أيها العاصي أقبل


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

درسنا هذا المساء هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل فيمن كان قبلكم قتل تسعاً وتسعين نفساً، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض. فدلوه على راهب، فقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً.. ألي توبة؟ فقال له: لا، فقتله. ثم أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب عالم، فقال: إني قتلت مائة نفس.. ألي توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة، اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً صالحين يعبدون الله فاعبد الله معهم، فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمر بها، فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله تبارك وتعالى إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها.

ثم أمر الله تبارك وتعالى الأرض فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فقاسوا المسافة بين الأرضين، فوجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد؛ فغفر له فدخل الجنة).

الحديث من الإسرائيليات الصحيحة

هذا الحديث من الإسرائيليات الصحيحة التي حفظت لنا بالسند الصحيح، ويظن بعض الناس إذا أطلقت كلمة (الإسرائيليات) فإنها ترادف المكذوبات، والحقيقة أن الإسرائيليات على ثلاثة أقسام كما هو عند أهل العلم:

القسم الأول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتج به في ديننا.

القسم الثاني: ما صح عن بني إسرائيل أنفسهم، وهذا القسم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم بنوا إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) فهذا القسم نستأنس به في توضيح بعض النصوص الشرعية عندنا، ولكن لا يحتج به، وإنما يتخذ كعاضد فقط.

فمثلاً: القصة التي رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة: أن داود عليه السلام اصطفى رجلاً من أهل مملكته، فكان الناس يغبطونه على مكانته من داود عليه السلام، فلما مات داود عليه السلام قال سليمان: من أصطفي؟ فقال: لا أجد مثل جليس أبي فقربه؛ فزادت غبطة الناس عليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الناس عياناً، فدخل على سليمان عليه السلام فلحظ الرجل -(لحظه) أي: نظر إليه بطرف عينه- فارتعد -أي: الجليس- فلما خرج ملك الموت قال الجليس لسليمان : من هذا الذي لحظني؟ قال: إنه ملك الموت. قال: وأنا أكون في بلدٍ فيها ملك الموت! قال: ماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتقذف بي في أرض الهند.

ثم جاء ملك الموت عليه السلام فقال له سليمان : لماذا لحظت الرجل؟

قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته -أي: عندك- تعجبت! فلما ذهبت إليه في الموعد المعلوم وجدته هناك، فانتزعت روحه.

فيمكن أن تذكر هذه القصة عند قوله تبارك وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

القسم الثالث: ما لم يصح عن بني إسرائيل أنفسهم، فهذا القسم لا يحتج به.

فحديثنا من القسم الأول -القسم الصحيح- وهو: ما حفظ لنا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الحديث يقول: (إن رجلاً ممن كان قبلنا) وهذه القصة حدثت بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأن الرهبنة ما ظهرت إلا في أتباعه، كما قال تبارك وتعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27].

هل لقاتل المؤمن توبة؟

هذا الرجل قتل تسعاً وتسعين نفساً، ارتكب أعظم الجرائم بعد الشرك وهو: قتل النفس، ولعظم هذه الجريمة يكون (أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء) كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين، ولعظم هذه الجريمة تنازع فيها الفقهاء: هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟

والقاعدة المعروفة تقول: (إن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة) أي ذنب له توبة بدءاً من الشرك إلى أقل ذنب، ومع ثبوت هذا الأصل عند العلماء تنازعوا هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟

هذا يشعرك بعظم هذه الجريمة الكبيرة، فكان ابن عباس رضي الله عنهما وزيد بن ثابت وإحدى الروايات عن أبي هريرة يقولون: (ليس لقاتل المؤمن توبة) كما جاء في البخاري قال سعيد بن جبير : تنازع أهل الكوفة هل لقاتل المؤمن توبة أم لا؟ فرحلت إلى ابن عباس فقال لي: لا. ثم قال: إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان ولم ينسخها شيء.

ولكن صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أفتى بأن قاتل المؤمن له توبة، كما في الأدب المفرد للإمام البخاري بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: ( كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، ثم خطبت غيري فغرت عليها فقتلتها، ألي توبة؟

قال له: أمك حية؟

قال: لا.

قال: اذهب وتب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت. قال: فلما مضى الرجل قلت لـابن عباس: لماذا سألته عن حياة أمه؟

قال: ما أعلم شيئاً يقرب إلى الله مثل بر الوالدة ) .

فهذه الرواية صحيحة عن ابن عباس أنه يرى أن قاتل المؤمن له توبة، ويبدو لي أن ابن عباس رضي الله عنهما كانت فتواه تتغير على حسب الحالة، فقد صح بسند قوي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له: ( ألقاتل المؤمن توبة؟

قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه: أولم تفتنا أن قاتل المؤمن له توبة؟ قال: نعم، ولكني رأيت في عينيه الشر )، فهو يريد أن يعلم أن له توبة، فيقتل، ثم يتوب، فلاحظ ابن عباس هذا فيه، ولذلك كان من الأصول التي ذكرها أهل العلم في الكتب وصنفوها في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي: ( أنه يجوز للمفتي أن يفتي بالأشد إن كان له وجه في الدليل مراعاة لحال المستفتي ): وليس هذا من التلاعب كما يظن بعض الناس، لأنه لابد أن يكون للفتوى وجه في الدليل.

والمفتي العاقل هو الذي ينزل الفتوى على حال المستفتي، مثال هذا في العصر الحاضر: ما أفتى به فضيلة الشيخ محمد صالح العثيمين فيما يتعلق بالنقاب، فتوى الشيخ خرجت مجملة هكذا: ( إن النقاب لا يجوز ) النقاب: هو البرقع، وابن عثيمين يرى السدل من شعر الرأس إلى أخمص القدم، يقول: ( وقد كان هذا البرقع موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكني اليوم لا أرى جوازه ) فبعض الناس طار بها وقال: إن الشيخ يحرم النقاب.

الحقيقة: أن الفتوى إنما تنزل على ما يفعله بعض النساء في المملكة، كانت تنزل من البرقع قليلاً وترفع الرأس قليلاً وإذا بنصف وجهها يظهر.

فالمفتي إذا كانت الفتوى عنده مقيدة بشروط فعلم أنه إذا أطلق الجواز بالشروط أخذ الناس الفتوى بغير شروط جاز له أن يغلق الباب، وتكلم العلماء في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي على هذا بكلام طويل جداً ونفيس، لعلنا نتعرض له بشيء يسير عند مناسبته في هذا الحديث إن شاء الله تعالى.

فالحاصل: أن أهل العلم لما اختلفوا في مسألة توبة القاتل فهذا يدل على عظمها، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93] فجمع عليه خمس عقوبات.

والصحيح عند أهل العلم أنه لا يوجد ناسخ ومنسوخ بين آية النساء وبين آية الفرقان: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * a= 6002924>إِلَّا مَنْ تَابَ[الفرقان:68-70] فقال العلماء: يحمل المطلق على المقيد هنا.

إذاً الجمع بين الآيتين: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:70] إذاً تفهم الآيتان بهذا، وهذا هو الذي اختاره جماعة من أهل العلم منهم القرطبي وغيره.

فهذا الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً أذن الله تبارك وتعالى له بتوبة، كيف لا وذنبك مهما عظم شيء ورحمة الله وسعت كل شيء؟! ولذلك لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون حقاً، وجاء في الحديث الصحيح: (خلق الله الرحمة مائة جزء، فأنزل على الأرض جزءاً واحداً يتراحم منه الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بجزء واحد من الرحمة، فإذا يئس العبد من مائة جزء من الرحمة لا يكون مؤمناً أبداً.

فاسألوا أهل الذكر

فأذن الله تبارك وتعالى له بتوبة فقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض).

قالوا قديماً: حسن السؤال نصف العلم؛ لأن العلم عبارة عن سؤال وجواب، فإذا ما أحسن الإنسان السؤال خرج الجواب حسناً على مقتضى السؤال، لأن الجواب كالصدى بالنسبة للصوت.

فهذا الرجل قال: (دلوني على أعلم أهل الأرض) الإنسان إذا مرض لا يرضى بممرض عام أو طبيب لا زال متعلماً، يقول: أنا أريد رئيس القسم، لماذا رئيس القسم؟

يقول: لأنه أصبح ضليعاً، ولديه خبرة، فسبحان الله! الإنسان يعامل دينه معاملة بدنه، فعندما يريد أن يستفتي في مسائل الدين لا يرضى بأي إنسان يقابله، حتى وإن تزيا بزي أهل العلم، إنما يسأل عن أعلم الناس، وهذا هو الواجب على العامي أن يسأل عن أعلم الناس، يقول: أريد أعلم الناس، حتى لو دلوه على رجل لم يكن كذلك فقد فعل ما أمر به، كما قال تبارك وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] (أهل الذكر): هم العلماء الراسخون.

العابد الجاهل ضحية لجهله

(فدلوه على راهب، فقال: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً.. ألي توبة؟ قال له: لا؛ فقتله).

هذا الراهب صار ضحية لسانه لجهله، فإنه أخطأ مرتين:

الخطأ الأول: أنه أفتى فيما ليس من حقه أن يفتي، (ألي توبة؟ قال: لا)، وما يدريك؟ التوبة هذه ما لأحد أبداً حق في أن يقحم نفسه فيها ولا أن يقول: تيب على فلان أو لم يتب، هذا ليس من اختصاص أحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول -كما في حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه في البخاري وغيره-: (قال رجل لأخيه: والله لا يغفر الله لك. فقال تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ، قد غفرت له وأحبطت عملك) وما أدراه أيغفر له أم لا؟ أتخذ عند الله عهداً؟ وفي رواية الطبراني لهذا الحديث قال الله تبارك وتعالى لذلك النبي: (مره فليستأنف العمل) كل عمله الماضي أحبط فليبدأ من جديد؛ بسبب كلمة قالها.

وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان متواخيان في بني إسرائيل أحدهما مجد والآخر مقصر، فلا يزال المجد يقرع المقصر ويقول: تب إلى الله فإنه لا يحل لك ذلك، فقابله يوماً فوعظه فأكثر عليه، فقال له المقصر: خلني وربي، أبعثك الله عليَّ رقيباً أم جعلك عليَّ حسيباً؟ فقال له: والله لا يغفر الله لك! فقبضهما الله تبارك وتعالى ثم قال للمجد: أكنت على ما في يدي قادراً أم كنت بي عالماً؟ خذوه إلى النار، ثم قال للمقصر: خذوه إلى الجنة برحمتي) .

هذا الباب لا يمكن أن يفتي فيه عالم، إنما الجاهل هو الذي يتجرأ، كيف لا والإنسان نفسه لا يدري أيقبل عمله أم لا؟! فإن كان عاجزاً عن معرفة مصيره فلأن يكون أعجز عن معرفة مصير غيره أولى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة رضي الله عنها لما تلت قوله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل وهم خائفون مغبة الحساب أمام الله تبارك وتعالى، قالت: (يا رسول الله! أهذا الذي يزني ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق هؤلاء أقوام جاءوا بصلاة وصدقة وصيام، ثم يخشون ألا يتقبل منهم) يخشى ألا يتقبل منه رغم أنه يقف بين يدي الله تبارك وتعالى يفعل الصالحات ولا يفعل المنكرات، ولكنه لا يدري أيقبل الله تبارك وتعالى منه عمله بفضله أم يرده عليه بعدله.

فهذا الباب مغلق ولا يكون إلا لنبي الله تبارك وتعالى يطلعه على الغيب فيما يتعلق بفلان أو مصير فلان، أما بقية البشر فلا يجوز لأحد قط أن يلج هذا الباب؛ لذلك عرفنا أن الراهب هذا جاهل بسبب فتواه، فإن أهل الورع يستعظمون الإكثار من المباحات فكيف إذا جهر بالمحرمات؟! ولذلك الشيطان يسهل عليه أن يدخل على أهل الورع الذين ليس عندهم علم ويلبس عليهم بخلاف العلماء.

أهل الورع هم الذين يكرهون الإكثار من المباحات فمثلاً: قرأت لبعضهم -وينسبونه لبعض الزهاد المتبوعين، ولا أدري بصحة ذلك-: أن رجلاً جاء إلى هذا العابد فقال: إن شاتي سرقت. فذهب هذا العابد إلى قصاص، وقال له: كم تعيش الشاة؟ قال مثلاً: خمس سنوات، فحرم على نفسه أكل لحوم الشياه لمدة خمس سنوات.. لماذا؟ خشية أن يأكل من الشاة المسروقة.

فالإنسان إذا عمل بهذا في خاصة نفسه -لا بأس به، والورع هذا ليس له حد، تنقطع فيه أعناق الإبل كما يقال، ولكن لا يأتي الإنسان فيفرضه على أخيه، ولا يفتي به، فهناك فرق بين أن يتبنى الإنسان الشيء في نفسه وبين أن يفتي الناس به.

فمن جهة الفتوى لا يحل لأحد أن يقول: لا تأكل، لكنه قد يعمل به في خاصة نفسه، فتصور رجلاً قد يصل به الورع إلى هذه الدرجة وجاءه رجل فقال: إني قتلت مائة نفس، فالحمد لله أن روحه لم تخرج من بشاعة الذنب! لذلك أول ما قال: قتلت مائة نفس.. ألي توبة؟ قال له: لا. بادر وأغلق باب التوبة في وجهه.

الخطأ الثاني الذي أخطأ فيه هذا الراهب: أنه ما كان عنده فقه النفس الذي هو: مراعاة مقتضى حال المخاطب، أو حالة الفتوى على حال المستفتي، أو وضع الأمور في مواضعها.. هذا هو معنى فقه النفس، والعلماء يشترطون في المفتي أن يكون فقيه النفس.

فهذا العابد لم يكن عنده من فقه النفس شيء، بدليل أنه لم يراع حال المستفتي، فهو أمام رجل قتل تسعاً وتسعين نفساً فما هو المانع أن يضيف على التسعة والتسعين واحداً آخر؟ إذا علم أنه إن أغلق في وجهه باب الأمل، فكان المفروض أن يداريه ولا يجيب، يقول: دعني أراجع .. اسأل فلاناً .. مر عليَّ بعد يوم أو بعد يومين.. إلخ، والمداراة هذه مسألة مطلوبة لاسيما إذا واجه الإنسان فتوى معينة ليس عنده عنها جواب أو هي مما عمت بها البلوى ولم يكن عنده فيها جواب حاسم، فله أن يخرج منها بطريقة ما.

فهذا الرجل لم يكن عنده من فقه النفس شيء، فدلنا ذلك على أنه لم يكن عالماً حقاً، ولذلك راح ضحية جهله.

جواز تكرار العامي السؤال على أكثر من عالم إذا حاك في صدره شيء

( ثم أذن الله تبارك وتعالى لهذا الرجل العاصي بتوبة فقال: دلوني على أعلم أهل الأرض).

وفي هذا دليل على استحباب أن يسأل العامي عالماً آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول؛ لأن العلماء الذين صنفوا في أدب الفتوى والمفتي والمستفتي يقولون: ( لا يجوز للعامي أن يعدد السؤال على أكثر من عالم ) وهذا -في الحقيقة- آفة موجودة عند بعض الناس، كلما أتى إلى عالم يسأله سؤالاً معيناً، ثم يقارن بين أجوبة العلماء أو طلاب العلم.. أولاً: ما هو المقصود بالسؤال؟ أليس هو رفع الإشكال؟ إنما شرع السؤال لرفع الإشكال.

فإذا كان هذا الإنسان من العوام لا يستطيع أن يرجح الحق بدليله، فسأل رجلاً سؤالاً فقال له: حرام، ثم سأل آخر نفس السؤال فقال له: حلال، فماذا يفعل وليس عنده الآلة التي يميز بها بين القولين؟ أيهما أحق أن يتبع المحرم أم المحلل؟

إما أنه سيسيء الظن بهؤلاء العلماء ويقول: لو كانوا علماء حقاً لاتفقت فتواهم، وإما أنه سيخرج من الأقوال كلها ويكون هو شيخ نفسه ويتبع هواه.

إذاً: ليس هناك ثمرة على الإطلاق أن يعدد السؤال على أكثر من عالم، لاسيما إذا لم يكن له حاجة إلى مثل ذلك.

إنما العلماء استحبوا للعامي أن يكرر السؤال على عالم آخر إذا حاك في صدره شيء من فتوى الأول، فهذا الرجل لما قال له: ( ألي توبة؟ قال له: لا) لجأ إلى عالم آخر يسأله عن هذه المسألة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فدل على راهب عالم) .

تجريد الأول من وصف العلم دلنا على أنه جاهل (راهب)أي: متعبد، ومن أعظم أبواب الخلل اختلاط الأزياء والسمت، دخول من لهم سمت العالم ووصف العلماء مصيبة عظيمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يميز بين العالم والمتشبه به، فإذا قيل: أين العالم الفلاني الذي في البلد؟ يشار إلى فلان، مع أنه ليس من أهل العلم، إنما تدين بزي أهل العلم فظنه الناس كذلك.

أذكر قصة ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي : أن رجلاً كان يتزيا بزي العلماء ركب سفينة مع أناس، فهبت عليهم ريح عاصف، فجاءوا إليه فقالوا له: ماذا نفعل؟ قال: كل إنسان ينذر نذراً إن نجاه الله تبارك وتعالى من هذا ليوفين بنذره، فكل شخص نذر إن نجاه الله -مع أن هذا النذر المشروط متكلم فيه- ليوفين بنذره، فلما أنجاهم الله تبارك وتعالى كل منهم وفى بنذره، فلما جاء الدور على هذا الذي استفتوه، قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس عندي شيء أنذره، ولكن امرأتي طالق: من وجهك ثلاثاً!!

هذا عجيب جداً! لذلك إذا كان هذا الرجل يرتدي جبة أو شيئاً من هذه الملابس وليس كهؤلاء -كما يقول الشوكاني - يعد في جملة المتعاقلين. أي: ليس بعاقل ولكنه متعاقل، فإذا قيل: عدوا لنا العقلاء دخل هذا معهم؛ لأن له سمت العقلاء فقط، ولكنه ليس كذلك.

جواب الحكيم وحاجة العالم إليه

فلما لطف الله تبارك وتعالى بهذا الرجل، قال: ( دلوني على أعلم أهل الأرض ) فدل هذه المرة على راهب عالم، فقال له: (ألي توبة؟ قال له: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا).

وهذه الإجابة يسميها العلماء بجواب الحكيم، جواب الحكيم: هو الزيادة في الجواب على سؤال السائل؛ لأن حاجة السائل لا تتم غالباً إلا بها. ولذلك يسمونه جواب الحكيم.. لماذا؟ لأن المفتي فقيه النفس، فلما سأله إنسان هذا السؤال راعى أنه قد يستشكل شيئاً ما، فزاده جواباً ليعالج هذا الاستشكال، لاحتمال أن يقابله بعد ذلك.

ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الحكماء ضرب المثل الأعظم في هذا الجانب، ومنه أخذوا هذا التعريف، ففي السنن بسند قوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجال من بني عبد الدار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، وإنما سألوا عن طهورية ماء البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه) وكان يكفي هذا القدر بالنسبة للجواب عن سؤالهم، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) فلم أعطاهم هذه الزيادة؟ الذي يستشكل طهورية ماء البحر لأن يستشكل ميتته أولى، لاسيما إذا لم يكن عنده دليل بحل ميتة البحر، فهو حينئذٍ يأخذ بعموم الآية المحرمة للميتة في القرآن: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] (الميتة) أي: كل أنواع الميتة.

وكيف لا يستشكل أمر الميتة على أمثال هؤلاء وقد استشكل على من هو أعظم منهم أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، كما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما في غزوة سيف البحر، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة في غزوة من الغزوات، وأعطانا جراب تمر، فكان يعطينا حفنة حفنة، ثم يعطينا تمرتين تمرتين، ثم يعطينا تمرة تمرة، فكنا نمصها ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر كنا نضرب ورق الشجر بقسينا فنأكله، حتى رفع لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها: العنبر) حوت كبير جداً، يقول جابر بن عبد الله : (نزلنا ثلاثة عشر رجلاً في وقب عينه) وكانوا يأخذون الدهن بالقلال من عينه، قال: (وجاء أبو عبيدة فنصب عظماً من عظامه، فأتى بأعلى بعير وركبه أطول رجل فمر من تحته) يعني: دابة عظيمة جداً.

حسناً: ما كان موقف أبي عبيدة وهو الأمير؟ أول ما رآه قال: ميتة لا تأكلوه. ليس عنده الحديث الذي يدل على حل ميتة البحر، وعنده النص القرآني فأعمله، وقد استدل العلماء بهذا فقالوا: إن الإنسان إذا وجد دليلاً عاماً لا يجوز له أن يتوقف في العمل به بحثاً عن الخاص) لا يقول: لعله مخصوص، أو يقول: لعله منسوخ، أو يقول: لعله مقيد؛ فيتوقف عن العمل به، بل يجب عليه أن يعمل بالعموم حتى يجد الخاص؛ ولا يتوقف عن العمل بالعموم بحثاً عن الخاص لأنه قد لا يوجد مخصص لمثل هذا العام.

فـأبو عبيدة بن الجراح ما توقف، وإنما عمل بالعام الذي عنده، وكما قال ابن عباس في صحيح مسلم: (أفلح من انتهى إلى ما سمعه). قال أبو عبيدة : ( ميتة لا تأكلوه، ثم رجع إلى نفسه فقال: جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا ) فخرج هذا التأويل على الآية أيضاً: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3].

فإذا كان مثل أبي عبيدة بن الجراح يستشكل هذا فلأن يستشكله بعض الأعراب الذين لم يخالطوا النبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى، إنما كان الواحد منهم يأتي لماماً إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام يسأله ثم ينصرف.

أضف إلى ذلك أنهم في قولهم: ( إنا نركب البحر ) فهذا يدل على ديمومة ركوب البحر بالنسبة لهم، فقد ينفد زادهم، فإما أن يأكلوا من ميتة البحر وإما أن يموتوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام راعى هذا بالنسبة لهم لما رأى استشكالهم للشيء اليسير علم أن استشكالهم للأعظم أولى فدلهم على ذلك.

إذاً: تتمة الجواب والنصح لا تكون إلا بذكر مثل هذه الزيادة.

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما جاءته المرأة بصبي صغير فقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال لها: نعم، ولك أجر) مع أنها ما سألت عن الأجر، وكان الجواب يتم (بنعم) إنما قال لها: (ولك أجر) تحفيزاً؛ لأن البشر دائماً لا يعملون إلا لهدف ومقصد، ولو أن محض العمل بدون أجر ما وجدت أحداً يتكلف، ولذلك جعل الله الجنة والنار جزاءً، وهذا مع أنه يدرك بشيء من التأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).

الإنسان إذا غرس الفسيلة -وهي النخلة- إنما يغرسها لما يؤمل من أنه سيأكل من ثمرها أو أولاده أو أي إنسان آخر، فإذا علم أنه لن يأكل منها إنسان ضعفت همته وراح وازعه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -لا يقول: لمن أغرسها؟ ومن الذي سيأكل منها وقد قامت الساعة؟ لا- فليغرسها) يعني: خالف نظرتك: أنك لا تفعل الشيء إلا لهدف.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لما قال:(ولك أجر) فهو يحفز أي شخص معه صبي أن يأخذه بغية الأجر.

ومثل قوله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل منا يحب أن يكون نعله حسناً وثوبه حسناً.. قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فانظر.. زيادة الجواب عرفتنا بصفة من صفات الله تبارك وتعالى، ثم عرفتنا بتعريف الكبر.

فجواب الحكيم هو: أن يزيد المفتي السائل شيئاً في الجواب لا تتم حاجة السائل من الجواب غالباً إلا به، فعندما تقرأ في الكتب التي صنفت في الآداب -آداب الفتوى والمفتي والمستفتي- تراهم يقولون: (لا يجوز للمفتي أن يزيد عن حاجة السائل في الجواب)، فبعض الناس قد يستشكل مثل هذه القاعدة مع ما ذكرناه من الأحاديث. نقول: لا إشكال؛ لأنهم قالوا: ( لا يزيد عن حاجة السائل في الجواب )؛ لأن الزيادة عن حاجة السائل قد تشوش عليه أصل الجواب، كأن يقول لك إنسان: ما حكم القراءة خلف الإمام؟ فتقوم تسرد له مذاهب العلماء وأدلتهم وتناقشها، فتشوش على الرجل من جهة الفتوى، ولا يعرف ما الذي يخرج به، هذا هو المنهي عنه.

لذا قلنا قبل ذلك: إن مشروعية السؤال إنما هي لرفع الإشكال، وليس أن يدخل السائل في هذه الدوامات.

إذاً كلام العلماء في منع الزيادة في الجواب أي عن حاجة السائل، أما إذا كانت حاجة السائل لا تتم إلا بالزيادة على الجواب فمن فقه النفس -أي: للمفتي- أن يزيده ذلك.

من الأمور المعينة على التوبة هجر أرض السوء وأهلها

هذا الراهب العالم زاد هذا الرجل زيادة لابد منها حتى تتم توبته (قال: نعم) وبهذا تم الجواب، ثم قال له: (ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا) إذاً لابد لهذا القاتل من الخروج من أرض السوء وإلا سيعود إلى الإجرام مرة أخرى؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وإذا علم أن رجلاً يقتل مائة نفس في أرض لا يوجد فيها من يأخذ على يديه ويقول له: اتق الله! دل على أنه لا خير في هذه الأرض أبداً، بل لما تجبر هذا الرجل قطعاً وجد جماعة ممن يخافون منه يزينون له معصية القتل، وربما أنه يخشى منهم، فلابد أن يسيغ لنفسه القتل حتى يأمن من شرهم، وربما إذا رجع وتاب عيروه بالجبن والخور والخوف، فيمكن أن يعود مع وجود هذه البطانة السيئة، فلابد أن يخرج من هذه الأرض، حتى وإن حن إليها، لاسيما الأرض التي شهدت ملاعب صباه وعاش فيها، فإنه يحن دائماً.

ولذلك كان جواب العلماء عن دواء العشق -وهو الرجل الذي ابتلي بعشق المرأة- فقالوا: ( أن يفارق الأرض التي بها المرأة ) لماذا؟ لأنه كلما رأى شيئاً ذكره بها، وما أبيات مجنون ليلى عنا ببعيد الذي قال:

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار

وهو ماش كان يقبل جدران المدينة كلها.. لماذا؟ لأن ليلى كانت ساكنة في هذه القرية، فمثل هذا يجب أن يخرج.

وأذكر قصة وقعت: أن رجلاً تزوج على امرأته امرأة أخرى وأدخلها بيتاً بجانب بيت المرأة الأولى، وكان لكل امرأة منهن جارية، فخرجت جارية المرأة الجديدة في الصباح فوجدت جارية المرأة الأولى جالسة على الباب فقالت لها:

وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت

فأجابتها جارية المرأة الأولى إجابة مفحمة جداً وممتازة، قالت لها:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

وهذا حق، الإنسان يذهب إلى جميع بلاد العالم ويعيش في كل بلد عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين، ولا يشعر بحنينٍ إلا إلى المكان الأول الذي شهد ملاعب صباه، وقضى فيه أفضل فترات عمره الأولى، فالإنسان كثير الحنين إلى الأماكن التي قضى فيها معظم عمره.

فهذا الرجل إن ظل في هذه الأرض فقد يجره هؤلاء القوم إلى الإجرام مرة أخرى؛ فكان من الأفضل له أن يفارق هذه الأرض، ولذلك قال له ذلك الراهب العالم: (اخرج من أرضك أرض السوء) ، إذ ليس فيها رجل يأخذ على يده؛ فهي أرض سوء حقاً ( اخرج من أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً صالحين فاعبد الله معهم ) وهذه هي بركة معاشرة الصالحين ومخالطتهم أن الإنسان لا يستطيع أن يتظاهر بالمنكر بينهم أبداً حتى ولو كان سيئاً لماذا؟ لحرمة الدين وكثرة الصالحين،

وفي بعض طرق الحديث: أن القرية التي كان فيها هذا الرجل القاتل اسمها: ( كفرة )، والقرية التي أمره العالم أن يخرج إليها كان اسمها ( نصرة )، والحقيقة أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة قوية جداً، وما من رجل يراعي مثل هذه المسألة إلا ويجد تناسقاً عجيباً بين الاسم والمسمى، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يدل أمته على اختيار أفضل الأسماء؛ لوجود علاقة بين الاسم والمسمى، لذلك يقول: (لا تسمين غلامك رباحاً ولا نجاحاً ولا يساراً ولا فلاحاً - لماذا؟- قال: حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قالوا: لا) فيحصل نوع من النفرة في القلوب يأتي يسأل: يسار هنا؟ فيجيب: لا يوجد يسار، وكأنه نفى اليسار عن البيت، وكذلك الفلاح والنجاح، ويجري هذا المجرى تسمية (إسلام) فيقال: إسلام هنا؟ فيجيب لا يوجد إسلام، فهذه أيضاً تقرع القلب

لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر وبينما هو يمشي مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه قابل بريدة بن الحصيب فقال له: (ما اسمك؟ قال: بريدة ؟ فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح) فهناك تناسق بين الاسم والمسمى، فانظر هذه: ( كفرة ) فعلاً ظلمة كلها، رجل يقتل فيها مائة نفس ولا يجد من يأخذ على يديه، والثانية اسمها ( نصرة ) فالأرض قد توصف بأنها سيئة ثم توصف بأنها طيبة، كما حدث في مكة كانت دار كفر ثم آمن أهلها فصارت دار إسلام.

ولذلك وصفها فقال: (أرض سوء) على اعتبار أنه لا يوجد فيها رجل واحد صالح، فهذه الأرض إن تبدلت وصار كل الذين فيها من أهل الصلاح إذاً الاسم يتبدل، الأرض لا تقدس نفسها إنما يقدس الأرض أهلها الصالحون.

وجوب التوبة الفورية وعدم التسويف

قال: (فناء الرجل بصدره إلى الأرض التي أمُره أن يخرج إليها) فيه دلالة على أن الرجل بادر مباشرة إلى الخروج، وهذا يدل على وجوب التوبة الفورية، لا يحل لمسلم أن يسوف في التوبة، إن العبد يجب أن يتوب من الذنب على الفور لا على التراخي.

ونحن نعلم أن من أخطر ما يصيب المسلم فيما يتعلق بهذا الباب تسويف التوبة يقول: سوف.. سوف .. لعله لا يدرك أمنيته، وذلك من أعظم الأبواب التي يدخل الشيطان إلى بني آدم منها -مسألة الأماني- كما قال إبليس عليه لعنة الله: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119] وذكر ابن الجوزي في كتاب: أخبار الحمقى والمغفلين، قال: هبت ريح عاصف على قوم؛ فجأروا إلى الله، فقال رجل: يا قوم! لا تعجلوا بالتوبة إنما هي زوبعة وتسكن.. فهذا رجل فعلاً يمنيهم كما وصفه ابن الجوزي .

فيجب على الإنسان أن يتوب فوراً، ولا يطيل الأمل، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رسم على الأرض مربعاً، ثم رسم خطاً طويلاً وسط المربع حتى خرج منه ثم قال: (هذا أجل ابن آدم -الذي هو المربع- محيط به وأشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله) أمله يتجاوز أجله كثيراً جداً، وهو الرجل الذي يقول لك: إن شاء الله بعد عشر سنين أحقق أرباح كذا .. وهو سيموت الليلة، فقضي أمره وهو مازال يخطط لأعوام طويلة، ولذلك يجب على الإنسان أن يبيت وهو تائب من المعاصي، ولا يجوز له أن يبيت وهو مسوف.

فهذا الرجل كان من الأشياء الحسنة التي بادر إليها أنه ناء بصدره مجرد ما سمع الفتوى: (فناء بصدره إلى الأرض التي أمر بها).

هذا الرجل ما فعل شيئاً من الصالحات بعد!

نقول: ( إن مجرد عقد القلب عمل ) انعقد القلب على التوبة، ثم بادرت الجوارح بتنفيذ هذا العقد، فلذلك تاب الله تبارك وتعالى على هذا الرجل لانعقاد قلبه وفعل جوارحه.

وليس من اللازم أنه يدرك ويفعل الصالحات، فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه قال: ( إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة)، وهذا الرجل تركوه كافراً في المدينة، ثم أدركته عناية الله تبارك وتعالى فأسلم، فمضى على أثر الجيش، فذهب فقاتل حتى قتل، فهذا الرجل ما تسنى له أن يرجع حتى يصلي أو يزكي أو يفعل شيئاً من الخيرات، قال: ( إني لأعلم رجلاً دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة )!!.

فهذا الرجل بادر وناء بصدره إلى الأرض التي أمره العالم أن يخرج إليها.

رحمة الله وسعت كل شيء

(فما إن خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: خرج إلى ربه تائباً، وملائكة العذاب يقولون: قتل مائة نفس، فأرسل الله إليهم حكماً: أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها) ولما كان الرجل أقرب يقيناً إلى أرض العذاب: (أمر الله الأرض -أن تطوى من تحته- (فأوحى لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي. فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد، فغفر له فدخل الجنة).

إذاً: أي إنسان عاص مهما بلغت ذنوبه، إذا علم أن رحمة الله تبارك وتعالى شملت مثل هذا العاصي فهو أقرب منه، لا تستعظم ذنبك أبداً، واعلم أن من صفات الله تبارك وتعالى (الغفور الودود) وتأمل في هذه الصفة (ودود) أي: كثير الود، مع أنه غني عن العبد؛ ولكنه يتودد إليه ويفرح بتوبته، كما قال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين والسياق لمسلم-: (لله أفرح بتوبة عبده العاصي من أحدكم بأرض فلاة معه راحلته وعليها طعامه وشرابه) يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام المثل بفرحة الله تبارك وتعالى إذا تاب العبد ورجع إلى ربه كيف تكون فرحة الله بتوبة العبد، مع غنائه التام عن العبيد جميعاً فقال: مثل فرحة الله تبارك وتعالى بالعبد العاصي كمثل رجل معه راحلته، وعليها طعامه وشرابه (فوجد شجرة فاستظل بها فنام، فلما استيقظ لم يجد راحلته، ولم يجد طعامه وشرابه -ومعروف أن الإنسان إذا تاه في الصحراء مات إذا لم يكن عالماً بدروبها- بحث عن راحلته فلما يئس منها وعلم أنه هالك قال: أرجع إلى مكاني وأموت فيه، فلما رجع إلى مكانه إذا به يجد راحلته وعليها طعامه وشرابه، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك! قال عليه الصلاة والسلام: أخطأ من شدة الفرح)

فانظر هذا الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح لما وجد راحلته -فلله المثل الأعلى- فالله تبارك وتعالى يفرح بعودة العاصي إليه كفرح هذا الرجل براحلته لما وجدها.

فكيف وربك تبارك وتعالى يتودد إليك بمثل هذه النعم، وبمثل هذه الرحمة وهو غني! أفلا تبادر وأنت أحوج إليه؟!

كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: (يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).

فإ

هذا الحديث من الإسرائيليات الصحيحة التي حفظت لنا بالسند الصحيح، ويظن بعض الناس إذا أطلقت كلمة (الإسرائيليات) فإنها ترادف المكذوبات، والحقيقة أن الإسرائيليات على ثلاثة أقسام كما هو عند أهل العلم:

القسم الأول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتج به في ديننا.

القسم الثاني: ما صح عن بني إسرائيل أنفسهم، وهذا القسم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثكم بنوا إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) فهذا القسم نستأنس به في توضيح بعض النصوص الشرعية عندنا، ولكن لا يحتج به، وإنما يتخذ كعاضد فقط.

فمثلاً: القصة التي رواها أبو الشيخ في كتاب العظمة: أن داود عليه السلام اصطفى رجلاً من أهل مملكته، فكان الناس يغبطونه على مكانته من داود عليه السلام، فلما مات داود عليه السلام قال سليمان: من أصطفي؟ فقال: لا أجد مثل جليس أبي فقربه؛ فزادت غبطة الناس عليه، وكان ملك الموت عليه السلام يجالس الناس عياناً، فدخل على سليمان عليه السلام فلحظ الرجل -(لحظه) أي: نظر إليه بطرف عينه- فارتعد -أي: الجليس- فلما خرج ملك الموت قال الجليس لسليمان : من هذا الذي لحظني؟ قال: إنه ملك الموت. قال: وأنا أكون في بلدٍ فيها ملك الموت! قال: ماذا تريد؟ قال: مر الريح فلتقذف بي في أرض الهند.

ثم جاء ملك الموت عليه السلام فقال له سليمان : لماذا لحظت الرجل؟

قال: إن الله أمرني أن أقبض روحه في أرض الهند، فلما وجدته -أي: عندك- تعجبت! فلما ذهبت إليه في الموعد المعلوم وجدته هناك، فانتزعت روحه.

فيمكن أن تذكر هذه القصة عند قوله تبارك وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

القسم الثالث: ما لم يصح عن بني إسرائيل أنفسهم، فهذا القسم لا يحتج به.

فحديثنا من القسم الأول -القسم الصحيح- وهو: ما حفظ لنا بالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الحديث يقول: (إن رجلاً ممن كان قبلنا) وهذه القصة حدثت بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأن الرهبنة ما ظهرت إلا في أتباعه، كما قال تبارك وتعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27].