس قوم رأسهم أبو جهل، قال: لا والله لا بد أن نسير، حتى نرد بدراً فنشرب الخمر وتغنينا النساء، فيسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً.

وانطلقوا إلى بدر، وكانوا يأكلون في اليوم الواحد عشرة من الجمال، في الوقت الذي كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقتسمون التمرة، ويعتقبون البعير، كل واحد يركب مرحلة، لأنهم لا يوجد عندهم ظهر، كل شخص يركب مثلاً نصف كيلو وينزل، وأخوه الثاني يركب نصف كيلو وهكذا، وغلب الذين كانوا يقسمون التمرات على الذين كانوا يأكلون عشرة من الجمال.

يخطئ من يظن أن جودة الطعام هي السبب الرئيس في صحة البدن.

لا. وإلا لمات الفقير.

بل أنا أقول انظر إلى عامل البنيان الذي يصعد بالخرسانة المسلحة على كتفه، وانظر إلى ساكن القصر الذي قبل أن يأكل لا بد أن يأخذ الحبوب، ويأخذ الدواء، وهذا الرجل فقير، يأكل خبزاً ويأكل جبناً، وبعد أن يأكل يبدأ يمارس العمل الشاق طيلة النهار، الطعام الجيد الفاخر ليس هو السبب الوحيد أبداً في حياة البدن، وإلا لما مرض غني ولما عاش فقير.

فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، كانت هذه هي السمة العامة لهم، هل كانوا فقراء؟ لم يكونوا جميعاً كذلك، بل كان فيهم أغنياء، وكانت حياتهم أيضاً هي حياة الزهد.

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح كان صائماً، فقُرِّب إليه طعام، قال (مات مصعب بن عمير وهو أفضل مني، فلم نجد له بردة نكفنه بها، ومات حمزة وهو أفضل مني، ومات فلان وهو أفضل مني، فلا زال يبكي حتى ترك الطعام)، فـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه غناه مشهور، حتى أنهم ذكروا أن الذهب الذي كان يملكه كان يقطع بالفئوس من غناه، وكان إذا قبض قبضة من التراب وتاجر فيها ربح؛ لكن الزهد كان سمة هؤلاء.

والفرق بين هذا الجيل الفريد وبين كثير من الأجيال التي جاءت من بعده، أن الدنيا كانت في أيديهم ولم تكن في قلوبهم، لذلك كان الواحد منهم مستعداً أن يضحي بالدنيا كلها في ساعة فداءٍ لله تبارك وتعالى، ولا يندم عليها، لذلك ما هزموا أبداً، وظلوا سادة حتى ماتوا.

خلودُنا إلى الأرض، هو الذي صنع فينا هذا الذل، وجعلنا في هذا الموقع الذي لا ينبغي لأمة الإسلام أن تكون فيه.

الفرق بين أصحاب يوشع بن نون وأعدائهم الجبارين

في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ..) وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام، وكان خرج ليقاتل الجبارين، وقد قرأتُ في بعض الروايات الإسرائيلية أن هؤلاء الجبابرة كان طول أحدهم أكثر من ستين ذراعاً، وهذه الرواية فيها نكارة، لأن آدم عليه السلام أول مخلوق كان طوله ستين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (فلا زال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة).

فنتصور أنه لا يوجد إنسان في الأرض أطول من آدم عليه السلام؛ لكن الرواية هكذا قالت أن طولهم كان طولاً شديداً، وقوم يوشع كان طولهم معتدلاً، لدرجة أن أحد قوم يوشع عليه السلام دخل بستاناً يتجسس على هؤلاء الجبارين، فأحد من هؤلاء الجبارين، يبدو أنه كان يجمع برتقالاً أو عنباً أو شيئاً من هذا، وجد هذا مختبئاً فوضعه في كمه ومضى به، فخُذ من هذه الرواية الفرق بين قوم يوشع وبين الجبارين، وحتى اسمهم (الجبابرة) يظهر منه مدى ضخامة أجسامهم وقوتهم. (فقال يوشع بن نون عليه السلام: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل رفع بيوتاً ولم يرم سُقُفها، ولا رجل له خلفات ينتظر نتاجها ...) لأن هؤلاء يُهْزَم المرء بهم، الرجل الذي عقد على المرأة ولما يدخل بها يتمنى أن يرجع حتى يبني بها، فلذلك إذا رأى بارقة السيوف هرب، لا ينتصر إلا الذي ودَّع الدنيا عندما يخرج، وأيقن أنه لن يعود، هذا هو الذي ينتصر، أما الذي يؤمل أن يعود فإنه كلما رأى بارقة السيوف هرب بجلده، لأنه يريد أن يعود حتى يتمم مراده الذي تركه.

(ورجلٌ رفع بيوتاً)، أي: رفع الجدر ولا يزال السقف غير مكتمل فهو يتمنى أن يرجع ويكمل البيت لكي يسكن فيه، (ورجل له خلفات): التي هي الضأن أو المعز، (ينتظر نتاجها)، أي: عنده مثلاً مائة رأس ومنتظر أنها ستلد أيضاً مائة رأس، ويحلم أنه يكبر هذه التجارة.

قال: لا يتبعني أحد من هؤلاء؛ لأن الذي يتمنى أن يعود أو يضع في حسبانه أن يعود لا ينتصر، وهنا كلمة نسبت مرة إلى أبي بكر الصديق ومرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يحصل نوع من المكاتبات بينه وبين عدوه كان يقول لهم: لقد جئتك برجال يحرصون على الموت حرصكم على الحياة، أنت ماذا تفعل به إذا أراد الموت، إن انتصر وغلبك كان سيداً في الأرض، وإن قتلته فاز بمراده، فما تفعل برجل ينتظر إحدى الحسنيين؛ لذلك كانوا يرهبونهم وهم في مكانهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، أي: يكون بيني وبين عدوي مسيرة شهر على الأقدام وهو مرعوب مني، وأنا لم أتحرك من مكاني.

فالإخلاد إلى الدنيا هو سبب هذا الوهن الذي دب إلينا.

فيوشع بن نون عليه السلام انطلق بالجيش ووصل القرية -كما في رواية الحاكم - يوم الجمعة، وبدأ القتال عصر يوم الجمعة، وأولئك جبارون، وهؤلاء بالنسبة للجبارين أقزام، لكن القوة هي قوة القلب، ليست قوة البدن، لو تجمع قلبك قوي ساعدك، ولو تفكك قلبك ذهبت قوتك، ولذلك أنت تجد إنساناً أول ما يخاف تنفلت أعصابه وتنهار قواه، طالما قلبه تفتت انتهت قوته، إنما الإنسان إذا تجمع قلبه قوي ساعده، والمؤمن قلبه بيد الله عز وجل، فلا يخاف الموت؛ لأنه يتمناه، لذلك ما كانوا يضعفون أبداً.

هؤلاء -الذين يعتبرون أقزاماً بالنسبة للجبابرة- ظلوا يقاتلونهم قتالاً شديداً حتى غربت الشمس، وكادوا أن يدخلوا البلد، أي: أنهم هزموا الجبارين، ولكن ما زالوا يقاتلون فلول الجبارين الأخيرة، فلو أن الشمس غربت يكون قد ذهب جهادهم كله، ومن الممكن أن يبدءوا الجهاد من اليوم التالي، ومن الممكن ألا يضمنوا النتائج، (فالتفت يوشع عليه السلام إلى الشمس وقال: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم ردها علينا، فرجعت الشمس كما كانت، فلا زال يقاتل حتى فتح له).

فنحن نفهم من هذا أن الدنيا إذا كانت في القلب فهو الخور، والضعف الحقيقي، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما كانوا كذلك، كانت الدنيا في أيديهم، وكانوا سادة الأرض، ما كان هناك في الدنيا أمة أعز من هذه الأمة؛ لكن لم تكن الدنيا في قلوبهم، كثير من الأجيال التي أتت بعد ذلك الدنيا ليست في أيديهم فقط، بل في قلوبهم، وهذه من المصائب، ليتها إذ حلت في قلوبهم كانت في أيديهم، لكن حلت في قلوبهم وليس في أيديهم منها شيء.

في الحقيقة أن هذا الجيل فريد، ولا أظن أن يتكرر هذا الجيل أبداً إلا أن يشاء الله رب العالمين.

وهذه عاقبة الإخلاص، أي رجل يخلص لدعوته يرضى بالمر في سبيلها، الصحابة رضوان الله عليهم كانت السمة العامة لعيشهم هو الشظف، ومع ذلك بارك الله تبارك وتعالى لهم في أبدانهم وقوتهم.

ربما أننا نأكل في المرة الواحدة من ألوان الطعام ما لم يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره، ولا أقول: ربما، بل أقول: نحن نأكل طعاماً ما أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، قالت عائشة رضي الله عنها: (لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير)، أما خبز البر الذي هو القمح الذي نأكله الآن فما رآه بعينيه، ولا أكله قط، ولا رأى منخلاً قط بعينيه، إنما كانوا يأتون بالشعير فيذرونه في الهواء، وما بقي كانوا يعجنونه على حاله ويأكلونه.

هذا هو أكل النبي عليه الصلاة والسلام، وأكل أصحابه رضوان الله عليهم.