الأخوة [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]... يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فأول ما بدأ أن أسس المسجد ليجمع بين الناس، وليربطهم بربهم، ثم بعد ذلك آخى بينهم، وحتى نعلم أهمية هذه الأخوة يجب علينا أن نُطل إطلالة سريعة على وضع المؤمنين في مكة قبل الهجرة، لأنك لن تستطيع أن تقدر هذه الأخوة ولا تحس بشأنها وضرورتها إلا إذا علمت حالهم في مكة، ولنبدأ -مثلاً- بحال زعيمهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم، برغم أن الله تبارك وتعالى منعه بعمه أبي طالب ، فكان ذا منعة ومع ذلك وصل إليه الأذى.

قالت عائشة رضي الله عنها بعد غزوة أحد -وما أدرك ما غزوة أحد، وما جرى للمسلمين فيها والنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؟! لقد كسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على جبهته، وقتل حمزة عمه وقتل نفر كثير من المسلمين، فحزن عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حزناًعظيماً- فقالت له عائشة كما في الصحيحين: (هل مر عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: نعم. لقد لقيت من قومك -ثم ذكر لها قصته لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله عز وجل وقد أدموا قدميه بالحجارة- قال: فبينما أنا مهموم هائم، إذ رأيت سحابة تظلني، فرأيت جبريل عليه السلام، فقال: إن الله قد علم ما قال لك قومك، وما قلت لهم، فلو شئت لأقلبن بهم الأرض، وهاهو ملك الجبال، قال صلى الله عليه وسلم: فسلم عليَّ ملك الجبال، وقال: إن الله أمرني أن أكون طوع أمرك فلو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت -وهما جبلان عظيمان في مكة- فقال عليه الصلاة والسلام: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً).

وفي الصحيحين أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة إذ جلس أبو جهل وجماعة وقد ذُبح جزور بالأمس -جزور أي: بعير- فقال أبو جهل : من منكم يقوم إلى سلى هذا الجزور، فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ -السلى هو موضع البهيمة في بطن الحيوان وهو يساوي من الإنسان المشيمة في بطن المرأة فكان ملقياً على الأرض- فقال: من يقوم فيأخذ هذا السلى فيضعه بين كتفيه إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فوضع السلى بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود : وأنا أنظر فلو كان لي منعة -أي: لو كان له ظهر وعشيرة في مكة- لمنعتهم، قال: فأُخبِرت فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم فجاءت تجري وهي جويرية صغيرة فطرحت السلى من على ظهره وهي تشتمهم وتسبهم، وقد رأيت أبا جهل يميل إلى القوم وهم يتضاحكون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: اللهم عليك بقريش ثلاثاً، قال: فسكتوا وزالت الضحكة من على وجوههم -كانوا يخافون دعوته- ثم قال: اللهم عليك بـأبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وسمى أقواماً، قال عبد الله بن مسعود : والله لقد رأيتهم جميعاً صرعى يوم بدر).

والنبي صلى الله عليه وسلم برغم أن الله منعه بعمه إلا أن الأذى وصله، فما بالك بصغار المؤمنين المستضعفين الذين لا يأوون إلى أهل ولا إلى قرابة قوية؟! لقد كانوا يتوجسون ريبة من هؤلاء المشركين، ففي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أول من أسلم النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه الله بعمه، وأبو بكر ومنعه الله بقومه، أما سائر المؤمنين كـعمار وأمه سمية ، وبلال ، وصهيب ، والمقداد ، وخباب ، فقد أخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وألقوهم في رمضاء مكة، أما بلال فقد هانت عليه نفسه في الله عز وجل فأخذه الولدان يجرجرونه، وهو يقول: أحد أحد) ففي هذا الجو العصيب لا يمكن أن تقوم أخوة.

والحياة إذا لم يكن فيها من تحبه ويحبك فلا قيمة لها، فقد كان الواحد منهم يخشى أن يجتمع بأخيه فيعذبان، وكان شيء مفقود أن تجتمع إلى إلفك، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم جد الحرص على أن يوجد في المسلمين هذه الخصلة (الأخوة).

وفي الصحيحين قصة عجيبة تريك هذه الريبة التي كان يشعر المسلمون بها في مكة، من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال : (أخبرني أبو ذر عن أول إسلامه قال: علمت أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي -وأخوه هذا أنيس ، أسلم أيضاً وهو أخوه الوحيد- فقلت لأخي: ارحل إلى مكة -وهو من غفار- فأعلم لي خبر هذا الرجل، قال: فركب أخوه ورحل ثم رجع إليه بعد أيام وقال له: لقد رأيت رجلاً يحث على مكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر -وأنيس أخوه كان شاعراً- قال: ويقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال له أبو ذر : ما شفيتني، ثم جهز رحله وأخذ شنةً فيها ماء ورحل إلى المسجد الحرام، قال: فمكثت في المسجد لا أسأل أحداً؛ لأنه إن سأل ضرب وعذب، وكانوا يتربصون بكل من يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فمكثت في المسجد يومي هذا لا أسأل أحداً، فمر بي علي بن أبي طالب فقال: الرجل غريب؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحد منا الآخر شيئاً، فلما أصبح الصباح رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً شيئاً، فمر بي علي ، فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ اتبعني، قال: فتبعته ما يسأل أحداً منا الآخر شيئاً، فلما كان في اليوم الثالث رجعت إلى المسجد ما أسأل أحداً -كل هذا وهو خائف- قال: فتضعفت رجلاً منهم -نظر إلى رجل فوجده ضعيفاً فقال في نفسه: لو سألت هذا فإني آمن غوائله، فلن يؤذيني- فقلت له: أين ذلك الذين يقولون إنه صبئ؟ قال: فأشار الرجل إلى القوم وقال: الصابئ الصابئ قال: فقام القوم عليَّ بكل مدرة وعظم وانقلبوا عليَّ حتى كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت على وجهه- قال: فمر بي علي وقال لي: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ ألا تخبرني بخبرك؟ فقلت له: إن أمنتني أخبرتك؟ قال: لك ذلك، قال: إني أسأل عن ذاك الرجل الذي يزعمون أنه نبي، قال: فاتبعني فهذا وجهي -أي: أنا ذاهب إلى هناك- وإنني سأسبقك، فإن رأيت ما سيؤذيك فسأصلح نعلي، فإن رأيتني أُصلح نعلي، فانطلق ولا تنحني عليَّ -وفي رواية البخاري قال:- فإن رأيتني أريق الماء فانصرف ولا تنحني عليَّ- قال: فتبعته فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فأسلمت مكاني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى قومك وانتظر خروجي -أي: لا تجهر بدعوتك حتى لا ينالك الأذى وانتظر خروجي وظهور دعوتي- قال أبو ذر : أما والله لأصرخن بها فيهم، فخرج إلى المسجد الحرام وقال: أيها الناس! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فانقلب المسجد عليَّ، فما زالوا يضربونني حتى الموت حتى انكب عليَّ العباس وقال: أيها الناس! أما تعلمون أنه من غفار ؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ قال: فتركوني، فلما أصبحت صرخت فيهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فانقلبوا عليَّ ففعلوا بي ما فعلوا بالأمس فأكب العباس عليَّ وقال: أما تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام تمر بغفار؟ فأنقذني منهم، -وفي رواية مسلم- قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم حتى كأني نصب أحمر فهربت منهم واختبأت في المسجد ثلاثين يوماً ليس لي طعام إلا ماء زمزم، حتى تكسرت عكن بطني، ولم يعد على كبدي سخفة جوع -العكن: كسرات البطن إذا سمن المرء، وكان المتصور أن رجلاً يعيش على الماء يصير جلداً على عظم، وإنما هذا تكسرت عكن بطنه، يعني: أصبح له كرش وأصبح اللحم يتكسر من السمن، ولم يعد على كبدي سخفة جوع، أي: لم يشعر بالجوع - فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عن ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم).

فانظر إلى إسلام أبي ذر وإلى ما كانوا يلقونه إذا جهر المرء بدعوته، يقول له علي: (اتبعني فإن رأيت ما أخاف عليك انحنيت أصلح نعلي وانصرف أنت) فلا يستطيع الرجل أن يمشي مع أخيه، ولا أن يستمتع بهذه الأخوة، ولا أن ينصر أحدهم الآخر؛ لأنهم جميعاً مستضعفون، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع شمل هؤلاء المستضعفين: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الأخوة عقداً نافذاً لا كلاماً فارغاً لدرجة أنهم كانوا يتوارثون دون ذوي الرحم، كانوا يتوارثون بهذه الأخوة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الرحمن من المهاجرين وسعد من الأنصار، فقال سعد : (يا عبد الرحمن ! إني أكثر أهل المدينة مالاً ولي زوجتان، فأقسم مالي نصفين، وانظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما أطلقها ثم تزوجها أنت، فقال له عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق) فدله على السوق فانقلب في ذلك اليوم بفضل أقطٍ وسمن -الأقط: هو اللبن الجاف- وما هي إلا أيام حتى قابل النبي صلى عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف في الطريق وعليه صفرة كأنه خضاب أو نحو ذلك فقال له: (مهيم -أي: ما هذا الذي أراه عليك وهو أثر الصفرة؟- قال: إني تزوجت، قال: وكم أصدقتها؟ قال: بنواة من ذهب) نواة من ذهب في بضعه أيام.

إن المرء عندما ينظر إلى سماحة سعد لا يسعه إلا أن يُعجب بنبل عبد الرحمن وعفته فقد قال له: (هذا نصف مالي خذه، ثم انظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما) مع أن العرب كانوا يغارون جداً على العرض، ولا يتصور في رجل أن يقول: اختر بين زوجتي أطلقها وتزوجها أنت: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63] وقصة الأوس والخزرج والمعارك الرهيبة الجاهلية التي كانت تحصل بينهم لا تكاد تنسى، فإذا لطم الرجل الآخر لطمة تقوم لها الحرب على قدم وساق، وقد قامت الحرب أربعين سنة بين الأوس والخزرج على شيء تافه جداً وقتل ألوف مؤلفة، ونزلت هذه الآية للأوس والخزرج: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63] أي: إنك لا تستطيع مهما أوتيت من المال أن تشتري ولاء أحد، ولا أن تشتري قلبه، ويمكن أن يظهر لك الولاء، أما القلب فلا.

إن هذه المحنة التي يعيشها المسلمون الآن هو هذا الشتات القلبي بين المسلمين، وهذه الأخوة الجوفاء التي يتشدق المسلمون بها الآن هي السبب في هذه المصائب، فأين حدبك على أخيك؟ وأين شفقتك؟ لقد قلت من هذا المكان مراراً وتمنيت من كل قلبي أن أجد له أثراً فعالاً.

قلت: الذين يحجون أكثر من مرة.

والحج بعد المرة الأولى يصير في عداد النافلة، أي: التطوع، فينفق بضعة ألوف من الجنيهات على هذا الحج ويذهب ولا يحج على السنة.

ففي اليوم الثامن يحشرون حشراً إلى عرفات ولا يبيتون في منى، وإذا ما أفاضوا من عرفات يتجاوزون المزدلفة ولا يبيتون بها قلت لمثل هؤلاء: هذه الألوف التي تنفقها انظر إلى أخ لك فقير لا يجد ثمن الزواج، أو إلى مريض لا يجد ثمن العلاج، أو إلى رجل يريد التوسعة في سكنه، أو إلى رجل هدم مسكنه رأساً ويعيش في عشة، قل له: خذ هذا المال، واقض به حاجتك، لكن عقد الأخوة فارغ، مجرد دعوى جوفاء لا قيمة لها، ولا يمكن لمثل هذه المؤاخاة أن تقوم في مجتمع يسوده الجهل والجبن والشح، مع أنك إن فعلت ذلك تقربت إلى ربك عز وجل أكثر من تقربك بهذا الحج الناقص، فحدبك على أخيك وعفوك عليه فرض عليك، وحجك نافلة، فقدم الفرض على النافلة إن كنت تريد الأجر؛ لكن ما أظنك تريد الأجر؛ لأن المرء إن علم أن هذا الموطن يؤجر فيه أكثر من الموطن الآخر لا شك أنه يذهب إليه.

والذين يذهبون إلى المصيف ينفقون في عشرة أيام أكثر من ألف جنيه، ثم يعودن بأوزار يحملونها على أظهرهم ويزعمون أنهم يرفهون عن أنفسهم، وإننا ما علمنا أن المعصية يمكن أن ترفه عن العبد وتزيل همه.

أترفه عن نفسك بالنار؟! كالذي يرى أن الجو حار فيقول: أدخل فرناً؛ فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فهذا الذي يذهب إلى المصيف ثم يعود بأوزار على ظهره يعمل عمل المجانين، وهذا من المفاهيم الخاطئة الناتجة عن الجهل بهذا الدين وحدوده ومعالمه.

لقد رأينا أناساً يرون في سماع القرآن الكريم مأتماً، فيرفه عن نفسه بسماع أغنية، أو بأن يلهو ويلعب وإذا زجرته قال: ساعة لقلبك وساعة لربك.

اسمع نصيحتي: ساعة قلبك لا تكون إلا لربك.

إن هذا القلب إن لم يكن له صلة وثيقة بالله عز وجل يظل دائماً في جحيم، إن ذكر الله عز وجل يريح القلب؛ ولذلك لما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل وثيق يلقى الله تبارك وتعالى به قال: (أن تموت ولسانك رطب بذكر الله عز وجل) رطب بذكر الله عز وجل.

فالنبي عليه الصلاة والسلام آخى بين هؤلاء المستضعفين، وصارت هذه الأخوة عقداً نافذاً حتى بعد الممات، (ففي غزوة أحد أراد عمرو بن الجموح أن يقاتل، وكان رجلاً أعرج شديد العرج وكان له ستة أبناء من الفرسان -يعني: ليسوا كأي المقاتلين، بل هم من الفرسان، في مقدم الجيش- فقالوا له: يا أبانا! إنك ممن عذر الله؛ فإنك أعرج، فقال لهم: إنني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فلا تمنعوني، ثم شكاهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: دعوه لعل الله يرزقه الشهادة، ثم دارت رحى الحرب وقتل عمرو مع من قتل، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفنه قال: ادفنوه مع فلان فقد كانا متحابين) يعني: أنه يحشر يوم يحشر مع من يحب، فانظر إلى هذا، وانظر إلى الذي يقول: (صديقي ريجن، صديقي كارتر)، ويعطيهم ود قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً حشر معهم)، وفي الصحيحين: (أن رجلاً جعل يصرخ في القوم ويقول: يا محمد! أجبني وكان رجلاً من الأعراب فجعل القوم يغمزونه -أي: يقولون له: حسن عبارتك ولا تقل: يا محمد قل: يا رسول الله- والرجل لا يأبه ويصرخ حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: أعماله دون أعمالهم، هل يمكن له أن يراهم مثلاً في الجنة أو أن يكون مع من يحب في الجنة؟- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل مع من أحب، قال أنس : فما فرحنا بعد الإسلام بشيء كفرحنا لهذه البشارة) لأنهم جميعاً يحبون النبي صلى الله عليه وسلم.

والنبي عليه الصلاة والسلام ساق لنا أحاديث كثيرة في المودة والمحبة وهذا التعاقد الأخوي، فقال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله عز وجل: أين المتحابون بجلالي؟ أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، المتحابون بجلالي، أي: الرجل يحب الآخر لله، لا للمال والمصلحة.

لا تخضعن لمخلوق على طمعٍ فإن ذلك نقص منك في الدين

واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

إن بعض المسلمين يفكرون تفكير هذا اللص الحميري الذي قال يوماً:

إني لأستحيي من الله أن أُرى أُجرجر حبلاً ليس فيه بعير

وأن أسأل النكس الدنيء بعيره وبعران ربي في البلاد كثير

يقول: لم أسأل الدنيء بعيره وأستعيره منه وأقترضه لأقضي عليه حاجتي، وبعران ربي كثيرة في البلدان، أسرق منها ما أشاء؟! فبعض المسلمين يفكرون بعقلية هذا اللص إما جهلاً وإما تجاهلاً، ونعوذ بالله عز وجل أن نكون من أهل هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104] فلو أنه في يوم من الأيام تفطن لخطئه لعدل، لكنه يحسب أنه يحسن الصنع؛ فلذلك لا يمكن أن يرجع، وإن حاولت أن تقنعه لا يرجع؛ لأنه يظن أنه من المحسنين، وهذا ما يشير إليه بعض الباحثين بقولهم: (نعمة الألم)، فالألم من أجل نعم الله على العبد؛ بخلاف ما يتصوره بعض الناس؛ مثلاً: إن جاءك (مغص) شديد؛ فهذه نعمة؛ ولعل بعضكم يقول: وما وجه النعمة وهو ألم؟! فأقول انظر إلى الأمراض الفتاكة كالسرطان مثلاً، إنه ينهش في جسم المريض ولا يشعر المريض بالألم؛ فالألم إنذار؛ فلذلك يبادر الإنسان إلى الطبيب فيأخذ العلاج، ويمكن له أن يتدارك المرض من أوله، بخلاف ما إذا سرى المرض في جسم العبد، وهو لا يدري أنه مريض، حتى إذا شعر بالألم كانت القاضية، فنعمة الألم هذه كنعمة الإحساس بالغلط، ولذلك يقول الأطباء: (إن أولى درجات العلاج هي الاعتراف بالمرض) أن تعترف أنك مريض هذه أولى درجات العلاج أما أن تكابر فأنت وشأنك.

فهؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، منع الله عز وجل منهم نعمة إدراك الغلط، وقد حسن لهم الشيطان أعمالهم فهم: يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] انظر مثلاً: إلى هذه الصفوف عندما تقام الصلاة، هل المسلمون يحسنون تسوية الصفوف؟ إنه مما يؤسفني أن أقول: لا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تختلفوا -أي: في الصف- فتختلف قلوبكم) لماذا تدخل في هذه الصلاة ثم تخرج منها وليس بينك وبين أخيك رابط؟ إنك لا تقف معه كالبنيان المرصوص، رجل بجنب رجل فقط، وقد قال عبد الله بن مسعود : (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، ولقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأينا الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف أي: يُحمل بين الرجلين؛ لأنه لا يستطيع أن يقف على قدميه.

فانظر إلى هذا الذي يُهادى بين الرجلين يُحمل حملاً، كي يأتي إلى هذه الجماعة، حتى يدرك جلال هذه الأخوة.

إن قصرت في قيام الليل، أو في صلاتك، أو لم يكن معك مال تتصدق به، أو عجزت أن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، فأحب في الله عز وجل، تدرك منزلة رفيعة، ففي صحيح مسلم: (أن رجلاً ذهب ليزور أخاً له في قرية مجاورة، فأنزل الله عز وجل ملكاً في صورة رجل، فوقف على قارعة الطريق، فقال لهذا الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: إني ذاهب لأزور أخاً لي، فقال له الملك: أو ترى أن له عليك نعمة -يعني: له جميل عليك-؟ قال: لا. غير أني أحبه في الله عز وجل، قال: فإن الله عز وجل يقول لك: إنه أحبك كما أحببته) إنه أحبك.

وإذا أحب الله عز وجل عبداً، أحبه كل أهل الأرض ووضع له القبول في الأرض، كما في الحديث الصحيح : (إن الله عز وجل إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلان بن فلان فأحبه).

تصور أنك إن ذكرك الله عز وجل في الملأ الأعلى، فقال: إني أحب فلان بن فلان، انظر إلى هذا الشرف السامق، وهذا لمجد الأثيل، أن الله تبارك وتعالى في علوه وكبريائه ومجده يذكر هذا العبد المستضعف الذي يمشي بقدمين على الأرض، ويقول: إني أحبه.

لو أن ملِكاً في هذه الأرض قال: إني أحبك -وأشار إلى عبد- لكاد أن يطير من الفرح، مع أن محبة هذا لا ترفع شيئاً ولا تضعه. وهذه محبة الملك المتعال: (إني أحب فلان بن فلان) ألا ترغب أن تكون هذا العبد؟ إياك أن تستحقر نفسك، فإنك لا تدري منزلتك عند الله عز وجل: (إني أحب فلان بن فلان، فأحبه؛ فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) وورد في بعض الآثار: إن العبد الصالح إذا مات بكت عليه الأرض، بكى عليه موضع سجوده، وبكى عليه موضع قدمه الذي كان يمشي به على الأرض؛ لأنه افتقد هذا الصالح، ثم إن هذا العبد إذا مات رُفع ورفعت روحه إلى السماء، وتفتح له أبوب السماء، من هذا؟ فلان، أي: الذي كانوا يحبونه وهو حي، فيستقبلونه ويدعون له، وقد طيب الله عز وجل ثراه وروحه حتى يُرفع إلى عليين.

إذاً: هذه الأخوة في الله عز وجل لها أجر عظيم جداً، فإياك أن تدنس هذه الأخوة بشيء من هذه الأرض، كأن تتقرب إلى إنسان لأجل ماله أو جاهه أو نفوذه، لا. أحب لله عز وجل وأبغض فيه، فإن هذه الأخوة كانت من أعظم ما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كانوا يتجمعون في المسجد كأنهم روح واحد، ألم تسمع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول: (كنت أتناوب النزول أنا وأخ لي من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الأخ الذي عناه عمر هو: عتبان بن مالك وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمر ، وظلت هذه الأخوة يتوارث بعضهم بعضاً إلى بعد موقعة بدر مباشرة، فنزل قول الله عز وجل: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، فألغيت المواريث وبقيت المناصرة.

إن هذا المجتمع المفكك لا يمكن أن يعود وينتصر إلا إذا فعل الدعاة ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فالذين يريدون أن يجاهدوا بأيديهم، كيف يجاهدون في هذا التفرق العظيم بين الناس؟! هل يمكن مثلاً أن نقول الآن: حيَّ على الجهاد وربع الأمة مثلاً لا يصلي أو ثلث الأمة لا يصلي أو نصف الأمة لا يصلي؟

هل تضمن إذا دارت رحى الحرب أن لا يطعنك في ظهرك؟ لا تضمن ذلك، لأن قلبه ليس عليك، يجب على الذين يريدون هذه المنزلة أن يبدءوا من حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون: (نبدأ من حيث انتهى)، فهذه مقالة خطأ، وأقل ما يمكن أن توصف هذه المقالة أنها خطأ، يقول: (نبدأ من حيث انتهى)، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يوم انتهى ترك شيئاً لغيره حتى يبدأ به؟! لقد أتم كل شيء ثم انظر إلى حالك الآن وأنت مستضعف لا تملك من أمر نفسك شيئاً، وانظر إلى إخوانك وقد تفرقوا شذر مذر، بحيث أنك لو قلت لأحد الناس: إن فلاناً يموت، إن فلاناً سقط بيته، إن فلاناً مريض، أعطونا شيئاً من المال على الأقل، فنصف الموجودين لا يُعطي شيئاً، أظن هذا إن قلت له: أعطني روحك فسيكون بها أبخل.

يجب أن نبدأ كما بدأ النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الأخوة يجب أن تعود، لقد رأيت بعض المسلمين -ولا أريد أن أقول: (كثيراً) مع أن الواقع يشهد أنهم كثير- إذا اختصم أحدهم مع الآخر في مسألة فرعية، ترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه؛ بل لعله لا يقابله أبداً، ويتجنى بعضهم على بعض، وهم أسوأ ما يكونون في المعاملات المالية، ولقد رأيت بعض الناس قال للبعض الآخر: أليس معك مال نصنع شركة؟ قال له: نعم معي، وذهب الرجل إلى امرأته فقال لها: اخلعي الذهب، وهاتي كذا، وهاتي كذا، سوف نبيع كل هذا وننشئ شركة، وسنأخذ جزءاً من الأرباح كل شهر، وجاء الرجل بذهب المرأة، وجاء بالمتاع الذي كان ادخره يوماً ما، ووضعه في يد صاحبه، فأخذ هذا الإنسان المال، وكان عليه دين، فَسَدَّ دينه بمال أخيه، وكلما قال له أخوه: أين التجارة؟ قال له: أنا وصيت على البضاعة، ستأتي غداً، بعد غد، غداً، بعد غد حتى طال الأمل، ثم كشف هذا الآخر عن وجهه، قال له: حدثت لي ظروف، فأنفقت المال، وكاد الآخر أن يجن؛ لأن امرأته كادت أن تُطلق بسبب بيع الذهب، أهل المرأة أصروا على أن يأتي بالذهب، والرجل لا يملك شيئاً، والآخر يقول له: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] وهذا الآخر أيضاً فقير مثلك، وكان أولى بماله منك، وما أعطاه المال حتى هدده، وما أعطاه ماله كاملاً؛ بل أعطاه مقسطاً، وضاع ذهب المرأة وضاع متاعه الذي ادخره، وراحت الأخوة من بين الاثنين.

أهذه أخوة؟! أهؤلاء يمكن يوماً أن تقوم بهم دولة؟!

إن سنة الله تبارك وتعالى في الأرض لا تتخلف وهي سنة عادلة، يوم ينظر الله تبارك وتعالى إلى هذا القطيع فيرى قلوبهم تجمعت في بوتقة واحدة وفي مكان واحد، نكون أحق بنصر الله عز وجل، أما الآن فنحن لا نستحق هذا النصر، ولا نستحق أن يرفع عنا هذا الضيم، الذي وضعه الله عز وجل بعدله، ويجب على المسلمين أن يراجعوا هذه الأخوة، وأن ينظروا أين مكانهم من هذه الأرض، وهل يحبون في الله عز وجل أم يحبون لعرض زائل، إن هذه الدروس يجب أن نستفيد منها استفادة عملية.

فأرجو أن يراجع كل منا نفسه في باب الأخوة، هل يحب أخاه فعلاً في الله عز وجل أم لا؟ إن كان عنده مال مدخر وأخوه يحتاج إلى هذا المال؛ فليحمله إليه، جرب يا أخي ولا تقل: هذا المال أنا أدخره للطوارئ.

جرب أن تعطيه لأخيك، كما يقول بعض الدعاة: (جربوا الله مرة)؛ فإنك إن كنزت هذا المال، أتى الله عليك بجائحة أخذت هذا المال وربما تستدين عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة) فجرب وأحسن إلى أخيك وسترى وقع هذا الفعل في حياتك، فإن الله تبارك وتعالى بيده نواصي العباد.

وستعلمون أثر هذه الأخوة فيما بعد عندما تبدأ المجابهة ما بين هؤلاء المسلمين، وما بين القوى الثلاث اللائي كن يقطن في المدينة المنورة وهم أعداء الدولة المسلمة: الكفار، والمنافقون، واليهود.

هؤلاء الأعداء الثلاثة الذي وقفوا بالمرصاد لهذه الدعوة، فلا تستطيع هذه الدعوة مع قلة عددها وعتادها أن تنتصر عليهم إلا بهذه الأخوة.

أرأيتم في غزوة أحد لما جاء طلحة بن عبيد الله وقد أحاط المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون أن يصلوا إلى ما الله مانعهم منه، وهو أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يقتلوه، ترس عليه طلحة وأبو دجانة -ترس يعني: احتضنه وجعل ظهره للسهام- فأصيب طلحة في ظهره بسهام الكفار وهو لا يتحرك، حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الأخوة والمحبة الصادقة.

إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.