نداء الغرباء


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه، عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وبلال وجابر ، وجماعة من الصحابة تجاوزت عدتهم خمسة عشر صحابياً، فهو من الأحاديث المتواترة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى أن غربة المسلم تتجدد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل وانقطاع، وقد عمت الأرض الوثنية والشرك، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد قال بعضهم لبعض: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] .

أقوام تعودوا على تعدد الآلهة، وعلى تعدد الأنداد لرب العالمين، فلما جاء يدعوهم إلى إله واحد، وهو أرفق وأوفق قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] وكالوا له ولأصحابه العذاب والتهم التي هم براء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمفرده مع بعض المؤمنين به، قال عمرو بن عبسة رضي الله عنه: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: من أرسلك؟ قال: الله أرسلني. قلت: أرسلك بماذا؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان. قال: ومن معك؟ قال: حر وعبد) إشارة إلى أبي بكر وبلال ، والنبي صلى الله عليه وسلم الثالث، وعمرو بن عبسة هو الرابع، لذلك قال: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام).

وقال سعد بن أبي وقاص كما في البخاري : ( لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام ) وفي البخاري عن عمار بن ياسر قال: ( لقد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وامرأة وخمسة أعبد وأبي بكر ) .

كان الإسلام يعاني من قلة الأتباع؛ لأن المجتمع الجاهلي الذي تسود فيه الوثنية لا يأذن لمثل هذه الدعوة أن تنتشر؛ لأن فيها دعوة إلى إزالة الفوارق، وأن يصير أبو جهل كعبده الذي يبيعه في الأسواق سلعة، (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فكانوا يأنفون من ذلك، وكانوا إذا طافوا بالكعبة لا يأذنون للعبيد أن يطوفوا معهم، فكيف يقفون في صف واحد يدعون الله تبارك وتعالى، وما منعهم من قبول الإسلام إلا الكبر.

بدأ الإسلام غريباً في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة، ولكن هناك فرق بين الغرباء، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب، فلم يفتنهم، وكانوا يحتسبون العذاب في الله تبارك وتعالى، بخلاف المتأخرين من الغرباء، فإن إيمانهم هش ضعيف، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار.

فالغربة مظاهرها واحدة، لكن شتان بين الغرباء.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغرباء قال: (هم الذين يُصلحون إذا فسد الناس) وضبطها بعضهم (هم الذين يَصلحون إذا فسد الناس).

كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة، وأنه ساد؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق.

ولذلك لم يظهر النفاق في مكة، لم يكن ثم إلا كفر وإيمان، إنما ظهر النفاق في المدينة بعدما عز الإسلام وصارت له دولة؛ فلم يزل يعامل المنافق على الظاهر، والمنافق يريد أن يحفظ دمه، ويحفظ ماله، فيظهر الإسلام ويبطن الكفر، وليس لنا إلا الحكم بالظاهر.

أحد القضاة الذين أخذوا على أنفسهم أنهم لا يقضون في الحدود إلا بما شرع الله ورسوله، كان إذا جاءه زانٍ محصن حكم عليه بالرجم، وهذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام، في كتاب الله تبارك وتعالى، لكن آية الرجم نسخت، والنسخ -هو: رفع الحكم المتقدم- عند العلماء على نوعين: الأول: رفع النص مع بقاء الحكم، والثاني: بقاء النص مع رفع الحكم.

فمن النوع الأول: آية الرجم.

ثبت في مستدرك الحاكم -وأصله في صحيح البخاري - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( كنا نقرأ فيما نقرأ من القرآن (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة، بما حظيا من اللذة، نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فهذه آية كانوا يقرءونها في القرآن الكريم، ثم رفعت الآية وبقي حكمها، وعلى هذا جميع أهل الإسلام، إلا من شذ من أهل البدعة، وأجمع جمهور الأصوليون على ذلك.

ومن النوع الثاني: يبقى النص ويرفع الحكم كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219] فهذه الآية فيها إظهار لفائدة الخمر؛ لكنها لا تساوي شيئاً بجانب الضرر، فلا يجوز لأحد أن يحتج بهذه الآية ويقول: أنا سأشرب الخمر للفائدة التي فيها؛ لأنها نسخت بآية المائدة.

فهذا القاضي جاءه مرة رجل زان، وكان المحامي الذي يدافع عنه حتى يخرجه ويحقق له البراءة يتمنى أن يحكم في القضية هذا القاضي؛ لأنه يعلم أنه إذا حكمت المحكمة عليه بالرجم -ولا أحد يطبق عليه حد الرجم- فمعنى حكمه هذا أنه سيخرج من السجن، فإذا حكمت المحكمة على فلان بالرجم، أي: بالقتل، مع عدم وجود سلطان شرعي يقيم حد الله تبارك وتعالى ويحفظ حدوده، فإن هذا الحكم بالموت يساوي البراءة في هذه الأزمان؛ لأننا نعيش غربة ثانية للدين.

فلما أعلن القاضي حكمه، والذي يقضي عليه بالرجم. ضجت القاعة بالتصفيق، وعانقوا المجرم الأثيم.. لماذا؟ لأنه لا يوجد من يطبق حد الرجم، ولو حكم عليه بالسجن لسجن؛ لكنه لا يريد أن يبدل حكم الله، وهو إذا حكم بحكم الله كان الحكم بمثابة البراءة لهذا المجرم.

يا للغربة! لا يوجد سلطان يحمي حدود الله في الأرض، من سب الله سجن ستة أشهر، ولم ينفذ هذا القانون ساعة، ولو سب الذات الملكية يسجن في الحال دون محاكمة.

غربة أهل الدين في هذه الأزمنة المتأخرة، مع عدم وجود النصير، ومع قلة الأتباع، ومع قلة الصبر؛ يجعل الغربة مضاعفة.

(الذين يُصلحون إذا فسد الناس) أو (الذين يَصلحون إذا فسد الناس) يدل على انتشار الفساد العريض، مع قلة الداعين إلى السنة، حتى يصير الواحد منهم أغرب من فرس دهماء في غلس، أرأيت إلى الفرس السوداء شديدة السواد إذا وقفت في ظلمة الليل البهيم أتستطيع أن تبصرها؟ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40]. إن الغرباء الأولين كانوا يستعلون بإيمانهم لذلك كانوا يستهونون العذاب، تخلل الإيمان ووصل إلى شغاف قلوبهم، وما تساوي الدنيا إذا خرجت روحك إلى النعيم، كأنها حبيسة في زجاجة، فإذا خرجت من عنقها خرجت إلى الفضاء الواسع، فمن الذي يرضى بالسجن..؟

فالدنيا سجن المؤمن، إذا خرج منها إلى اللذة والنعيم المقيم كان ذلك أعز أمانيه، لذلك كان يتمنى أن يخرج من الدنيا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (اعلموا أنكم لا تلاقون ربكم إلا إذا متم) إذاً فالموت عند هؤلاء أمنية؛ لأنه لا يستطيع أن يلقى الله إلا إذا مات، فإذا قتله المشركون قال كما قال الأولون: ( فزت ورب الكعبة ) ما كانوا يرتعدون للموت؛ لذلك كانوا يقدمون على نصر هذا الدين بعد تحقيقه في الواقع. لماذا لا يشعر المسلمون الآن بلذة الدين؟ لأنه لا يراه حساً، لا يراه حقيقة واقعة، لا يمارسه، إنما هو نصوص نظرية .. نصوص صارت أثراً.

إن أصول الإسلام حبيسة في دور الكتب، فما طبع من الكتب في تفسير القرآن وتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم يغطي الأرض، فلو أنك بسطت الكتب المطبوعة في تفسير كلام الله وكلام رسوله لملأت الأرض بالكتب، وأقول: إن ما لم يطبع من الكتب يساوي ما طبع مرتين أو أكثر، وهي حبيسة الخزانات العامة أو الخاصة، وكأنها تحف في متحف، وهذا كلام الله ورسوله، تفسيره وبيان مراده، نصوص انعزل المسلمون عنها، لم يشعروا بحلاوتها؛ لأنهم لم ينقلوها إلى الواقع، بخلاف الغرباء الأولين، كان الواحد منهم إذا قرأ الآية لم يتجاوزها حتى يعمل بها، لذلك قل فيهم من كان يحفظ القرآن كله، فكان من يحفظ القرآن كله من الصحابة قلة قليلة.

ونحن فينا -بحمد الله- من يحفظ القرآن كله، ولكن أقلهم من يعمل به، يقرءونه ولا يدرون معانيه، وبعضهم يقرؤه ويحرف الكلم عن مواضعه، كالذي يأخذ في الربع أو في الثلاثة أرباع ألف جنيه.. فيقال له: لم هذا السعر الغالي؟! يقول: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] فماذا نفعل في هؤلاء..؟! إن هؤلاء يحتاجون إلى عمر ، فمثل هذا يقول: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:41] ولم ينزل الله الآية لذلك، فهو يحرف الكلم عن مواضعه، فضلاً عن الباطنية أعداء الدين، الذين يحرفون الكلام تحريفاً هشاً لا يقبله العقل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] يقولون: البقرة عائشة ، وهل يوجد في أي قاموس من قواميس اللغة أن البقرة من معانيها عائشة ؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آل عمران:200] أبو بكر وَصَابِرُوا [آل عمران:200] عمر وَرَابِطُوا [آل عمران:200] عثمان وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] علي .

ما هذا الجهل؟! لم يقفوا عند عدم فهم كلام الله فحسب، بل حرفوه.

هذا أوان الغربة الثانية

إن الغريب له استـكانة مذنب وخضوع ذي دين وذل مريب

يقف كأنه مذنب بلا ذنب، ويضع رأسه في الأرض، وحقه أن يعز، وحقه أن يرفع رأسه، لكن لضعف تربيته وتنشئته لا يستطيع أن يستعلي بالإيمان، بين قوم تسودهم بعض صفات الجاهلية، وليست الجاهلية فترة زمنية قبل الإسلام، إن الجاهلية مذهب وخلق، فتوجد بعض صفات أهل الجاهلية في أهل الإسلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية) وكان ذلك في أوج عز الإسلام، مما يدل على أن المرء قد يجتمع فيه جاهلية وإسلام، ويجتمع فيه كفر وإيمان، ونفاق وإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وباتفاق العلماء أن من يفعل ذلك ليس بكافر، بل هو مسلم.

ليس من يخلف وعده يكون منافقاً في الدرك الأسفل من النار.. لا، إنما هو مسلم فيه شعبة من النفاق، فهذا إسلام ونفاق اجتمعا في عبد واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهناك العشرات من المسلمين بل الملايين يحلفون بالنبي والولي، ومن يحلف برأس أبيه، ومن يحلف بشرف فلان، وهذا كله شرك وكفر؛ لكنه كفر دون كفر ولا يخرج من الملة، فهذا كفر اجتمع مع إسلام في رجل واحد، فإن الجاهلية توجد في العبد المسلم؛ لأن الجاهلية خلق وليست فترة زمنية قبل الإسلام.

عدم تمكين المصلحين سبب في غربة الدين

إننا نعيش الآن غربة شديدة محكمة، والذي ضاعف منها ضعفنا أيها الغرباء، فنحن ضعاف لا نتحمل العذاب والفتن، لاسيما مع وجود الرءوس الجهلة الذين يفتون الناس بغير علم، ويسمع لهم، ويمكنون من أجهزة الإعلام.

ماذا يفعل المخلصون..؟

إن أكثر خطيب الآن في مصر يحضر له الناس في خطبة الجمعة لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف. فهب أن نصيحته المخلصة وصلت إليهم، كم يكون قد استمع لها؟ عشرة آلاف رجل وامرأة. أثبتت الإحصائيات الرسمية في أوائل الثمانينات أن العدد الثابت الذي يجلس لمشاهدة جهاز التلفزيون عشرة ملايين إنسان، ويزيد هذا العدد في المساء إلى ثلاثين أو أربعين مليوناً، لكن العدد الثابت عشرة ملايين إنسان، فإذا خرج عليهم جاهل يقول لهم: إن الموسيقى حلال؛ بدليل: أن الرياح إذا أتت على الشجر، واصطدمت بالفروع أصدرت أصواتاً تشبه العزف، وإن الطيور لتغرد، وإنك لتقرأ القرآن وقد أمرت بالتغني به، وهذا يدل على أن الموسيقى حلال.. وهذا يصادف هوى الجماهير التي تريد أن تثبت لنفسها أنها مسلمة من غير أن تخرج من أهوائها.

رجل يأكل الربا وإذا قلت له: لا يجوز لك أن تأكل الربا وعليك أن تترك كل هذه الملايين، عز عليه ذلك، فإذا قلت له: فوائد البنوك حلال، ولا شيء في ذلك، شعر ببرد الرضا؛ لأنه صار مسلماً موحداً مع وجود عدة ملايين تدخل في جيبه ، ليس مستعداً أن يضحي بها؛ لذلك إذا قلت لصاحب الغناء: أرح أعصابك بموسيقى كلاسيكية، أو بموسيقى رومانسية، وأنت بذلك لست مخالفاً لدينك؛ شعر بالرضا، فإذا سمع بعضنا يقول له: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف) ولم يصادف ذلك هوى نفسه قال: أنا آخذ بفتوى الأول، فعندما تناقش أولئك: ما الذي دعاكم إلى إصدار مثل هذه الفتوى؟ قالوا لك: إن الفقه يتطور .. إن الفقه يتجدد.

فنعوذ بالله من أولئك الذين سماهم بعض الأذكياء بـ(المجددينات)! قال له سائله: وما المجددينات؟ وأي جمع هذا؟ ليس بجمع مذكر (مجددون)، ولا بجمع مؤنث (مجددات) أي جمع هذا؟! فأجابه إجابة أبدع من التسمية، وقال له: هذا (جمع مخنث سالم)، فأقسم له سائله أن اللغة العربية في أشد الحاجة لهذا الجمع، خصوصاً في هذه الأيام.

ماذا نفعل في أولئك (المجددينات) الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (يحدثونكم بما لا تعرفون وآباؤكم) لا نعرف هذا في آبائنا الأولين، غربة استحكمت على الغرباء مع ضعف إيمانهم وجهلهم، وكثرة الفتن عليهم، فلا شك أنهم يختلفون عن الغرباء الأولين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

استغلال منابر الإعلام في نشر الفتاوى المتضاربة مما يفقد العامة الثقة في العلماء

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

الذي يفرق بين الغرباء الأولين وبيننا في الغربة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصدر الضوء بالنسبة للغرباء.

لقد شكا كثير من العلماء من تولية منصب الإفتاء لرجل ليس ضليعاً في الفتوى؛ لأن الأمر -كما قال الأولون-: (إذا زل العالم زل بزلته عالَم)، فهذا المفتي لابد أن يكون عالماً متيناً، بمعنى أنه يجب عليه أن يغضب لله ورسوله، لكن يبقى يفتي الناس، ويرى المنكر ولا يتمعر وجهه؛ فهذا يفقد مصداقيته.

وعندما يفتي -مثلاً- بأن فوائد البنوك حلال، وتقوم الصحف الرسمية والمجلات بنشر هذا الرأي، وبتمجيد المفتي، حتى إن مجلة (أكتوبر) جعلته الرجل الأول في استفتاء عام (89م) كلاعبي الكرة والممثلين، ولا يستغرب ذلك؛ لأن الجماهير العريضة كانت تنتظر فتوى تحليل الربا.

وفي نفس الوقت يفتي -وقد أصاب في ذلك- أنه لا يجوز أن تقام مسابقات ملكات الجمال؛ لأن هذا يعتبر عهراً رسمياً، امرأة تأتي ليقيسون أردافها ووسطها ونهديها بالمقاس، ويعرضون العورات على مرأى ومسمع من الناس، وفي الفنادق الكبرى، ولها تصريح رسمي، وعندما يقولون لهم: هذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، فلا يستمعون لهم، ولا يقيمون لهم وزناً.

يهللون للأولى ويتعامون عن الثانية.. إن المرء ليفقد ثقته في أمثال أولئك.

وجاء آخر وأول ما تولى منصب الإفتاء قال: إن اتحاد المطالع هو الراجح، وإذا رأينا الهلال في بلد مجاور لنا يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.

وبعد ذلك جاء في رمضان الثاني وقال: اختلاف المطالع هو الأصل، ولا عبرة باتحاد المطالع، فإذا رئي في بلد يشترك معنا في جزء من الليل فلا يجب علينا أن نأخذ برؤيتهم، ونشر هذا القول في (الأهرام).

فجاء هذا العام وقال: إن اتحاد المطالع هو الأفضل، وهو الراجح، فإذا رُئي الهلال في بلد يشترك معنا في جزء من الليل يجب علينا أن نصوم.

فهل نبدل الفتاوى كما نبدل النعال؟! فهذا يدل على أنه لا يوجد تأصيل علمي؛ لأن المرء إذا اعتمد على اجتهاده في فتوى، فهو يفتي أولاً عن دليل راجح له بعد بحث طويل مقنع، فمثل هذا لا يتحول عن اجتهاده بسهولة، لاسيما والأدلة مبسوطة في مواضعها، فما الذي خفي عليه وعلمه حتى يبدل فتواه ثلاث مرات في سنتين؟!

فما بالك بالذين يضلون الناس عن عمد أو عن جهل..؟!

مثال آخر: جماهير العلماء كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري وابن وهب ... وغيرهم من العلماء: أنه لا يجوز اجتماع قبر ومسجد في دين الإسلام، ولا يجوز بناء المساجد على القبور.

ومع ذلك يخرج علينا رجل مشبوه مجيباً على سؤال نصه: هل اتخاذ المساجد على القبور شرك؟ قال: ومن قال هذا؟ ليس بشرك. وحتى يثبت عملياً أنه ليس بشرك عقد مجلسه الدائم في مسجد الحسين، فانظر إلى هذه الغربة التي يعيشها الحق وأهله! إذ يرى الذين يدخلون ويقبلون الأعتاب، ويسألون المدد من غير الله تبارك وتعالى، ويرى شرطياً يقف حتى ينظم المرور من اليمين إلى الشمال، كما لو كانوا يطوفون بالبيت العتيق ولا ينكر، ولا تهتز له شعرة، وهذا دليل عند العوام والطغام أن القبر يجوز أن يجتمع مع المسجد، وأن دعاء الأموات ليس بشرك..!

فماذا يفعل الدعاة المصلحون؟

فهل يبلغ الـبنيان يوماً تـمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

لوكان سهماً واحداً لاتقـيته ولكنه سهم وثان وثـالث

تكسرت النصال على النصال، وضعفت أبدان الدعاة عن تحمل العذاب، وتحمل مخالفة الجماهير العريضة لهم؛ حتى صار الواحد منهم كالغريب في أهله.

غربة الدين في الوقت الحاضر متمثلة في غربة أهل السنة

إن غربة الإسلام غربة خاصة، والسني في هذه الأيام غريب في أهله، بل يقول بعض الأبناء -وكثيراً ما شكي إلينا ذلك، ونسأل في مناسبات متعددة-:

- أبي حلف عليّ: إنك إذا صليت في مسجد سني فأمك طالق .. ماذا أفعل؟

- أبي حلف عليّ: إذا أطلقت لحيتك فأمك طالق، أو يخرجني من البيت.. ماذا أفعل؟

إن التطرف في الدين خير من التطرف في الدنيا، مع أن كلاهما مذموم، لكن الذي يتطرف في الدين أبعد عن الانحراف والفساد العريض من الذي يتطرف في الدنيا، فإذا خفت على ولدك أن يدمن (الهيروين) فدعه في أحضان أهل السنة والجماعة.

إن من الغربة أنك إذا صدعت بكلمة الحق أوخذت على ذلك، وقيل لك: عندنا أوامر ألا تتكلم في هذا الأمر، هذا على المستوى الخاص وعلى المستوى العام خذ مثلاً واحداً: وهو ما حدث في فرنسا في العام الماضي، فرنسا بلد المجون والدعارة التي اتسعت لكل شيء؛ للـ (ميني جيب) و(الميكروجيب) والعراة، لما لبست بنتان صغيرتان الحجاب قامت قيامة الفرنسيين، حتى اضطر رئيس الدولة وامرأته أن يتكلما في هذا الأمر شخصياً .. بنت تلبس الحجاب فتهتز دولة كـفرنسا .. التي تعد بنت الكنيسة البكر، والداعية إلى النصرانية، تهتز كلها وهي دولة عظمى لحجاب فتاة؟! وقد اتسعت للـ(ميني جيب) و(الميكروجيب)، واضطر رئيس الدولة أن يدلي ببيان في ذلك.

إنهم رأوا أن هذا الحجاب ليس مجرد قماش يوضع على الرأس، إن هذا رمز، كما أن هذه اللحية رمز، أما الذين يهونون من الهدي الظاهر فيقولون: (ربنا رب القلوب)، نعم هو رب القلوب، ولكن هو الذي أمرك بإصلاح ظاهرك كما أمرك بإصلاح باطنك، فلم فرقت؟ إن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن.

ليس الحجاب قماشاً يوضع على الرأس، إنه رمز، والبنت التي لبست الحجاب مغربية، ومما يندى له الجبين وتدمع له العين أن ملك المغرب نفسه أيضاً يتدخل ويأمر والد هذه البنت أن يمنعها من لبس الحجاب، رئيس دولة عظمى يتدخل!! ورئيس الدولة التي منها هذه البنت يتدخل أيضاً!! لماذا رؤساء الدول يتدخلون في هذه المسائل؟ ما عهدناهم يتدخلون..!

إن سلمان رشدي الأفاك الأثيم الكافر -لأن توبة الزنديق لا تقبل عند جميع العلماء- الذي سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم أمهات المؤمنين بالدعارة، وأفتى الخميني بقتله، فأول ما أفتت إيران باستباحة دمه غضبت إنجلترا، وسحبت السفير من إيران، رغم أنه يعتبر رجلاً عادياً.. لماذا سحبتم السفير؟ قالوا: هذا رجل ألف كتاباً مثلما يؤلف الكثيرون. أيسب رسول الإسلام، وتتهم نساؤه بالدعارة ولا صريخ؟! إن بابا روما لو سجن لقامت الدنيا.

في (مدرسة المشاغبين) أتوا برجل له عمامة ويلبس الجبة والقفطان وهو يرقص، ولا يجرءون على أن يضعوا مكانه قسيساً.. هذه غربة ما لها من دافع!

ماذا يفعل المسلمون الضعاف أمام هذه الغربة على المستوى العام .. على مستوى الدول، وعلى المستوى الخاص..؟! (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أيها الغرباء في الغربة الثانية! طوبى لكم، طوبى لكم وحسن مآب، طوبى للغرباء (الذين يصلحون إذا فسد الناس) لا تيئس من روح الله، ولا يحملنك كثرة المخالفين على اليأس من إيصال الحق إلى القلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كانوا يدعون الواحد بعد الواحد، لكن الواحد منهم كان يزن أمة ونحن غثاء كغثاء السيل، (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت) .

نسأل الله تبارك وتعالى أن يلطف بهؤلاء الغرباء، وأن يمدهم بروح منه، وأن يعزهم، وأن يعز الحق بهم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

إننا نعيش الآن غربة شديدة محكمة، والذي ضاعف منها ضعفنا أيها الغرباء، فنحن ضعاف لا نتحمل العذاب والفتن، لاسيما مع وجود الرءوس الجهلة الذين يفتون الناس بغير علم، ويسمع لهم، ويمكنون من أجهزة الإعلام.

ماذا يفعل المخلصون..؟

إن أكثر خطيب الآن في مصر يحضر له الناس في خطبة الجمعة لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف. فهب أن نصيحته المخلصة وصلت إليهم، كم يكون قد استمع لها؟ عشرة آلاف رجل وامرأة. أثبتت الإحصائيات الرسمية في أوائل الثمانينات أن العدد الثابت الذي يجلس لمشاهدة جهاز التلفزيون عشرة ملايين إنسان، ويزيد هذا العدد في المساء إلى ثلاثين أو أربعين مليوناً، لكن العدد الثابت عشرة ملايين إنسان، فإذا خرج عليهم جاهل يقول لهم: إن الموسيقى حلال؛ بدليل: أن الرياح إذا أتت على الشجر، واصطدمت بالفروع أصدرت أصواتاً تشبه العزف، وإن الطيور لتغرد، وإنك لتقرأ القرآن وقد أمرت بالتغني به، وهذا يدل على أن الموسيقى حلال.. وهذا يصادف هوى الجماهير التي تريد أن تثبت لنفسها أنها مسلمة من غير أن تخرج من أهوائها.

رجل يأكل الربا وإذا قلت له: لا يجوز لك أن تأكل الربا وعليك أن تترك كل هذه الملايين، عز عليه ذلك، فإذا قلت له: فوائد البنوك حلال، ولا شيء في ذلك، شعر ببرد الرضا؛ لأنه صار مسلماً موحداً مع وجود عدة ملايين تدخل في جيبه ، ليس مستعداً أن يضحي بها؛ لذلك إذا قلت لصاحب الغناء: أرح أعصابك بموسيقى كلاسيكية، أو بموسيقى رومانسية، وأنت بذلك لست مخالفاً لدينك؛ شعر بالرضا، فإذا سمع بعضنا يقول له: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف) ولم يصادف ذلك هوى نفسه قال: أنا آخذ بفتوى الأول، فعندما تناقش أولئك: ما الذي دعاكم إلى إصدار مثل هذه الفتوى؟ قالوا لك: إن الفقه يتطور .. إن الفقه يتجدد.

فنعوذ بالله من أولئك الذين سماهم بعض الأذكياء بـ(المجددينات)! قال له سائله: وما المجددينات؟ وأي جمع هذا؟ ليس بجمع مذكر (مجددون)، ولا بجمع مؤنث (مجددات) أي جمع هذا؟! فأجابه إجابة أبدع من التسمية، وقال له: هذا (جمع مخنث سالم)، فأقسم له سائله أن اللغة العربية في أشد الحاجة لهذا الجمع، خصوصاً في هذه الأيام.

ماذا نفعل في أولئك (المجددينات) الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (يحدثونكم بما لا تعرفون وآباؤكم) لا نعرف هذا في آبائنا الأولين، غربة استحكمت على الغرباء مع ضعف إيمانهم وجهلهم، وكثرة الفتن عليهم، فلا شك أنهم يختلفون عن الغرباء الأولين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.