الهجرة الهجر العزلة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يعتبر أبو الوفاء ابن عقيل هو أحد علماء الحنابلة، عاش معظم حياته في القرن الخامس الهجري، ومات في أوائل القرن السادس، وهو صاحب أطول كتاب أُلف، لا أقول: في الإسلام فقط، ولكن في الدنيا كلها، فقد ذكر ابن رجب رحمه الله في ذيل طبقات الحنابلة أن له كتاباً يسمى كتاب (الفنون) يقع في ثمانمائة مجلد، وكان واعظاً ماهراً، وعالماً أصولياً بارعاً، له كلمة حكيمة يقول فيها: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى تزاحمهم على أبواب الجوامع، ولا تنظر إلى صراخهم في الموقف بـ(لبيك اللهم لبيك)، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة).

إذا رأيتهم يواطئون أعداء الله ورسوله، ويلقون إليهم بالمودة؛ فلا تغتر بزحامهم على أبواب الجوامع .. إنه يأتي يصلي في الصف الأول ويرتشي .. ويأتي يصلي في المسجد ويزني ويشرب الخمر، فلا تنظر إلى هذا الزحام، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة.

نحن اليوم مع ثلاثة نماذج هي آثار للبراء: الهجرة، والهجر، والعزلة.. هذه كلها نواتج للبراءة من أعداء الله ورسوله، وإنما ركزت عليها؛ لأن الولاء لا يكون إلا بعد براءة صحيحة، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ إذ لا يستقيم إيمان بالله إلا بعد كفر بالطاغوت .. رجل عنده بقايا من الكفر بالطاغوت لا يؤمن بالله حق إيمانه، فيبدأ بتطهير قلبه أولاً، كمثل الإناء، فإذا كان في قعر الإناء بقايا طين فصببت فيه الماء الزلال تعكر الماء كله، كذلك إذا كان في القلب بقايا من الإيمان بالطاغوت فصببت فيه الإيمان بالله؛ تعكر الإيمان كله، فلا يسلم لك إيمانك إلا إذا كان القلب نقياً من الكفر بالطاغوت.

إن مواطأة أعداء الشريعة أعظم جريمة يرتكبها المسلم؛ لأنها باب من أبواب الكفر، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما بايع جرير بن عبد الله حين جاءه مسلماً قال: (أبايعك على أن لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين)؛ وذلك لما لمخالطة المشركين من الأذية على القلب.

حتى تتم لذلك لتتم البراءة شرعت الهجرة، وشرع الهجر، وشرعت العزلة .. فأما الهجرة فنوعان: هجرة، وهجر.

هجرة بالبدن، وهي: مفارقة الأرض والخلان والأخدان والإخوان, وهذا أعظم ما يفعله العبد المتبرئ من أعداء الله عز وجل؛ لمشقته على النفس، وأول من هاجر هو إبراهيم عليه السلام وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت:26].. وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، فشرعت الهجرة بعده؛ إذ أن الله عز وجل امتن عليه بأن الحنيفية السمحة كانت على يديه ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فسنت الهجرة بالبدن ومفارقة الأرض لكل مؤمن يدين بدين الحنيفية بعد إبراهيم عليه السلام.

وهاجر لوط أيضاً، وهاجر نبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه بإذنه قبل ذلك.

ومن الخسة بمكان أن يربط المرء عواطفه بتراب، أبى الله للمسلم إلا الرفعة، فلا يربط المسلم نفسه بالتراب، حتى ولو كان أشرف مكان على وجه الأرض وهي مكة .. إن مكة وهي بلد الله الحرام، وهي أحب بلاد الله إلى الله، كانت يوماً ما دار كفر، تركها النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر منها، فالمسلم لا يرتبط بأرض أبداً؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41-42]، (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) أي: أخرجوا قسراً من أرضهم وأموالهم ظلماً وعدواناً .. لماذا تخرجه؟ لماذا تستحل ماله؟ لماذا تشرده؟ هذا ظلم، لكنهم هاجروا في الله من بعد ما ظلموا، (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) والحسنة: هي التمكين في الأرض، (ولأجر الآخرة أكبر) إذا وافى ربه عز وجل، فقد أخذ الله عز وجل على نفسه أنه من خرج من أرضه أن تبارك وتعالى يعزه ويوطئ له الأرض، (لنبوئنهم) اللام والنون المشددة للتأكيد، ولأجر الآخرة أكبر.

ولذلك كان من تمام هجرة المسلمين إلى المدينة: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المهاجر أن يظل في مكة بعد النسك أكثر من ثلاثة أيام، فقال للصحابة: (لا يحل لرجل هاجر من مكة إلى المدينة أن يرجع فيستوطن مكة مرة أخرى)، له ثلاثة أيام بعد النسك فقط، وبعدها لا يحل له أن يبقى في مكة ؛ حتى لا يرجع في ما وهبه وفعله لله عز وجل، فهذه هي هجرة الصحابة رضي الله عنهم.

ولذلك يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما مرض في حجة الوداع: (مرضت مرضاً أشرفت فيه على الموت، فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته بكيت. قال: ما يبكيك؟ فقلت له: أخشى أن أموت بمكة)، أي: يموت في الأرض التي هاجر منها، يريد أن يكون عمله لله عز وجل؛ لأن أمامه نموذجاً محزناً وهو سعد بن خولة ، فقد مات رضي الله عنه بمكة، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى سعد بن أبي وقاص أنه مرض مرضاً شديداً خاف أن يموت بمكة .. ما خاف على أمواله، ولا خاف على بنته الوحيدة آنذاك، إنما خشي أن يموت بالأرض التي هاجر منها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعل الله أن يحييك فينتفع بك قوم ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة )، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة ، ووصفه بالبائس لأنه مات بمكة.

كل هذا حتى يبقى العمل لله عز وجل، فلا يلوث بالتراب؛ لأنه ليس من عقائدنا التمسك بالأرض، فهذه الأرض التي ولدت فيها إن عجزت أن تطيع الله فيها فيجب عليك الهجرة، لا تقل: بلدي التي ولدت فيها، فما هذا من قول المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما التفت إلى مكة وقال: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي)؛ لم يكن يمجد الأرض كما يمجدونها الآن، وكما يستغلون هذا الحديث استغلالاً خطأً، فيزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب مكة ويحب الأرض .. لا والله، إنما قال: (إنك لأحب أرض الله إلى الله)، فلذلك هي أحب الأرض إلينا وإن لم نكن من أهلها؛ لأنها أحب الديار إلى الله، فكذلك هي أحب الديار إلينا.

إنما حقر النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالأرض ليخف وقع البلاء عليه، فإذا فارقت بلدك وفارقت ملاعب صباك، وفارقت أموالك التي أنفقت فيها شطر عمرك، فيقول لك: لا تحزن، ليخف البلاء عليك إذا فارقت وطنك.

الهجرة بالبدن من أرض الكفر إلى أرض الإسلام واجبة، ومن الديار التي تقام فيها شعائر أهل البدع إلى الديار التي تقام فيها السنة واجبة، وكذلك تشرع الهجرة من البلد التي غلب على أهلها كسب الحرام.

وكل هذا بحسب طاقة الإنسان، فإن كل واجب إنما يكون بحسب الطاقة.

إن عجزت أن تخرج من بلدك، وعجزت أن تفارق بالبدن، ولم تستطع أن تحقق الهجرة، فما بقي إلا الهجر.

واعلم أن أصل الهجر بين المسلمين حرام، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأنس وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وجماعة من الصحابة يزيد عددهم عن عشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المسلمين أن يتهاجرا فوق ثلاثة أيام، فقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)، وهذا الهجر محرم بإجماع العلماء.

والهجر المحرم هو الهجر لأجل الدنيا، أن تهجر أخاك للدنيا المحضة، لا لسبب شرعي، فإن هذا لا يحل ولا يجوز.

وقد تهاجر اثنان فكتب أحدهما إلى الآخر:

يا سيدي عندك لي مظلمـة فاستفت فيها ابن أبي خيثمه

لحديث يرويه عن شيخـه قال روى الضحاك عن عكرمه

عن ابن عباس عن المصطفى نبينا المبعوث بالمرحمه

إن صدود الإلف عن إلفـه فوق ثلاث ربنا حرمه

فعاده ووصل رحمه.

وهكذا كان أهل العلم، ففي الدنيا لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث على الإطلاق.

إن التباغض الحادث بين المؤمنين لا يقطع أخوة الإيمان قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9-10]، هكذا ذكرت الأخوة بعد البغضاء والشحناء، فكذلك أخوك المسلم ينبغي أن تواليه وإن كان بينك وبينه مظلمة، ولا يحل لك أن توالي الكافر وإن أحسن إليك، فإذا أساء إليك أخوك فينبغي أن تواليه؛ لأن أخوة الإيمان لا تنقطع بالمشاحنات، ولذلك مع هذا التهاجر والاقتتال وصفهم الله عز وجل بالإيمان وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9]، فكل إنسان نواليه على قدر ما فيه من المحبة لله ورسوله، ونعاديه على قدر ما فيه من الذنب والمعصية والبدع، وأصل الهجر بين المسلمين حرام.

وينقطع الهجر بالسلام والكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (... يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، لكن إذا كان الهجر لسبب شرعي فهو جائز إلى آخر العمر، فيجوز لك أن تقطعه إلى آخر العمر، لكن هذا أيضاً له ضوابط.

الزجر بالهجر تابع للمصلحة والمفسدة

(الزجر بالهجر) قاعدة نص عليها العلماء، لكنها تدور مع المصلحة، والزجر: أن تزجر العاصي والمبتدع بهجره، هذا هو معنى قول العلماء: (الزجر بالهجر) مثلاً: رجل عاصٍ تؤدبه .. امرأة ناشز تؤدبها بالهجر .. مبتدع تؤدبه بالهجر، وكل هذا في إطار المصلحة الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) هجر ثلاثة من خيار المؤمنين خمسين ليلة، هجر كعب بن مالك ، وهلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع ؛ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، بل قال كعب : ( وكنت آتيه في مجلسه فألقي عليه السلام، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكلموا هؤلاء الثلاثة.

وأيهما أولى بالهجر: كعب بن مالك أم عبد الله بن أبي ابن سلول ؟ وهو رأس المنافقين، الذي تولى كبر حديث الإفك، ورمى السيدة العفيفة الطاهرة عائشة بالزنا، أيهما أولى أن يهجر، وأن يضيق عليه الخناق، وأن يؤدب؟ أليس هذا المنافق رأس المنافقين أولى بذلك؟!

ومع ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وعاش هذا الرجل، وقد صان دمه وعرضه وحياته بإظهار كلمة الإسلام، ومات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ بل وكفنه ببردة له، وليس ذلك بنافعه عند الله، كونه يتدثر ببردة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن صلة الرحم أقوى من البردة، ومع ذلك فإن أبا لهب لم ينفعه أنه كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صفية ! عمة رسول الله! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً، يا فاطمة ! بنت محمد! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً)، فإذا كانت صلة الأرحام لا تنفع؛ فالبردة لا تنفع من باب أولى، ومع ذلك صلى عليه، ودفنه، وسجاه ببردته.. وهذا يدلنا على أن مسألة الهجر خاضعة للمصلحة، فإن المسلم إذا هجرته إنما وكلته إلى دينه.

يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، فأعطاه عطاء، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً كذا وكذا، وإنه لمؤمن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني لأعطي الرجل العطاء، وأذر من هو أحب إلي منه، أدعهم لإيمانهم)، إذاً: أخوك المؤمن لو هجرته وغلظت عليه فإنك تعلم أنك ستعود إليه ويعصمه إيمانه من الفجور في الخصوم.

وفي معجم الطبراني الكبير بسند قوي عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: ( عرست في زمان أبي -أي: تزوج- فآذن أبي الناس، ودعاهم إلى وليمة العرس، وستروا البيت ببجاد أخضر -أي: شبيه بالستائر- قال: فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فلما رأى البجاد وقف، وتغير لونه، والتفت إلى أبي، وقال: أهكذا تسترون الجدر ببجاد أخضر؟! قال سالم : فاستحيا أبي وخفض رأسه -وابن عمر أحد السادة الورعين- وقال: يا أبا أيوب ! غلبنا النساء -ماذا نعمل؟ هذا عمل الحريم!- فقال أبو أيوب : لئن خفنا أن يغلب النساء أحداً فلا يغلبنك، والله لا أكلت لكم طعاماً أبداً، وخرج أبو أيوب ولم يحضر وليمة العرس ).

إنه يكل ذلك الهجر إلى عبد الله بن عمر وإلى إيمانه، فإن ابن عمر لا يفجر في الخصومة، بل سوف يذهب إليه ويترضاه لما بينهما من الإيمان والآصرة القوية، لكن إذا كان الرجل فاجراً، رقيق الدين، فإذا غلظت عليه فجر في الخصومة، وازداد بعداً من الالتزام، فليس هناك أي مصلحة في أن تفعل معه مثل ما فعل أبو أيوب مع ابن عمر ، فالمسألة مرتبطة بالمصلحة والمفسدة، ولذلك تحتاج إلى فقيه، كثر التهاجر والصرم بيننا بسبب الجهل الواقع بين المسلمين، لا يتهاجر عالمان أبداً إلا على شيء ديني شرعي.

الهجر لأجل التأديب

الزجر بالهجر له درجات منها: التأديب، فإذا تجاوز ولدك حده، أو امرأتك، أو من لك عليه ولاية؛ جاز لك أن تهجره أكثر من ثلاثة أيام تأديباً، ولمعنى شرعي كما قلنا، كما روى البخاري في صحيحه من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: ( باعت عائشة بيعاً .. أو قال: وهبت هبةً -وكانت عائشة كريمة، سخية اليد- فبلغ ذلك عبد الله بن الزبير وهو الأخ الأكبر لـعروة بن الزبير ، وهو ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة ، فـعائشة هي خالته، وقد كانت رضي الله عنها سخية، وعبد الله بن الزبير كان فيه بخل، فلما علم أن عائشة رضي الله عنها وهبت قطعة أرض كبيرة- فقال: لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فبلغ ذلك عائشة فقالت: أو قال ذلك؟ لله علي ألا أكلمه إلى أن أموت -نذرت:أي: نذراً واجب الوفاء-، فطال الهجر على عبد الله بن الزبير ، واستشفع بطوب الأرض أن تكلمه عائشة ، وكل ذلك وعائشة تأبى تمام الإباء -ولا يخفى ما لـعائشة رضي الله عنها من الفقه في دين الله عز وجل، فليست من النساء اللواتي يعتركن على الدنيا أو يهجرن للدنيا- فلما طال الهجر على عبد الله بن الزبير ذهب إلى المسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وكلاهما من بني زهرة، فشكا إليهما، فقالا: نحتال لك حيلة، فجاءوا بعباءة واسعة، والمسور بن مخرمة واقف هنا، وعبد الرحمن هنا، وقالا له: ادخل في وسطنا، وتدثروا ثلاثتهم بالعباءة، ووقفوا على الباب عند عائشة واستأذنوا، قالت: من؟ قال: المسور وعبد الرحمن . فقالت: ادخلا، قالا: ندخل كلنا؟ قالت: ادخلوا كلكم، فدخلوا جميعاً، فدخل عبد الله بن الزبير ورفع الستر، ورمى نفسه على عائشة يقبلها وهو يعتذر، وهي تشيح عنه، يكلمها فلا تكلمه، ويتوسل إليها فلا تقبل توسله، والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود يناشدانها الله عز وجل أن تكلمه، فما زالا بها حتى كلمته وسط دموعها الغزيرة، وهي تقول: إني نذرت والنذر شديد، ثم أعتقت عائشة رضي الله عنها في ذلك أربعين رقبة حتى تتحلل من نذرها ).

يقول العلماء: هذا المثال يدل على جواز أن يهجر المرء تأديباً، لا سيما إذا كان لمعنى شرعي؛ لأنه لا يجوز لـابن الزبير أن يتدخل في هبة عائشة لغيرها، فإنه إذا ملك الإنسان ملكاً فهو حر في هبته أو بيعه، ولا يحل لأحد أن يفتات عليه، فهذه مرتبة من مراتب الهجر لمعنى شرعي.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

العلم من شروط الهجر

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أيها الإخوة الكرام! الهجر نوع من الجهاد، وهو فرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشترط العلماء في الآمر والناهي أن يكون عالماً بالمسألة التي سينكرها أو سيأمر بالمعروف فيها، فمن التبس عليه ذلك توقف.

لقد رمانا أناس كثيرون في أول الالتزام بالخروج عن الإسلام؛ لأننا دللناهم على السنة الغائبة، وكانوا يزعمون أننا جئنا بدين جديد، فهل هم محقون؟ هل جئنا نحن بدين جديد أم أنهم أنكروا علينا بالجهل القديم؟ لقد أنكروا علينا بالجهل القديم، فهناك بعض المسائل الدقاق التي تخفى على طالب العلم فضلاً عن العوام.

إذاً: قبل أن ينكر -فضلاً عن أن يهجر- لابد أن يكون عالماً بما يأمر به أو ينهى عنه.

وهذا الهجر لا يختص بهجر الأبدان فقط؛ بل إنه يشمل كل ما يضاد الله ورسوله ودينه؛ كهجر المجلات الخليعة، والصحف الوقحة التي تناوئ الإسلام، مثل صحيفة الدستور، والمجلات الفاجرة التي تنادي جهرةً بتنحية شريعة الله عز وجل، ويقولون: ما تأخرنا إلا بسبب تحكيم الشريعة .. والعجب أنهم يصرحون بذلك ويرجعون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين! هذا هو العجب العجاب! إنني أقرأ كلام بعض هؤلاء فأحس بدبيب الأفاعي تحت السطور، وأرى حيات لجلدها حفيف ولأنيابها جرش من خلف السطور! إنما أرسلوا هذه الحيات والأفاعي من بنات أفكارهم ليغتالوا قلوبنا وأفكارنا، وليشككوا في انتمائنا للإسلام ..

كمثل كشيش أفعى أجمعت لعضـي فهي تحك بعضها ببعض

هذا هو كلامهم، لاسيما أن أكثر الذين يتعاطون هذه الصحف والمجلات ليسوا من الدعاة حتى يقول: أنا أقرأ لكي أرد .. إنما هم من العوام، وقد يقال: لو أن داعية ترخص واشترى مجلة من هذه المجلات؛ ليعلم حقيقة الحرب الدائرة على الإسلام، ويبصر الجماهير بما يحاك لها في الظلام، قد يقال: إن هذا جائز؛ كما أنه أجيز لأهل الإسلام أن يقرءوا التوراة والإنجيل ليردوا على أهل الكتاب، وأبيح للعلماء أن يقرءوا كتب أهل البدع ليردوا عليهم من كتبهم، وقد نبغ عندنا علماء أجلاء كانوا أفقه لدين النصرانية من لمباشنودا ، والذي يقرأ كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية ؛ يعرف قدر هذا الشيخ، وقدر فهمه للنصرانية.

يقول ابن كثير رحمه الله في أحداث سنة بضع وسبعمائة: إنه قابل أحد القساوسة، الذين هم البطاركة الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، قال: فجادلته في دينه، فرأيته يفهم من دينه شيئاً.. سبحان الله! يفهم من دينه شيئاً! إذاً ابن كثير كان أعلم منه بالنصرانية، فقد كان هؤلاء العلماء وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينقلون من الإنجيل ويحاججون هؤلاء بإنجيلهم.

فإذا جاز للمسلم أن يفعل ذلك لغرض المصلحة الراجحة، فلا يحل للعوام الذين لا ينتصبون للرد على هؤلاء أن يقرءوا مثل هذا، ولا يشتروا مثل هذه الصحف؛ لما يخشى عليهم من تزيين العبارات، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما رأى صحيفةً من التوراة في يد عمر قال: (ما هذا يا عمر ؟ قال: صحيفة من التوراة كتبها لي رجل يهودي. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلت وجهه حمرة، وكان إذا غضب كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال: أمتهوكون في يا ابن الخطاب ؟! -أي: أمتحيرون؟- والله لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما حل له إلا اتباعي)، لِمَ يخشى على مثل عمر أن تكون هناك عبارة منمقة مزينة تخترق قلبه.

وكما قال سفيان الثوري : القلوب ضعيفة والشبهة خطافة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعصم قلوبنا من الشيطان وشبه أولياء الشيطان، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، إنك نعم المولى ونعم النصر.

(الزجر بالهجر) قاعدة نص عليها العلماء، لكنها تدور مع المصلحة، والزجر: أن تزجر العاصي والمبتدع بهجره، هذا هو معنى قول العلماء: (الزجر بالهجر) مثلاً: رجل عاصٍ تؤدبه .. امرأة ناشز تؤدبها بالهجر .. مبتدع تؤدبه بالهجر، وكل هذا في إطار المصلحة الراجحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) هجر ثلاثة من خيار المؤمنين خمسين ليلة، هجر كعب بن مالك ، وهلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع ؛ لما تخلفوا عن غزوة تبوك، بل قال كعب : ( وكنت آتيه في مجلسه فألقي عليه السلام، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكلموا هؤلاء الثلاثة.

وأيهما أولى بالهجر: كعب بن مالك أم عبد الله بن أبي ابن سلول ؟ وهو رأس المنافقين، الذي تولى كبر حديث الإفك، ورمى السيدة العفيفة الطاهرة عائشة بالزنا، أيهما أولى أن يهجر، وأن يضيق عليه الخناق، وأن يؤدب؟ أليس هذا المنافق رأس المنافقين أولى بذلك؟!

ومع ذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ قال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، وعاش هذا الرجل، وقد صان دمه وعرضه وحياته بإظهار كلمة الإسلام، ومات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ بل وكفنه ببردة له، وليس ذلك بنافعه عند الله، كونه يتدثر ببردة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن صلة الرحم أقوى من البردة، ومع ذلك فإن أبا لهب لم ينفعه أنه كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صفية ! عمة رسول الله! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً، يا فاطمة ! بنت محمد! اعملي، فأني لا أملك لك من الله شيئاً)، فإذا كانت صلة الأرحام لا تنفع؛ فالبردة لا تنفع من باب أولى، ومع ذلك صلى عليه، ودفنه، وسجاه ببردته.. وهذا يدلنا على أن مسألة الهجر خاضعة للمصلحة، فإن المسلم إذا هجرته إنما وكلته إلى دينه.

يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل، فأعطاه عطاء، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً كذا وكذا، وإنه لمؤمن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني لأعطي الرجل العطاء، وأذر من هو أحب إلي منه، أدعهم لإيمانهم)، إذاً: أخوك المؤمن لو هجرته وغلظت عليه فإنك تعلم أنك ستعود إليه ويعصمه إيمانه من الفجور في الخصوم.

وفي معجم الطبراني الكبير بسند قوي عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: ( عرست في زمان أبي -أي: تزوج- فآذن أبي الناس، ودعاهم إلى وليمة العرس، وستروا البيت ببجاد أخضر -أي: شبيه بالستائر- قال: فجاء أبو أيوب الأنصاري ، فلما رأى البجاد وقف، وتغير لونه، والتفت إلى أبي، وقال: أهكذا تسترون الجدر ببجاد أخضر؟! قال سالم : فاستحيا أبي وخفض رأسه -وابن عمر أحد السادة الورعين- وقال: يا أبا أيوب ! غلبنا النساء -ماذا نعمل؟ هذا عمل الحريم!- فقال أبو أيوب : لئن خفنا أن يغلب النساء أحداً فلا يغلبنك، والله لا أكلت لكم طعاماً أبداً، وخرج أبو أيوب ولم يحضر وليمة العرس ).

إنه يكل ذلك الهجر إلى عبد الله بن عمر وإلى إيمانه، فإن ابن عمر لا يفجر في الخصومة، بل سوف يذهب إليه ويترضاه لما بينهما من الإيمان والآصرة القوية، لكن إذا كان الرجل فاجراً، رقيق الدين، فإذا غلظت عليه فجر في الخصومة، وازداد بعداً من الالتزام، فليس هناك أي مصلحة في أن تفعل معه مثل ما فعل أبو أيوب مع ابن عمر ، فالمسألة مرتبطة بالمصلحة والمفسدة، ولذلك تحتاج إلى فقيه، كثر التهاجر والصرم بيننا بسبب الجهل الواقع بين المسلمين، لا يتهاجر عالمان أبداً إلا على شيء ديني شرعي.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع