عجباً يا بلد الأزهر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

لا يقضى على البدعة إلا بالحجة والعلم

بمناسبة الكلام على البدعة على حجم محنة المسلمين في تمييزهم هذا الباب الوحيد في وسط أبواب عليها دعاة أقوياء، والمحنة لها حجم آخر، وذلك أن دعاة الحق مع قلتهم قد يبطلون دعوة الحق بعدم الإجادة، وبعدم إقامة الدليل وإقناع المستمع أو طالب الحجة ببعض الدلالة.

داعية الضلال قد تجده قوي العبارة والحجة، ويعتمد اعتماداً أساسياً على الشبهات، بحيث إنه يحيرك في بعض البلاد التي لا تجد فيها داعية حق واحد، وقد تجده ولكن عنده ضعف في اللسان، فتزداد حجم المحنة بأن الباب غير مميز بالنسبة للناظر الأزهري، وفي نفس الوقت الرجل الذي يقف على هذا الباب لا يحسن عرض الحجة ولا الحق الذي معه.

إنما أقول هذا الكلام وأكرر الدعوة التي كررتها كثيراً حتى قلتُ مرة: إن حلقي جف من كثرة الدعوة إليها مع عدم الاستجابة من الجماهير حتى هذه اللحظة التي أنبه فيها، الاستجابة لا تشكل أكثر من نصف في المائة، وهذا يبين لك حجم المحنة أكثر وأكثر، نصف في المائة، الدعوة التي أدعو إليها دائماً. أقول:

يا جماعة المسلمين! فرغوا طلبة العلم لمصلحتكم، طالب العلم الذي يعمل أكثر من عشر ساعات في اليوم ويعطي العلم والدعوة فضل وقته، هذا لا يمكن أن تأتي من خلفه ثمرة محترمة.

لماذا لا تفرغون؟ انظروا إلى النصارى يفعلون ذلك، واليهود يفعلون ذلك، عندهم رءوس أموال موقوفة، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى القس في الكنيسة، وإلى إمام أو خطيب المسجد عند المسلمين، ترى مهزلة بمعنى الكلمة.

من المسئول عن عجز الخطباء والدعاة

ما معني أن يكون رجل ساكن في عين شمس ويخطب الجمعة في حلوان وهو كفيف البصر، ما معنى هذا الكلام؟ رجل كفيف البصر يسافر من عين شمس؛ لكي يخطب الجمعة في حلوان على بعد (30كم) يتعلق بمواصلتين وثلاثة، هل عين شمس خلت من المساجد؟ لماذا لا يخطب هذا الرجل في عين شمس، ورجل حلوان يخطب في حلوان؟

ثم تنظر إلى البدلات التي تصرف للأئمة، نحن على يقين أن أكثر من (95%) من خطباء الأوقاف جهلة، والمسألة مزدوجة، أي: ليس الذنب عليهم دائماً، لَمَّا يُعْطَوا (10) جنيهات (بدل كتب) لو أراد أن يشتري كتاب فتح الباري مثلاً وهو كتاب قاموس السنة، والإنسان لا يستغني عنه أو أي باحث في العلم، الكتاب هذا بـ(250) أو (240)، يعني: أنه يظل سنتين يسدد أقساط كتاب واحد إذا وافق البائع على ذلك، مع أننا يمكننا أن ننفق مائة ألف أو تزيد في استقبال واحد من النصارى: مرحباً بالضيوف، مائة ألف، بئر معطلة وقصر مشيد، بئر لا ماء فيها، وقصر مشيد، المائة ألف التي تنفق في كل ضاحية وكل حي، لو جاءوا بها بكتب لهؤلاء الناس، حتى يعلموهم شيئاً؛ لكن وبكل أسف! الذي يصعد هذا المنبر لا يدري أبجديات الإسلام، قد يكون ذكياً ومحصلاً، ومحباً لدينه، ويتمنى أن يخدم؛ لكن ليس عنده علم.

كثير من هؤلاء الشباب يسألونني سؤالاً واحداً: ما حكم الشرع في (الهروب) من الدروس؟ هو له جدوى كل يوم لا بد أن يعطي درساً بين المغرب والعشاء في المسجد المعين فيه.

هذا الرجل من أين سيأتي بالكلام؟

ليس عنده كلام، إن الذي يقدر أن يعمله أنه يزوغ من الدرس، لأنه سيحرم نفسه، يصعد ماذا يقول؟

يقول مثل أشعب! المحتال الطفيلي الذي ذكر الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد قالوا: يا أشعب! أدركت الناس والطبقة -أي: التابعين- ولا تزال تجري على الموائد وعلى بطنك، فقد أدركتَ عكرمة والناس، فهلا عقدت مجلساً للعلم يُنْسَأ به أثرك، وتنبل في الناس؟ قال: أفعل إن شاء الله، وحدد موعداً للدرس، وجلس، واجتمع الناس من كل حدب ينسلون - أشعب مدرساً، يعني: هذه أعجوبة من الأعاجيب، حتى يكون هناك من يستفيد من أشعب كيف سيتكلم؟!- فوقف على المنبر وقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس -يا له من إسناد عالٍ بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إسناد فقط، هذا هو الإسناد العالي المشرف، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان في المؤمن إن أحرزهما دخل الجنة .) ثم سكت، قالوا: هيه! يا أشعب ، قال: أما الأولى فنسيها عكرمة ، وأنا نسيت الثانية.

فالرجل ليس عنده كتب وليس عند زاد يتزود منه، كل يوم درس؟ أهو ابن تيمية، سيأتي بكلام من أين؟ كل يوم درس؟

فيجيء الشاب الذي من المفروض أنه يعلم الناس الدين، فيهرب ويريد أن يسأل عن حكم الشرع في (الهرب)، عندما يكون هذا هو الإمام المقتدى به، لذلك أقل القليل من المساجد هي التي تقوم برسالتها وواجبها، لكن أغلب المساجد فقدت أهميتها وقيمتها وصارت مجرد مكان لإقامة الصلاة.

إذاً: عندما يكون هؤلاء جميعاً وفيهم طلبة نابهون ويقول: إن الجهل الذي وقعوا فيه ليسوا هم السبب فيه، يعني: هم أحياناً مظلومون، وهؤلاء يحتاجون إلى مراجع، من الذي يوفر لهم المراجع؟

صعوبة الحصول على المخطوطات في بلاد المسلمين

هناك ظاهرة حتى أبين لك حجم المحنة أيضاً، مخطوطات المسلمين مفرقة في بلاد الكفر كلها، ما من بلد من بلاد الكفر إلا وفيه مخطوطات للمسلمين، ما علينا من بلاد الكفر، دعنا نحن في البلاد مثل بلادنا وتركيا، ومثل هذه البلاد التي تزخر بدور المخطوطات، عندما أذهب أنا كباحث في الحديث، أو أنت كباحث في الفقه، أو هذا كباحث في اللغة، أو هذا في التفسير أو هذا في الأصول، ويريد أن يحقق كتاباً لينشره بين المسلمين، فإذا أراد أن يحصل على المخطوط، فإنه لا بد أن يريق ماء وجهه ذلاً للموظف في المكتبة، وأنا لا أذهب بكم بعيداً، أقول لكم جزءاً من محنتي في تحقيق تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله:

فأنا أحقق تفسير الحافظ ابن كثير ، على أكثر من عشرين مخطوطة، بعضها يرجع إلى حياة الحافظ ابن كثير نفسه، أقدم مخطوطة عندي تاريخها سنة (759هـ)، وابن كثير مات سنة (774هـ) قرابة خمسة عشر سنة، وهناك مخطوطة مكتوبة سنة (825هـ)، موجودة في المكتبة الأزهرية بالقاهرة ، وهذه المخطوطة نشرت عنها طبعة دار الشعب التي هي ثمانية مجلدات، فأردت أن أحصل على المخطوط فذهبنا إلى المكتبة:

- قال: المخطوطات في الشماعة.

- لماذا؟

- نحن أصلاً سننقل إلى حديقة الخالدين، ولستُ عارفاً ماذا، وكلاماً من هذا.

هذا الكلام عمره خمس سنوات.

المهم أننا دخلنا على الموظف وجئنا بواسطات وما إليها.

قال: يمكن نخرج لكم المخطوطة لكن لا بد من إمضاء شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق رحمه الله، واستطعنا بالواساطات أن نصل إلى مدير مكتب شيخ الأزهر وهو أخ فاضل، وكتبنا التماساً، ووصل الالتماس بالفعل على حسب ما قال صاحبنا إلى مكتب الشيخ رحمه الله.

ومع ذلك كلما نتابع الخبر ما استطعنا على الإطلاق إلى لحظة هذا الكلام أن نحصل على المخطوط، ساومنا: طيب! نحن على استعداد أن نأتيكم بمخطوطة نفيسة غير موجودة في المكتبة أبداً عندكم، وتقايضونا بالنسخة، وندفع على الورقة تسعين قرشاً مقبل تصوير المخطوطة، وتفسير ابن كثير الطبعة التي هي موجودة في المكتبة الأزهرية ثمانية مجلدات، كل مجلد أكثر من ثلاثمائة ورقة وجه وظهر، فالمجلد الواحد يمكن أن تكون تكلفته ثلاثمائة جنيه، أو خمسمائة تقريباً، وعندها (500 × 8 مجلدات) يمكن أن ندفع أربعة آلاف جنيه مقابل تصوير، ولم نحصل على مخطوط.

قالوا: لا بأس.

فذهبنا -لست أنا طبعاً إنما أنا أوكل، وطبعاً كل شيء بفلوس، فأنا قلت: أوكل، أليس كذلك؟ فمكتبة الجامع الكبير في اليمن في صنعاء فيها نسخة نفيسة لتفسير فتح القدير الجامع بين الدراية والرواية في علم التفسير للشوكاني رحمه الله، وهذه المخطوطة بخط تلميذ الشوكاني ، وقُرِئت على الشوكاني في حياته، والشوكاني له تعليقات على هامش النسخة، وتعتبر هذه النسخة نفيسة جداً، وتقع في أربعة مجلدات ضخام، وصُوِّرت بمبلغ وقدره ...

بعدما جئنا بالنسخة وعرضناها على المكتبة قالوا: لا، لا، لا، لا، لا. هذا رجل حديث، نحن نريد مخطوطة عريقة، يعني: عمرها تسعمائة سنة أو ثمانمائة سنة.

- يا جماعة! هذه النسخة ليست عندكم!

وذهبت كل هذه النفقات سدىً، وعجزنا حتى الساعة أن نصور نسخة.

أنا أقول لكم واثقاً غير متلجلج: لو أن هذه المخطوطة في تل أبيب، لكنت قد جئت بها في اليوم الثاني، أقولها غير متلجلج وبكل أسف، أنا أريد مخطوطة، أتصل مثلاً بـالأنتريال بـأسبانيا : أريد المخطوطة الفلانية بالرقم الفلاني، أحول تصويراً بالدولار عليهم فتصل إلي المخطوطة من أسبانيا، على أحسن تصوير وأفخم ورق بعد أسبوع واحد!

فإذا كان هذا حال القائمين على الكتاب، ونحن لسنا في دار كتب، ولا نأخذ المخطوطات نُثْري بها، ولا نبيع بالدولار ولا بأي ماركة من الماركات، إنما نأخذ هذا المخطوط ونواصل الليل بالنهار ويجفو عيونَنا النوم، لفظة واحدة يمكن أن أظل أسبوعاً كاملاً أحقق فيها، هل هي بالنون أم بالباء؟ النقطة فوق أم تحت؟ لأنه سينبني على هذا حكم شرعي، وأنا مؤتمن على تراث المسلمين، وسيصعد واحد فقيه يأخذ هذا الكتاب ويحتج بهذه اللفظة ويعتبرها من الألفاظ المحفوظة، ويبني عليها الحكم الشرعي. إذاً: كأنني أسهمت في هذا التضليل، فإذا عجزتُ بعد هذا البحث الطويل العريض عن أن أرجح هل هي بالنون أم بالباء، أكتب كل ملحوظاتي في الحاشية، وأنني نظرت في الكتاب الفلاني، والكتاب العلاني، ويترجح لي في النهاية كأنها بالباء أشبه، أو كأنها بالنون أشبه، وليحرر هذا الموضع.

فمن الذي يقوم بهذا الجهد، إذا كان لا يوجد في المسلمين من يقوم بهذا، وهذا تراثنا، وهذا ديننا كله؟! ومن يحاول إخراج المسلمين مرة ثانية؟!

هل المسلمون بعد سماع مثل هذا الكلام سيفهمون؟ وهذا قُل مِن جُل، المعاناة أكثر بكثير جداً إذا كانت المخطوطة وحيدة، مثلاً لو أن عندك خمس أو ست مخطوطات، فمن الممكن لو كان ثمة طمس في المخطوطة أن تجده في مخطوطة ثانية شبيهة، تُصَوِّر المخطوطات من بعضها؛ لكن لو كانت مخطوطة واحدة في العالم ليس لها شبيه وفيها طمس، أو الناسخ استعجل، أو غفل وهو يكتب، ولا تستطيع أن تراجع هذا في مخطوطة أخرى، فهذا عذاب أليم.

فمن الذي يقوم بهذا الجهد؟!

بمناسبة الكلام على البدعة على حجم محنة المسلمين في تمييزهم هذا الباب الوحيد في وسط أبواب عليها دعاة أقوياء، والمحنة لها حجم آخر، وذلك أن دعاة الحق مع قلتهم قد يبطلون دعوة الحق بعدم الإجادة، وبعدم إقامة الدليل وإقناع المستمع أو طالب الحجة ببعض الدلالة.

داعية الضلال قد تجده قوي العبارة والحجة، ويعتمد اعتماداً أساسياً على الشبهات، بحيث إنه يحيرك في بعض البلاد التي لا تجد فيها داعية حق واحد، وقد تجده ولكن عنده ضعف في اللسان، فتزداد حجم المحنة بأن الباب غير مميز بالنسبة للناظر الأزهري، وفي نفس الوقت الرجل الذي يقف على هذا الباب لا يحسن عرض الحجة ولا الحق الذي معه.

إنما أقول هذا الكلام وأكرر الدعوة التي كررتها كثيراً حتى قلتُ مرة: إن حلقي جف من كثرة الدعوة إليها مع عدم الاستجابة من الجماهير حتى هذه اللحظة التي أنبه فيها، الاستجابة لا تشكل أكثر من نصف في المائة، وهذا يبين لك حجم المحنة أكثر وأكثر، نصف في المائة، الدعوة التي أدعو إليها دائماً. أقول:

يا جماعة المسلمين! فرغوا طلبة العلم لمصلحتكم، طالب العلم الذي يعمل أكثر من عشر ساعات في اليوم ويعطي العلم والدعوة فضل وقته، هذا لا يمكن أن تأتي من خلفه ثمرة محترمة.

لماذا لا تفرغون؟ انظروا إلى النصارى يفعلون ذلك، واليهود يفعلون ذلك، عندهم رءوس أموال موقوفة، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى القس في الكنيسة، وإلى إمام أو خطيب المسجد عند المسلمين، ترى مهزلة بمعنى الكلمة.

ما معني أن يكون رجل ساكن في عين شمس ويخطب الجمعة في حلوان وهو كفيف البصر، ما معنى هذا الكلام؟ رجل كفيف البصر يسافر من عين شمس؛ لكي يخطب الجمعة في حلوان على بعد (30كم) يتعلق بمواصلتين وثلاثة، هل عين شمس خلت من المساجد؟ لماذا لا يخطب هذا الرجل في عين شمس، ورجل حلوان يخطب في حلوان؟

ثم تنظر إلى البدلات التي تصرف للأئمة، نحن على يقين أن أكثر من (95%) من خطباء الأوقاف جهلة، والمسألة مزدوجة، أي: ليس الذنب عليهم دائماً، لَمَّا يُعْطَوا (10) جنيهات (بدل كتب) لو أراد أن يشتري كتاب فتح الباري مثلاً وهو كتاب قاموس السنة، والإنسان لا يستغني عنه أو أي باحث في العلم، الكتاب هذا بـ(250) أو (240)، يعني: أنه يظل سنتين يسدد أقساط كتاب واحد إذا وافق البائع على ذلك، مع أننا يمكننا أن ننفق مائة ألف أو تزيد في استقبال واحد من النصارى: مرحباً بالضيوف، مائة ألف، بئر معطلة وقصر مشيد، بئر لا ماء فيها، وقصر مشيد، المائة ألف التي تنفق في كل ضاحية وكل حي، لو جاءوا بها بكتب لهؤلاء الناس، حتى يعلموهم شيئاً؛ لكن وبكل أسف! الذي يصعد هذا المنبر لا يدري أبجديات الإسلام، قد يكون ذكياً ومحصلاً، ومحباً لدينه، ويتمنى أن يخدم؛ لكن ليس عنده علم.

كثير من هؤلاء الشباب يسألونني سؤالاً واحداً: ما حكم الشرع في (الهروب) من الدروس؟ هو له جدوى كل يوم لا بد أن يعطي درساً بين المغرب والعشاء في المسجد المعين فيه.

هذا الرجل من أين سيأتي بالكلام؟

ليس عنده كلام، إن الذي يقدر أن يعمله أنه يزوغ من الدرس، لأنه سيحرم نفسه، يصعد ماذا يقول؟

يقول مثل أشعب! المحتال الطفيلي الذي ذكر الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد قالوا: يا أشعب! أدركت الناس والطبقة -أي: التابعين- ولا تزال تجري على الموائد وعلى بطنك، فقد أدركتَ عكرمة والناس، فهلا عقدت مجلساً للعلم يُنْسَأ به أثرك، وتنبل في الناس؟ قال: أفعل إن شاء الله، وحدد موعداً للدرس، وجلس، واجتمع الناس من كل حدب ينسلون - أشعب مدرساً، يعني: هذه أعجوبة من الأعاجيب، حتى يكون هناك من يستفيد من أشعب كيف سيتكلم؟!- فوقف على المنبر وقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس -يا له من إسناد عالٍ بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إسناد فقط، هذا هو الإسناد العالي المشرف، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان في المؤمن إن أحرزهما دخل الجنة .) ثم سكت، قالوا: هيه! يا أشعب ، قال: أما الأولى فنسيها عكرمة ، وأنا نسيت الثانية.

فالرجل ليس عنده كتب وليس عند زاد يتزود منه، كل يوم درس؟ أهو ابن تيمية، سيأتي بكلام من أين؟ كل يوم درس؟

فيجيء الشاب الذي من المفروض أنه يعلم الناس الدين، فيهرب ويريد أن يسأل عن حكم الشرع في (الهرب)، عندما يكون هذا هو الإمام المقتدى به، لذلك أقل القليل من المساجد هي التي تقوم برسالتها وواجبها، لكن أغلب المساجد فقدت أهميتها وقيمتها وصارت مجرد مكان لإقامة الصلاة.

إذاً: عندما يكون هؤلاء جميعاً وفيهم طلبة نابهون ويقول: إن الجهل الذي وقعوا فيه ليسوا هم السبب فيه، يعني: هم أحياناً مظلومون، وهؤلاء يحتاجون إلى مراجع، من الذي يوفر لهم المراجع؟

هناك ظاهرة حتى أبين لك حجم المحنة أيضاً، مخطوطات المسلمين مفرقة في بلاد الكفر كلها، ما من بلد من بلاد الكفر إلا وفيه مخطوطات للمسلمين، ما علينا من بلاد الكفر، دعنا نحن في البلاد مثل بلادنا وتركيا، ومثل هذه البلاد التي تزخر بدور المخطوطات، عندما أذهب أنا كباحث في الحديث، أو أنت كباحث في الفقه، أو هذا كباحث في اللغة، أو هذا في التفسير أو هذا في الأصول، ويريد أن يحقق كتاباً لينشره بين المسلمين، فإذا أراد أن يحصل على المخطوط، فإنه لا بد أن يريق ماء وجهه ذلاً للموظف في المكتبة، وأنا لا أذهب بكم بعيداً، أقول لكم جزءاً من محنتي في تحقيق تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله:

فأنا أحقق تفسير الحافظ ابن كثير ، على أكثر من عشرين مخطوطة، بعضها يرجع إلى حياة الحافظ ابن كثير نفسه، أقدم مخطوطة عندي تاريخها سنة (759هـ)، وابن كثير مات سنة (774هـ) قرابة خمسة عشر سنة، وهناك مخطوطة مكتوبة سنة (825هـ)، موجودة في المكتبة الأزهرية بالقاهرة ، وهذه المخطوطة نشرت عنها طبعة دار الشعب التي هي ثمانية مجلدات، فأردت أن أحصل على المخطوط فذهبنا إلى المكتبة:

- قال: المخطوطات في الشماعة.

- لماذا؟

- نحن أصلاً سننقل إلى حديقة الخالدين، ولستُ عارفاً ماذا، وكلاماً من هذا.

هذا الكلام عمره خمس سنوات.

المهم أننا دخلنا على الموظف وجئنا بواسطات وما إليها.

قال: يمكن نخرج لكم المخطوطة لكن لا بد من إمضاء شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق رحمه الله، واستطعنا بالواساطات أن نصل إلى مدير مكتب شيخ الأزهر وهو أخ فاضل، وكتبنا التماساً، ووصل الالتماس بالفعل على حسب ما قال صاحبنا إلى مكتب الشيخ رحمه الله.

ومع ذلك كلما نتابع الخبر ما استطعنا على الإطلاق إلى لحظة هذا الكلام أن نحصل على المخطوط، ساومنا: طيب! نحن على استعداد أن نأتيكم بمخطوطة نفيسة غير موجودة في المكتبة أبداً عندكم، وتقايضونا بالنسخة، وندفع على الورقة تسعين قرشاً مقبل تصوير المخطوطة، وتفسير ابن كثير الطبعة التي هي موجودة في المكتبة الأزهرية ثمانية مجلدات، كل مجلد أكثر من ثلاثمائة ورقة وجه وظهر، فالمجلد الواحد يمكن أن تكون تكلفته ثلاثمائة جنيه، أو خمسمائة تقريباً، وعندها (500 × 8 مجلدات) يمكن أن ندفع أربعة آلاف جنيه مقابل تصوير، ولم نحصل على مخطوط.

قالوا: لا بأس.

فذهبنا -لست أنا طبعاً إنما أنا أوكل، وطبعاً كل شيء بفلوس، فأنا قلت: أوكل، أليس كذلك؟ فمكتبة الجامع الكبير في اليمن في صنعاء فيها نسخة نفيسة لتفسير فتح القدير الجامع بين الدراية والرواية في علم التفسير للشوكاني رحمه الله، وهذه المخطوطة بخط تلميذ الشوكاني ، وقُرِئت على الشوكاني في حياته، والشوكاني له تعليقات على هامش النسخة، وتعتبر هذه النسخة نفيسة جداً، وتقع في أربعة مجلدات ضخام، وصُوِّرت بمبلغ وقدره ...

بعدما جئنا بالنسخة وعرضناها على المكتبة قالوا: لا، لا، لا، لا، لا. هذا رجل حديث، نحن نريد مخطوطة عريقة، يعني: عمرها تسعمائة سنة أو ثمانمائة سنة.

- يا جماعة! هذه النسخة ليست عندكم!

وذهبت كل هذه النفقات سدىً، وعجزنا حتى الساعة أن نصور نسخة.

أنا أقول لكم واثقاً غير متلجلج: لو أن هذه المخطوطة في تل أبيب، لكنت قد جئت بها في اليوم الثاني، أقولها غير متلجلج وبكل أسف، أنا أريد مخطوطة، أتصل مثلاً بـالأنتريال بـأسبانيا : أريد المخطوطة الفلانية بالرقم الفلاني، أحول تصويراً بالدولار عليهم فتصل إلي المخطوطة من أسبانيا، على أحسن تصوير وأفخم ورق بعد أسبوع واحد!

فإذا كان هذا حال القائمين على الكتاب، ونحن لسنا في دار كتب، ولا نأخذ المخطوطات نُثْري بها، ولا نبيع بالدولار ولا بأي ماركة من الماركات، إنما نأخذ هذا المخطوط ونواصل الليل بالنهار ويجفو عيونَنا النوم، لفظة واحدة يمكن أن أظل أسبوعاً كاملاً أحقق فيها، هل هي بالنون أم بالباء؟ النقطة فوق أم تحت؟ لأنه سينبني على هذا حكم شرعي، وأنا مؤتمن على تراث المسلمين، وسيصعد واحد فقيه يأخذ هذا الكتاب ويحتج بهذه اللفظة ويعتبرها من الألفاظ المحفوظة، ويبني عليها الحكم الشرعي. إذاً: كأنني أسهمت في هذا التضليل، فإذا عجزتُ بعد هذا البحث الطويل العريض عن أن أرجح هل هي بالنون أم بالباء، أكتب كل ملحوظاتي في الحاشية، وأنني نظرت في الكتاب الفلاني، والكتاب العلاني، ويترجح لي في النهاية كأنها بالباء أشبه، أو كأنها بالنون أشبه، وليحرر هذا الموضع.

فمن الذي يقوم بهذا الجهد، إذا كان لا يوجد في المسلمين من يقوم بهذا، وهذا تراثنا، وهذا ديننا كله؟! ومن يحاول إخراج المسلمين مرة ثانية؟!

هل المسلمون بعد سماع مثل هذا الكلام سيفهمون؟ وهذا قُل مِن جُل، المعاناة أكثر بكثير جداً إذا كانت المخطوطة وحيدة، مثلاً لو أن عندك خمس أو ست مخطوطات، فمن الممكن لو كان ثمة طمس في المخطوطة أن تجده في مخطوطة ثانية شبيهة، تُصَوِّر المخطوطات من بعضها؛ لكن لو كانت مخطوطة واحدة في العالم ليس لها شبيه وفيها طمس، أو الناسخ استعجل، أو غفل وهو يكتب، ولا تستطيع أن تراجع هذا في مخطوطة أخرى، فهذا عذاب أليم.

فمن الذي يقوم بهذا الجهد؟!


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع