العزلة الشرعية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة الكرام! من آثار البراءة من أعداء الله عز وجل: الهِجْرة، والهَجْر، والعُزْلة، وقد تكلمنا باختصار عن الهجرة والهجر، ونتكلم اليوم عن العزلة، وهو موضوع شائك؛ إذ يحصل فيه توهمات نظراً لخطأ المعطيات.

العزلة أمر شرعي، وهو سنة للأنبياء، وأول من اعتزل: إبراهيم عليه السلام، لما دعا قومه ولم يستجيبوا له، قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، لكنه اعتزل يوم أدى ما عليه فلم يجد نتيجةً فخاف على نفسه.

إن الرجل التاجر إذا أنفق من رأس ماله، ينبغي له أن يعيد النظر في تجارته، فنفقته ينبغي أن تكون من ربحه، لا يأكل من رأس ماله، فإذا رأى أنه يأكل رأس ماله، فعليه أن يعيد النظر، رجلٌ دعا الناس إلى الله عز وجل، فآذوه، حتى خشي على نفسه منهم، فحينئذٍ وجب عليه أن يحفظ نفسه، وهذا هو حد العزلة الشرعية، وإلا فالأصل عدم العزلة.

من الذي يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا اعتزل الناس؟

من الذين يقفون على الثغور ويحاربون الكافرين إذا اعتزل الناس؟

من الذي يبين الباطل، الذي هو كالنهر الهادر في الجرائد والمجلات إذا اعتزل الدعاة إلى الله عز وجل خشية الأذى؟

في كل يوم سخافات تكتب في الجرائد والمجلات، لقد اعتقد بعض الناس وبكل أسف ممن كنت أتصور أنه رجل عاقل رشيد، اعتقد وحزن على موت البغي الداعرة وتصور أنهم قتلوها؛ لأنها أسلمت واحتارت وقد كانت حامل في شهرين، فكأن المسلم إذا زنا بكافرة يبقى الزنا حلال؟! ما هذا الخبث الجاري والمشكلة الكبيرة أن كثيراً من الناس ليس لديه من العلم ولا أبجديات الإسلام ما يرد هذا الخبث، موضوعات تافهة، لكن عند الذين يعلمون أبجديات دينهم، لكن هناك أناس لا يعرفون شيئاً.

في هذا الوقت وهذه المعمعة: خرج علينا خبران متناقضان أشد التناقض يبعثان على الأسى والحزن، الخبران في صحيفة المسلمون .

الخبر الأول: ملياردير فلسطيني عرض أن يشتري حطام سيارة المرأة البغي التي في الحادث، بعشرين مليون دولار، وصفوا حطام السيارة أنها مثل علبة وطأت بالأقدام، فعملوا معه لقاء وحديثاً، أنت رجل فلسطيني، على الأقل تتضامن مع الجياع العراة الذين لا يجدون مساكن، فكيف تشتري حطام سيارة بعشرين مليون دولار!!، قال: يا أستاذ! أنا رجل تاجر! وهذه المعاني التي تبحث عنها، ليست عندي، أنا رجل تاجر، أشتري حطام السيارة بعشرين مليون دولار وسأبيعها بمأتي مليون دولار! يقول: أنا رجل تصرفت من الناحية التجارية، مسألة العواطف التي تبحث عنها، هذه ليست عندي.

وفي ذات الصحيفة: ملياردير يهودي يعرض على حكام السعودية أن يبيعوا له أرضاً بمكة بأي ثمن، لكي ينشئ معبداً هناك، ويعرض ما يشاءون من الأرقام التي تخطر على بالهم، فانظر إليهم وانظر إلينا، انظر إلى هؤلاء كيف يفكرون، وانظر إلى هذا كيف يفكر؟ اليهود في العالم: خمسة عشر مليون يهودي، معهم التكنولوجيا والزراعة والإعلام والأموال والسياحة، يملكون الدنيا كلها؛ لأن أغنياء اليهود وظفوا أموالهم لخدمة اليهود، حتى أصبحوا الآن لا يتحكمون في انتخابات الرئاسة البرنامجية.. فقط، بل يتحكمون في انتخابات معظم الدول الهامة في العالم، وهم الذين يضعون التقارير وهم الذين يرشحون الوزراء، وهم الذين يرشحون رؤساء الجمهوريات، بما لديهم من مخطط رهيب، عندهم تغلغل كامل في الأنظمة، ومن يقرأ كتاب: (بورتوكولات حكماء صهيون) يعلم صدق ما أقول، الكتاب هذا له أكثر من مائة سنة وكأنهم يتكلمون عن الواقع الآن، وكل شيءٍ خططوا له كان.

إذاً: ليست المسألة عرض قضايا تافهة، بعض الناس قد يقول: أنت تتكلم في قضايا ليست ذات بال ولا مهمة، نحن نريد القضايا الخطيرة! أقول: لا. من جرب الناس تجربتي، قال مثل قولي، ولقد صدق القائل:

(إذا كان عدوك نملة فلا تنم له)، (ومعظم النار من مستصغر الشرر).

كنا نظن أن هذه المسائل تافهة ولا تؤثر في العوام وإذا بها تؤثر فيهم فعلاً، ويعادون كثيراً من النصوص الثابتة، لا أذهب بك بعيداً، فهذا أحد الدعاة الكبار نشر كتاباً يتكلم فيه عن الزهد في الدنيا، وأحاديث الزهد في الدنيا موجودة في الصحيحين والسنن، فأتى بكتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري ، وأتى بالأحاديث التي ترغب في الزهد بالدنيا، وقال: آفاتنا من انتشار مثل هذه الأحاديث وهي أحاديث في الصحيحين، أجمع العلماء على صحتها. قال: هل نحن طلقنا الدنيا وتزوجها الكافر، وعندما نزهد في الدنيا، المال يكون مع من؟

فهالني أن يكون هذا الداعية لا يفهم معنى أحاديث الزهد، هذا فهم مغلوط، لم يقل الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يكون عندكم مال ولا تكونوا أغنياء، إنما أحاديث الزهد في الدنيا بمعنى زهد القلب، ولو كانت الدنيا بما فيها لها قيمة لجمعها النبي صلى الله عليه وسلم ولحض عليها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، فكان معه العشاء وليس عنده إفطار، لأن العبد إذا لم يجد فليس له ملجأ ولا منجى إلا إلى الله عز وجل، فدائماً يلهث: يا رب، يا رب، مثل الولد الذي يحتاج ويقول: يا أبت، يا أبت، يا أبت، لذلك قل الشكر في بيوت الأغنياء، تجد الرصيد عنده في البنك والشيكات موجودة، والثلاجة موجودة، والمحفظة مليئة، لماذا يقول: يا رب؟ متى يقول: يا رب؟ لا يقولها إلا إذا تورط، لكن فيما عدا ذلك لا يقولها.

فالفقراء زكى عملهم؛ لأنهم أكثر الناس ذكراً لله عز وجل بسبب الحاجة المستمرة.

الزهد في الدنيا الوارد في الأحاديث معناها زهد القلب، وليس زهد اليد، إنما رغب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في حيازة المال باليد فقط، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر طبقات الناس، وأنهم جميعاً لا يخرجون عن طبقات أربع؛ جعل صاحب المال العالم أعلاهم، فقال صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٌ آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله، لا يتقي الله فيه ولا يصل به رحمه، ولا يرعى لله فيه حقه؛ فهذا بأخبث المنازل، ورجلٌ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان، لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء)، فكل رجلٌ منا لا يخرج عن نمط هؤلاء الأربعة: عالمٌ غني، ثم عالمٌ فقير، ثم غني جاهل، ثم فقير جاهل، وأفضلهم جميعاً العالم الغني؛ لأن تعدي الخير بخلتين أفضل من تعديه بخلة واحدة، إذا كان عالماً ينفع الناس بعلمه ثم يسد بطون الجياع، هذا أفضل من واحد يعلم فقط، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله الحكمةَ، فهو يعلمها الناس، ورجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق).

وأنت تلاحظ في الحديثين أن المال لا يبدأ بذكره استقلالاً إنما يأتي تبعاً، ففي الحديث الأول قال: (آتاه الله علماً ومالاً.)، وفي الآخر: (آتاه الله الحكمة؛ فهو يقضي بها، وآتاه الله مالاً؛ فسلطه على هلكته في الحق) دليل على أن المال بغير علم مذموم.

الولد الذي كنا نتكلم عنه، لديه طائرة خاصة، وعنده سبعون سيارة من أحدث سيارات العالم، فماذا فعل بالمال؟ يذهب إلى باريس ليتعشى فقط، يركب الطائرة ليذهب ليأكل السمك ويرجع، هذا الذي معه مال فقط، ليس عنده علم يعصمه، ولذلك كان الرجل الثالث بأخبث المنازل كلها: (ورجلٌ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ولا يرعى لله فيه حقاً، ولا يصل رحمه).

إذاً: المال وحده ليس ممدوحاً، فعندما نقرأ أحاديث الزهد في الدنيا، لا بد أن نعلم أن الزهد الوارد هو زهد القلب، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـعمرو بن العاص : (يا عمرو إني أريد أن أرسلك إلى غزاة كذا..)، قائد سرية، قائد جيش، كتيبة (لتغنم مالاً، فقال: يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك) أنا ما اتبعتك لأحرز المال، فقال له: (يا عمرو ! نعم المال الصالح للرجل الصالح).

ذلك هو الرجل الذي يتقي الله ولديه مال ينفقه لبيوت أناس يأكلون بجانبه، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، فعندما يأتي رجل كبير له منصب في الناس والدعوة ويقول: لا ينبغي أن نعرض أحاديث الزهد في الدنيا على الناس!! هذا فهم مغلوط لمعنى الزهد، وإلا فإن تجييش الجيوش وسد حاجات الفقراء والناس والاكتفاء الذاتي كيف يتم بلا مال. محنة أمتنا أننا فقراء، وليس فقرنا بسبب قلة الموارد، فقرنا بسبب اللصوص والفوضى الإدارية، نحن عندنا أذكياء وعباقرة، وكثير من الغرب أخذ العباقرة من عندنا وأعطاهم المال والإمكانات وأبدعوا بعدما خرجوا من عندنا، ونحن الآن نفتخر: أن فلاناً مصري، وعلاناً مصري، ويتخذونه مستشاراً لكذا، وهذا مستشار كذا، لكن بعد أن أخذوا خلاصة ما عنده وليس هذا فقط؛ بل أخذوا ولاءه وانتماءه لهم، بعدها الذين أظهروا عبقريته وذكاءه، نحن عندنا استعداد أن نكون أفضل أمة في الدنيا، فلدينا الكوادر والإمكانات، المسألة تحتاج إلى أمانة، وإعادة نظر وصدق انتماء، ونحن نتكلم عن جيل التمثيل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من سبقكم).

أنا أعرف أناساً عندما كانوا فقراء، إذا قلنا: أين فلان؟ يقولون: عند فلان، وأين علان؟ يقولون: عند فلان، فصار أحدهما علماً على الآخر، بدءوا تجارتهم في محل صغير جداً، ثم بدأت تجارتهم تتوسع، حتى وصل تعاملهم إلى مئات الألوف، وصار لكل واحدٍ منهم متجر كبير، واتفقوا على توزيع المناطق، ذاك في الشرق والآخر في الغرب، وعندما وجد أحدهم صاحبه في منطفته، قال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟!

قال الآخر: يا أخي هذه أرزاق! قال له: لا. هذا تعدي عليَّ وتقطيع للأرزاق، ومن هنا بدأت المشاكل، والآن لا يكلم بعضهم بعضاً، ولا يلقي بعضهم على بعض السلام، ولا يصلون في مسجدٍ واحدٍ على الإطلاق.

والله إن الفقر كان أحسن لهم، الفقر جمعهم وألف بين قلوبهم، وهذا أنموذج من مئات النماذج التي لا شك أن عندكم منها عشرات، تصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم).

إذاً: هذه الأغاليط الموجودة في الكتب والجرائد والمجلات، إذا اعتزل العلماء أو اعتزل الدعاة إلى الله عز وجل إيثاراً للسلامة من ضغط العوامل والرد، فمن الذي يبين دين الله عز وجل؟

أيها الإخوة الكرام! العزلة تشرع في ثلاثة أحوال:

عدم التمايز بين الحق والباطل

الحالة الأولى: ألا تميز بين الحق والباطل، فإذا دعيت إلى جهة من الجهتين وأنت لا تستطيع التميز فحينئذٍ تعتزل، وقد فعل هذا جماعة من خيار الصحابة، لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما وقعت الفتنة، أخذ أولاده وماله وخرج خارج المدينة ، فجاءه ولده عمر بن سعد ، وقد تورط وشارك في قتل الحسين ، فلما رآه سعد من بعيد جداً وهو لا يعلم من هذا الراكب، وقد كان سعد صاحب فراسة، فقال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فاقترب الراكب شيئاً فشيئاً، فإذا هو عمر ابنه، فدخل عليه، فقال: يا أبت! أرضيت أن تكون أعرابياً في إبلك، والناس يتقاتلون على الملك، أما والله لو ذهبت أظنها تئول إليك، وتصبح أنت الخليفة، فضرب على صدره وقال: يا بني! اجلس، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الغني الخفي).

وروى ميمون بن مهران رحمه الله، عن سعد بن أبي وقاص أنهم جادلوه: ( كيف تركت هذا ولم تدخل؟ قال: إذا جئتموني بسيف ينطق له عينان ولسان، يقول: هذا كافر اقتله، وهذا مؤمن دعه، حينئذٍ أخوض معكم.

يا قومِ! إنما مثلي ومثلكم كمثل قومٍ في سفر، فهبت عليهم ريح مظلمة، ففقدوا الطريق، فقال جماعة: الطريق يميناً، فمضوا، وقال جماعة: الطريق يساراً ومضوا، وقال جماعة: بل نبقى في مكاننا حتى تنجلي، فما لبثت الريح أن انجلت، فإذا الذين وقفوا، وقفوا على الأمر الأول ) هذا هو الفقه، أنهم وقفوا على الأمر الأول.

ولما اعتزل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قيل له: لم اعتزلت؟ قال: لا أعرف من الباغي، ولو علمت لقاتلت.

واعتزل الفتنة أيضاً محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يمشي مع علي ولا يقاتل، حتى إذا قتل عمار قاتل؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـعمار بن يا سر عندما كان يبني المسجد النبوي، وكان عمار مريضاً، فكان الصحابة يحملون لبنة لبنة، ويحمل عمار لبنتين لبنتين مع مرضه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل التراب عن ظهره وهو يقول: (ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)، وكان عمار مع علي.

إذاً: الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه ومن معه، فظهر لـخزيمة بن ثابت أن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، فحينئذٍ لم يترخص ولم يتوقف وإنما قاتل، فقد ظهر له برهان أن علي بن أبي طالب مبغي عليه.

فإذاً: إذا لم يميز المرء الحق من الباطل يعتزل، وليس هذا في الفتن فقط، إنما هذا في كل قضية طرحت، وليس عندك علم أهذا محقٌ أو مبطل، اعتزل الجدل، ولا تخض بلسانك، ولا تقل: أنا رأيي كذا، طالما أنك لم تميز بين الحق والباطل.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

كثرة المخالفين وقوة شوكتهم

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

هناك كلمة حكيمة قالها العلماء، لها صلة بموضوع الاعتزال، يقول العلماء: (لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف)، الجدل الذي يحصل بين الأقران، ويتكلم أغلبهم بلا علمٍ سابق فضلاً عن عقيدة راسخة، هذا ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الأغلوطات، ونهى عن عُضل المسائل، فهذا أحد وجوه العزلة، ليس المقصود أن تكون هناك فتنة فيها سيوف ودماء تعتزل، لا. كل مسألةٍ لم تعتقدها وليس عندك فيها علم سابق تعتقده ديناً اعتزله، لا أقول: اعتزله فقط، إنما أقول: تعلمه، لكن لا تجادل.

الحالة الثانية في الاعتزال: أن تضعف وتقل مئونتك في عرض الحق الذي عندك؛ بسبب كثرة المخالفين وقوة شوكتهم، وهذا أيضاً يدخل في حكمة الدعوة.

بلد فيه مبتدعة كثيرون، فالصوفية مثلاً يقدسون الأولياء وينذرون لهم، وأنت فرد وحدك بدأت تدعو إلى التوحيد، واستجاب الناس لك، ورأيت ثمرة غراسك، فليس من المصلحة ولا الحكمة أن تتصدى لذم القبور وأن تقف في مواجهتهم علانيةً؛ لأنه ليس هناك أية مصلحة في كسرك، بقاؤك أفضل من تدميرك.

العز بن عبد السلام وهو يتكلم في القواعد الكلية في باب المصلحة، قال: إذا وقعت حربٌ بين المسلمين وأعدائهم ولم يحصل نكاية وجب الانهزام.

أي: إذا لم يحصل منا نكاية في العدو بأن كسرناهم وغلبناهم، وغلب على ظننا أننا إذا دخلنا الحرب غلبنا وجب أن ننهزم لعدونا، ثم علل ذلك قائلاً: لأنه إذا لم يحصل نكاية كسرت شوكة المسلمين، وذهبت بيضتهم مع عدم وجود مصلحة في ضياع النفس إذ ضاع الدين.

والضرورات الخمس التي نزل الإسلام بكل نصوصه لحفظها:

أولها: الدين.

ثانيها: النفس.

فنحن في حربنا مع عدونا إنما نحارب لتكون كلمة الله هي العليا، ليست حرب استرداد أرض، ولا حرب غزو النسل، أو من أجل أن نوسع الرقعة التي معنا.. أبداً.

ما شرع الحرب في الإسلام إلا لإعلاء كلمة الله دفعاً أو طلباً، جهاد الدفع إذا هجم عليك عدو، فتدفع عن نفسك، لتحفظ بلدك ودينك ومواطنيك.

أما جهاد الطلب: فأنت الذي تطلب العدو، تبعث رسلاً، أريد أن أدعو إلى الله عندكم، قالوا: لا. قلنا لهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دعوة الناس ولا تحجروا عليهم وإما قاتلناكم، والله إذا رضوا بجز الغلاصم، ولكز الأراقم والبلاء المتلاطم المتراكم، فهم وما أرادوا ندخل عليهم، وإذا رضوا وقالوا: تفضلوا ادخلوا وادعوا، فإذا دخلنا، فمن أسلم منهم صار منا، ومن لا، فعليه أن يدفع الجزية وهو صاغر، مشروع الجهاد كله إنما قام لأجل هذا.

وترك الجهاد مهلكة للذين لا يجاهدون، قال الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] ذهب أسلم بن عمران إلى أبي أيوب الأنصاري، فسأله عن قوله تعالى: : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] هو الجهاد؟ قال: لا.

وهناك قصة استدعت أن أبا أيوب الأنصاري يقول التفسير الصحيح لهذه الآية، فقد وقع حصار بين المسلمين والروم وبينما هم محاصرون إذ خرج صف عظيم من الروم، فخرج صف من المسلمين للالتقاء بهم، وحصل الاشتباك، فأحد المسلمين دخل في وسط المشركين وجعل يضرب هذا وذاك، وأحدث نوعاً من الاضطراب في صفوف المشركين، فجعل الناس يقولون: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة، فحينئذٍ خطبهم أبو أيوب الأنصاري وقال: أيها الناس! إنكم تضعون الآية في غير موضعها، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه وكثر ناصروه، قلنا بيننا وبين أنفسنا سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ قد أعز الله دينه وكثر ناصروه، فلنصلح أموالنا التي تلفت، كل واحد منا له تجارة وزراعة، وبسبب الجهاد المستمر، تلفت الزراعة وتوقفت حركة التجارة، قال: فنزل قول الله عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فكانت التهلكة: ترك الجهاد.

إذاً: مسألة المصلحة والمفسدة مهمة في تحديد معنى الاعتزال، فأنا في بلد، أدعو ووجدت لدعوتي صدى، وبدأ الناس يستجيبون، فلنكن مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكسر الأصنام يوم دخل مكة، بل كانت رايات البغايا على البيوت ترفرف وهو يمر، وكانت الأصنام في جوف الكعبة وهو يطوف، ومع ذلك سكت؛ لأنه ليس هناك مصلحة في استباحة بيضة المستضعفين، فإذا وجدنا أننا لا نستطيع إقامة الدين في وسط هؤلاء؛ دعونا من استجابوا لنا، فإن وجدنا أننا لا نستطيع ولا يوجد لنا رصيد في هذا البلد، وخشيت على نفسي التلف، إما بالأذى وإما بالركون إليهم حينئذٍ نعتزل.

وهذا ينطبق عليه قصة أصحاب الكهف: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، فاعتزلوا هؤلاء؛ لأنهم لا يقدرون على تغيير مجتمع فيه أباطرة، وهم مجموعة من الفتية الصغار الذين لا يقدرون على ذلك.

وجود الفرد لوحده مع الخوف على النفس

الحالة الثالثة التي توجب الاعتزال، أن تكون فرداً لا معين لك، وبين هذه والتي قبلها عموم وخصوص، ففي هذه الحالة تعتزل إذا خفت على نفسك، أما دون هذا فإن العزلة لا تشرع، حتى نقيم دين الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وجاء هذا الفعل مضارعاً مؤكداً باللام، ونحن نعرف أن من صفات الفعل المضارع الاستمرار، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، فإذا شرعنا العزلة للناس جميعاً وكل واحد يعتزل؛ فمن الذي يقوم بهذه الشعيرة العظيمة.

كل عالم عندما تقرأ ترجمته تجد عنواناً مشتركاً في تراجم العلماء الربانيين، التراجم الجانبية: اسمه.. كنيته.. مولده .. شيوخه.. تلاميذه .. ورعه وزهده.. تقشفه، طلبه للعلم؛ ثم تجد محنته.

هذا العنوان الجانبي (محنته) تجده في تراجم العلماء الربانيين. ما معنى المحنة؟ أليس فيها مواجهة، هو إذا اعتزل وحده وتفرد ما يمتحن، إنما يمتحن لأنه أمر ونهى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]، فدلنا ذلك على أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لا بد أن يصيبه أذى، لذلك قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

الحالة الأولى: ألا تميز بين الحق والباطل، فإذا دعيت إلى جهة من الجهتين وأنت لا تستطيع التميز فحينئذٍ تعتزل، وقد فعل هذا جماعة من خيار الصحابة، لما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لما وقعت الفتنة، أخذ أولاده وماله وخرج خارج المدينة ، فجاءه ولده عمر بن سعد ، وقد تورط وشارك في قتل الحسين ، فلما رآه سعد من بعيد جداً وهو لا يعلم من هذا الراكب، وقد كان سعد صاحب فراسة، فقال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فاقترب الراكب شيئاً فشيئاً، فإذا هو عمر ابنه، فدخل عليه، فقال: يا أبت! أرضيت أن تكون أعرابياً في إبلك، والناس يتقاتلون على الملك، أما والله لو ذهبت أظنها تئول إليك، وتصبح أنت الخليفة، فضرب على صدره وقال: يا بني! اجلس، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي النقي الغني الخفي).

وروى ميمون بن مهران رحمه الله، عن سعد بن أبي وقاص أنهم جادلوه: ( كيف تركت هذا ولم تدخل؟ قال: إذا جئتموني بسيف ينطق له عينان ولسان، يقول: هذا كافر اقتله، وهذا مؤمن دعه، حينئذٍ أخوض معكم.

يا قومِ! إنما مثلي ومثلكم كمثل قومٍ في سفر، فهبت عليهم ريح مظلمة، ففقدوا الطريق، فقال جماعة: الطريق يميناً، فمضوا، وقال جماعة: الطريق يساراً ومضوا، وقال جماعة: بل نبقى في مكاننا حتى تنجلي، فما لبثت الريح أن انجلت، فإذا الذين وقفوا، وقفوا على الأمر الأول ) هذا هو الفقه، أنهم وقفوا على الأمر الأول.

ولما اعتزل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قيل له: لم اعتزلت؟ قال: لا أعرف من الباغي، ولو علمت لقاتلت.

واعتزل الفتنة أيضاً محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يمشي مع علي ولا يقاتل، حتى إذا قتل عمار قاتل؛ لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـعمار بن يا سر عندما كان يبني المسجد النبوي، وكان عمار مريضاً، فكان الصحابة يحملون لبنة لبنة، ويحمل عمار لبنتين لبنتين مع مرضه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل التراب عن ظهره وهو يقول: (ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)، وكان عمار مع علي.

إذاً: الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه ومن معه، فظهر لـخزيمة بن ثابت أن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، فحينئذٍ لم يترخص ولم يتوقف وإنما قاتل، فقد ظهر له برهان أن علي بن أبي طالب مبغي عليه.

فإذاً: إذا لم يميز المرء الحق من الباطل يعتزل، وليس هذا في الفتن فقط، إنما هذا في كل قضية طرحت، وليس عندك علم أهذا محقٌ أو مبطل، اعتزل الجدل، ولا تخض بلسانك، ولا تقل: أنا رأيي كذا، طالما أنك لم تميز بين الحق والباطل.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.