البدعة وأثرها في تأسيس محنة المسلمين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

أيها الكرام! تعلمون أن الله عز وجل خصص اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

وقال تبارك وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

والاتباع دليل على الحب، لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

وأعظم مناقض للاتباع هو الابتداع.

ولذلك قاومه الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته قولاً وعملاً.

فأما قولاً: فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه كخطبة الحاجة، ويحذرهم من محدثات الأمور، ولما جاء نفرٌ إلى أبياته صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، وبعدما تقالوها، ووجدوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يصنع كبير شيءٍ، قال أحدهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك وقال: من رغب عن سنتي فليس مني).

فالبدعة سببها الجهل، وكلما اقتربت من السلف الأول ابتعدت عن البدعة، وأنت تنظر إلى جميع المبتدعة ترى علمَهم بالسلف قليل، ولكن لهم سمتٌ عام وهو الجد في العبادة، ولذلك ينتفع بهم كثير من الذين لا يعلمون السنة، وأقرب مثلٍ أبدأ به حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث الإسلام والإيمان والإحسان.

وفي هذا الحديث: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: خرجت أنا ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بما أحدثه معبد الجهني في القدر! فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن! لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم.. وذكر من شأنهم- يعني أفاض في صفاتهم وفي مزاياهم- ولكنهم يقولون: إن الأمر أُنُف وأن لا قدر.

وعند ابن مندة في كتاب الإيمان: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري : فقابلني عبد الله بن عمر وكان يعرفني، فسلم عليّ وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلنا ناسٌ يتقفرون العلم ويقرءون القرآن ويقولون: أن لا قدر، قال: فأرخى يده من يدي، وقال: (إذا لقيت هؤلاء فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم بُرَآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لئن جاء أحدكم بأحُدٍ ذهباً، فلا يُقْبَل منه حتى يؤمن بالقدر).

فأنت تنظر أيها الأخ الكريم! يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك لم ينتفعوا بهذا العلم في درء البدعة والتمسك بالسنة.

لم يغتر عبد الله بن عمر بما ذُكِرَ من أوصاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما في حديث الصحيحين: لما جاء ذو الخويصرة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، قال: ويحك، ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) ، هكذا الرواية في الصحيحين وهي الأشهر، (خبتَ وخسرتَ)، و(خبتُ وخسرتُ) ظاهرة المعنى، لكن خبتَ وخسرتَ قد يستشكل على بعضهم هذا الفتح، ويقول: إذا جاز على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل، فأي خيبة وخسران تعود على الرجل.

قال العلماء: (خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) معناها: أنك خبتَ وخسرتَ إذ ظننتَ أن نبيك لا يعدل. وسوء الظن بالنبي كُفر، فخيبته وخسرانه لسوء ظنه في نبيه.

فأراد خالد بن الوليد أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد).

الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام للعُبَّاد، يقوله: لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ويقوله لـعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر ، وابن مسعود وأبي عبيدة، هؤلاء السادة، تصوَّر عندما يحقر أبو بكر الصديق صلاته وقيامه في مقابل صلاة هؤلاء! إذاً: لك أن تتخيل كيف تكون صلاتهم؟! وكيف يكون صيامهم؟!

وأعطيك مثلاً لبعض أكابر الصحابة وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد - قال: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من المجدين في العبادة، فـعمرو بن العاص يعلم حال ابنه، فخشي أن يكون قام الليل في ليلة عرسه وترك امرأته، وفعلاً كما توقع، قال: فذهب يسأل امرأتي -أي زوجة ابنه-: ما حال عبد الله معك؟

قالت: عبد الله نِعْم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله : فجاءني أبي فعزمني، وأنبني بلسانه، وقال: زوجتك امرأةً ذات حسب من قريشٍ فأعظلتها؟ قال عبد الله : وذلك لما كان لي من الشَّرَهِ في العبادة) عنده شَرَهٌ كبير للصلاة وللصيام.

وفي صحيح ابن حبان قال عبد الله بن عمرو : (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقوم به كل ليلة، فشكى عمرو بن العاص ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليه، فقال: يا عبد الله ! كيف تقرأ القرآن؟

قال: يا رسول الله! أقرؤه كل ليلة.

قال: كيف تصوم؟

قال: أصوم الدهر.

فجعل ينزل به إلى التيسير.

فقال له: صمْ يوماً وأفطرْ يوماً.

قال: أقدر.

قال له: اقرأ القرآن في أربعين.

قال: أقدر.

قال له: اقرأ القرآن في شهر.

قال: أقدر.

فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتدرج به).

فهذا من الشَّرَه في العبادة! فتصور عندما يقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقرأ القرآن كل ليلة: إنك لا تقرأ! وهل هذه قراءة؟

لا تجتهد فهناك رجل من الخوارج هو أجد منك في العبادة والصوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام لهؤلاء الصحابة العُبَّاد: (يأتي أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم). فعندما تتأمل فهم الخوارج للقرآن تضرب بكفيك عجباً!

مبتدع يزعم أن الله أرسل رسلاً إلى الصراصير والنمل والحشرات

إن الإنسان كلما ابتعد عن هدي القرون الثلاثة الأولى، أتى بضلالات، فثمَّ رجل مبتدع نشر مقالاً: فزعم أن الله أرسل إلى الصراصير رسولاً، وإلى النمل رسولاً، وإلى الحشرات رسولاً، كل طائفة لها رسول، ويقول: إن الله أخبرنا بذلك في القرآن، حسناً! أين هذا في القرآن؟

قال: قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38] فالنسور أمة، والصراصير أمة، والنمل أمة، والنحل أمة، ثم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].

انظر إلى الكلام: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] يعني: ما من أمةٍ إلا أرسلنا فيها نذيراً.

فهذا يدل على أنه ما من أمة من الأمم التي خلقها الله عز وجل إلا أرسل فيها رسولاً.

والعلماء يقولون: إن نزع الكلام من السياق جريمة في حق المعنى.

مبتدع يزعم أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان

هذا رجل قال: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وقال في كيد الشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]!

سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلاً؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذكر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبداً في هذا الكيد.

فما الذي أوصل كيد المرأة أن يكون أعظم من كيد الشيطان؟!

هناك أناسٌ لا ينظرون إلى المعنى ولا إلى السياق ولا السباق ولا اللحاق، والكلام لا بد له من سياق وسباق ولحاق.

وهكذا عندما يبتعد الإنسان عن منهل السلف الصالح يقع في البدعة.

ولذلك كانت أدلة أهل البدع مخالفة أدلة أهل السنة، فأنت تنظر إلى حال أهل البدع يجدون ويجتهدون في العبادة، ولذلك تجد أن أتباع المبتدع كثيرون، بسبب أنهم ينظرون إلى هيئته، يسمع القرآن يبكي.. وإذا صلى يطيل الصلاة.. وتجده زاهداً! انظر إلى حال عمرو بن عبيد رأس المعتزلة القدرية، كان المأمون يعجب من زهده ورغبته عن الدنيا، فكان إذا رآه قال:

كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد

فكل واحد منكم يمشي رويداً، يريد أن يصطاد، فهو يمشي على مهله، وينظر يمنة ويسرة لعله يجد فريسة، فهو يقول:

كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد

وكان شديد الزهد، ومع ذلك لم ينفعه هذا الزهد.

فأنت تنظر إلى الخوارج الذين يصلُّون حتى يحقر الصحابةُ صلاتَهم إلى صلاتِهم، وصيامَهم إلى صيامِهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ومع ذلك فإن أسرع الناس خروجاً من الدين هؤلاء.

إذاً: ما نفعهم قراءةُ القرآن في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصلاة في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصيام في الثبات على الهدى.

فالمبتدع التزامه هش جداً، وبالتالي كانت محنة طلب السنة والثبات عليها من أعظم المحن، وحتى لا يُظَنُّ أنني مبالغ في هذه الكلمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).

إذاً: أنت أيها المسلم أمامك ثلاثةٌ وسبعون باباً، وهذه الأبواب اختلط بعضها ببعض، أنت قد تجد أحياناً باب الهدى لا منادي له، لغربة علماء السنة، وتجد على أبواب كثيرة من يدعو وينادي إليها، وعندما يأتي شخص جاهل خالي الذهن لا يدري أين باب الهدى في هذه الأبواب الثلاثة والسبعين، ولو سألت أي رجل: على أي باب؛ لقال لك: هذا هو باب الهدى ادخل، وأنت لا تدري، ادخل.

فتصور محنتك أيها المسلم في أي بابٍ تدخل.

وتجد أنه على كل باب شيطان يدعو إليه، فكلهم يحسنون البدعة، ويلبسونها لباس السنة، وكما قلت: الدعاة إلى البدعة زهاد وعُبَّاد. فيغتر الإنسان بمنظرهم وكم أهلكت هذه الصورة من رجالٍ، حتى بعض الأذكياء ممن كنتُ أعرفهم وقع في شر طريقتهم وقع في الطريقة البرهانية، حتى إنه قال لي يوماً: إن الشيخ البرهاني في السودان يعلم ماذا أصنع الآن! وهو مقتنع تماماً بما يقول.

إن الإنسان كلما ابتعد عن هدي القرون الثلاثة الأولى، أتى بضلالات، فثمَّ رجل مبتدع نشر مقالاً: فزعم أن الله أرسل إلى الصراصير رسولاً، وإلى النمل رسولاً، وإلى الحشرات رسولاً، كل طائفة لها رسول، ويقول: إن الله أخبرنا بذلك في القرآن، حسناً! أين هذا في القرآن؟

قال: قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38] فالنسور أمة، والصراصير أمة، والنمل أمة، والنحل أمة، ثم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].

انظر إلى الكلام: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] يعني: ما من أمةٍ إلا أرسلنا فيها نذيراً.

فهذا يدل على أنه ما من أمة من الأمم التي خلقها الله عز وجل إلا أرسل فيها رسولاً.

والعلماء يقولون: إن نزع الكلام من السياق جريمة في حق المعنى.

هذا رجل قال: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وقال في كيد الشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]!

سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلاً؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذكر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبداً في هذا الكيد.

فما الذي أوصل كيد المرأة أن يكون أعظم من كيد الشيطان؟!

هناك أناسٌ لا ينظرون إلى المعنى ولا إلى السياق ولا السباق ولا اللحاق، والكلام لا بد له من سياق وسباق ولحاق.

وهكذا عندما يبتعد الإنسان عن منهل السلف الصالح يقع في البدعة.

ولذلك كانت أدلة أهل البدع مخالفة أدلة أهل السنة، فأنت تنظر إلى حال أهل البدع يجدون ويجتهدون في العبادة، ولذلك تجد أن أتباع المبتدع كثيرون، بسبب أنهم ينظرون إلى هيئته، يسمع القرآن يبكي.. وإذا صلى يطيل الصلاة.. وتجده زاهداً! انظر إلى حال عمرو بن عبيد رأس المعتزلة القدرية، كان المأمون يعجب من زهده ورغبته عن الدنيا، فكان إذا رآه قال:

كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد

فكل واحد منكم يمشي رويداً، يريد أن يصطاد، فهو يمشي على مهله، وينظر يمنة ويسرة لعله يجد فريسة، فهو يقول:

كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد

وكان شديد الزهد، ومع ذلك لم ينفعه هذا الزهد.

فأنت تنظر إلى الخوارج الذين يصلُّون حتى يحقر الصحابةُ صلاتَهم إلى صلاتِهم، وصيامَهم إلى صيامِهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ومع ذلك فإن أسرع الناس خروجاً من الدين هؤلاء.

إذاً: ما نفعهم قراءةُ القرآن في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصلاة في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصيام في الثبات على الهدى.

فالمبتدع التزامه هش جداً، وبالتالي كانت محنة طلب السنة والثبات عليها من أعظم المحن، وحتى لا يُظَنُّ أنني مبالغ في هذه الكلمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).

إذاً: أنت أيها المسلم أمامك ثلاثةٌ وسبعون باباً، وهذه الأبواب اختلط بعضها ببعض، أنت قد تجد أحياناً باب الهدى لا منادي له، لغربة علماء السنة، وتجد على أبواب كثيرة من يدعو وينادي إليها، وعندما يأتي شخص جاهل خالي الذهن لا يدري أين باب الهدى في هذه الأبواب الثلاثة والسبعين، ولو سألت أي رجل: على أي باب؛ لقال لك: هذا هو باب الهدى ادخل، وأنت لا تدري، ادخل.

فتصور محنتك أيها المسلم في أي بابٍ تدخل.

وتجد أنه على كل باب شيطان يدعو إليه، فكلهم يحسنون البدعة، ويلبسونها لباس السنة، وكما قلت: الدعاة إلى البدعة زهاد وعُبَّاد. فيغتر الإنسان بمنظرهم وكم أهلكت هذه الصورة من رجالٍ، حتى بعض الأذكياء ممن كنتُ أعرفهم وقع في شر طريقتهم وقع في الطريقة البرهانية، حتى إنه قال لي يوماً: إن الشيخ البرهاني في السودان يعلم ماذا أصنع الآن! وهو مقتنع تماماً بما يقول.

أيها الكرام! ينبغي أن نعرف أن طريق النبي صلى الله عليه وسلم طريق واحد فقط، وهي من أيسر الطرق، لكن لا بد من تصحيحٍ لمعنى الكتاب والسنة، هذا أول سبيل لوقوفك على طريق الحق.

أهل البدعة يباينوننا في منهج الاستدلال، بل يقدمون العقل على النقل، ويجعلونه قاضياً، بحيث أنه إذا لم يفهم النص يرده، وشخص واحد من هؤلاء أصدر كتاباً يزعم فيه أن أربعين حديثاً من أحاديث البخاري ومسلم كلها تباين العقل، ويذكر على ذلك أمثلة، وأنا أقولها حتى أبين لكم الفرق في الاستدلال بين أهل السنة وأهل البدعة.

طعن أهل البدع في حديث موسى مع ملك الموت

فذكر حديث موسى عليه السلام مع ملك الموت، فهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وصححه كذلك الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت على موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، فصكَّه ففقأ عينه، فصعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، فقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: آلحياةَ تريد؟! ضَعْ يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مسَّتها يداك سنة. فقال موسى: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت! قال: فالآن).

فيقول: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف بنبي من أولي العزم؟!

يقول: إن هذه مجرد دعوى.

يدل على ضد هذا حديثان:

هو يقول: إن عباد الله الصالحين يحبون الموت.

نحن نقول: لا. يدل على هذا الحديث الإلهي حديث: (مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، في هذا الحديث (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته).

فهذا دليل على أن عباد الله المؤمنين يكرهون الموت.

والحديث الآخر حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة : يا رسول الله! كلنا يكره الموت). هكذا (كلنا)، وعند العلماء: الجملة الكلية الموجزة من أقوى الجمل في إفادة العموم؛ لأن لفظ (كل) تفيد العموم، فهي قالت: (كلنا يكره الموت) فلو كان عباد الله المؤمنون لا يكرهون الموت لقال: (لا يا عائشة ! ليس كل الناس يكره الموت) أما وقد أقرها عليه الصلاة والسلام على ذكر هذه الكلية، فهذا يدل على أن عباد الله عز وجل يكرهون الموت، ولا عيب في ذاك؟

كما أن الخوف الجِبِلي لا عيب فيه، وقد تكرر ذكر الخوف على لسان موسى كثيراً:

فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14].

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67].

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].

فهذا الخوف الجبلي لا حرج فيه، ولا يعاتب به نبي ولا ولي ولا مؤمن.

فمن أين أوتي هذا الإنسان؟!

أوتي من جهله ببقية النصوص الأخرى، وكما قال القائل: (ليتك كمن لا يعلم لقل الخلاف) لكن كلامه يحسب عند المتأخرين قولاً.

كم من أناسٍ لم يكن لهم في العلم أصلاً، ولكن كتبوا وبيَّنوا وتكلموا، فصار قولهم معدوداً في الخلاف لدى المتأخرين الذين جاءوا بعدهم بأزمانٍ متطاولة.

فيقول: إن هذا الحديث يباين العقل السوي، الذي لا يختلف حكمه من رجلٍ إلى رجلٍ على وجه الأرض.

وهذا كذب! لأنه لو كان العقل السوي ضابطاً ما اختلف الخلق؛ لكن تباينت أفهام الخلق لتباين عقولهم، فليس هناك حكم للعقل السوي حتى نقيس عقل المؤمن وعقل الكافر معاً؛ لكن هذا الرجل مشربه على خلاف مشرب أهل السنة وعلى خلاف تلقيهم للعلم.

طعن أهل البدع في حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)

وهو أيضاً يقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله). يقول: هذا مكذوب!

لماذا مكذوب؟

يقول: لأن الإسلام دين اقتناع، ونحن ندل على ذلك بعقولنا جميعاً بأن الدين لم ينتصر بالسيف إنما انتصر بالحجة، فكيف نقول للناس: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)؟! افرض أنهم لا يريدون أن يقولوها، لمَ تقاتلهم وقد قال الله عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] وقال الله عز وجل: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وقال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]؟ فلِمَ نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ندعهم وحريتهم؟!

ولذلك يقول: هذا الحديث معارض للقرآن الكريم -والقرآن هو حجة المسلمين- فلذلك نرد الحديث.

لا والله، نحن نقول: إن آيات القرآن يرد عليها نفس الاعتراض، إذا كان الاعتراض بهذه الصورة فلا يسلم منها حتى آيات القرآن الكريم، مع أن معنى الحديث تؤيده آيات من القرآن الكريم.

(أمرت أن أقاتل الناس): الناس رجلان:

- مؤمنٌ.

- وكافر.

فالمؤمن غير داخل تحت الحديث.

يبقى الكافر وهو قسمان:

- قسمٌ مداهن على استعداد أن يدفع الجزية، فلا يقاومنا، فهذا لا إشكال فيه.

- قسم لا يريد أن يدفع الجزية، ولا يريد أن أنشر ديني.

فهذا هو الذي عناه الحديث، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، إذا أعطوا الجزية فلا نقاتلهم، وإذا لم يعطوا الجزية نقاتلهم.

إذاً: الصنف الذي عناه الحديث: الذين لا يعطون الجزية ومع ذلك يقفون حجر عثرة في طريق المسلمين.

فالحديث موافق للآية؛ لكنه نظر بجهله إلى لفظ (الناس) فقال ما قال. ولفظ (الناس) هنا لفظٌ عام يفيد الخصوص، كقول الله تبارك وتعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27].

والناس هنا: هم خصوص المسلمين، ومما يدل على ذلك ما رواه النسائي وأبو داود قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله).

انظر! لا تعارض أبداً بين حديث صحيح وبين آيةٍ في كتاب الله عز وجل، إذ لا يتعارض البيان مع المبيَّن، الرسول عليه الصلاة والسلام كلامُه بمنزلة البيان للقرآن، فكيف يتعارض معه؟!

فذكر حديث موسى عليه السلام مع ملك الموت، فهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وصححه كذلك الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت على موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، فصكَّه ففقأ عينه، فصعد إلى الله عز وجل وقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فرد الله عليه بصره، فقال: ارجع إلى عبدي، فقل له: آلحياةَ تريد؟! ضَعْ يدك على متن ثورٍ، فلك بكل شعرةٍ مسَّتها يداك سنة. فقال موسى: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت! قال: فالآن).

فيقول: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف بنبي من أولي العزم؟!

يقول: إن هذه مجرد دعوى.

يدل على ضد هذا حديثان:

هو يقول: إن عباد الله الصالحين يحبون الموت.

نحن نقول: لا. يدل على هذا الحديث الإلهي حديث: (مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، في هذا الحديث (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته).

فهذا دليل على أن عباد الله المؤمنين يكرهون الموت.

والحديث الآخر حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة : يا رسول الله! كلنا يكره الموت). هكذا (كلنا)، وعند العلماء: الجملة الكلية الموجزة من أقوى الجمل في إفادة العموم؛ لأن لفظ (كل) تفيد العموم، فهي قالت: (كلنا يكره الموت) فلو كان عباد الله المؤمنون لا يكرهون الموت لقال: (لا يا عائشة ! ليس كل الناس يكره الموت) أما وقد أقرها عليه الصلاة والسلام على ذكر هذه الكلية، فهذا يدل على أن عباد الله عز وجل يكرهون الموت، ولا عيب في ذاك؟

كما أن الخوف الجِبِلي لا عيب فيه، وقد تكرر ذكر الخوف على لسان موسى كثيراً:

فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14].

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67].

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].

فهذا الخوف الجبلي لا حرج فيه، ولا يعاتب به نبي ولا ولي ولا مؤمن.

فمن أين أوتي هذا الإنسان؟!

أوتي من جهله ببقية النصوص الأخرى، وكما قال القائل: (ليتك كمن لا يعلم لقل الخلاف) لكن كلامه يحسب عند المتأخرين قولاً.

كم من أناسٍ لم يكن لهم في العلم أصلاً، ولكن كتبوا وبيَّنوا وتكلموا، فصار قولهم معدوداً في الخلاف لدى المتأخرين الذين جاءوا بعدهم بأزمانٍ متطاولة.

فيقول: إن هذا الحديث يباين العقل السوي، الذي لا يختلف حكمه من رجلٍ إلى رجلٍ على وجه الأرض.

وهذا كذب! لأنه لو كان العقل السوي ضابطاً ما اختلف الخلق؛ لكن تباينت أفهام الخلق لتباين عقولهم، فليس هناك حكم للعقل السوي حتى نقيس عقل المؤمن وعقل الكافر معاً؛ لكن هذا الرجل مشربه على خلاف مشرب أهل السنة وعلى خلاف تلقيهم للعلم.