احذروا خطوات الشيطان [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ،ح.

وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وخبيب بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلاً المسجد؛ فاستلمته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم.. وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام).

قوله: (يا محمد) ناداه باسمه حتى يظن الصحابة أنه من جفاة الأعراب، وهم يمتازون بالغلظة والشدة قال الله عن بعضهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] .. لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً النور:63] لا تقولوا: يا محمد، حتى الكنية نفسها -وكنيته عليه الصلاة والسلام أبو القاسم- ثبت عنه من طرق كالجبل الأشم أنه قال: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لكن أهل العلم على خلاف في هذه المسألة، فمنهم من رأى تحريم التكني بكنيته، ومنهم من رأى جواز ذلك، وإنما اختلفوا في العلة: فمن نصب علة فقال -كما ورد في الحديث- إن سبب قول هذا الحديث أن رجلاً نادى آخر، فقال: يا أبا القاسم! ينادي صاحبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك! فقال: لم أعنك، أي: أنا أقصد رجلاً آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) لأن نداءه هو السبب وقد زال السبب بموته صلى الله عليه وسلم.

فحينئذ الحكم يدور مع العلة وجوداًوعدماً، فحيث وجدت العلة وجد الحكم، وحيث انتفت العلة انتفى الحكم، وقد انتفت العلة، هذا كلامهم، لذلك قالوا: لا نرى بأساً أن يدعى الرجل بأبي القاسم، وعليه فقد تكنى بها جماعة من العلماء والمحدثين من أشهرهم أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وابن عساكر صاحب التاريخ الكبير الذي هو تاريخ دمشق طبع منه خمس وستين مجلداً حتى الآن.

من كرامة الرجل أن تناديه بكنيته، أو تناديه بلقبه، لا تناديه بالاسم، فالأعراب كانوا ينادون: يا محمد! فقال الله عز وجل لهم: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني: إذا أردت أن تنادي فلا تقل: يا محمد! بل يجب أن تعظمه، فإما أن تناديه بكنيته فتقول: يا أبا القاسم، أو تناديه بلقبه فتقول: يا رسول الله! فقال: (يا محمد!) زيادة في تعمية أمره، وكأنه أعرابي من الجهال، قال: (أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).

وسنقف مع كل ركن من هذه الأركان، أولاً: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ما معنى أن تشهد؟ قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [السجدة:6]، إذاً: الغيب ضد الشهادة، فالغيب هو ما غاب عنك، والشهادة ما ترى بعينك، فالشهادة هنا: هي الرؤيا، أو كأنها الرؤيا، وهذا يرسلنا مباشرةً إلى آخر الحديث عندما قال له أخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه ..).

ولما جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك)، فهل يستطيع رجلٌ منا أن يقوم قلبه على مشهدٍ من مشاهد العصيان ويراه أحد؟ لا يستطيع ولا يقوى قلب إنسان أن يقوم بالمعصية وأحد يراه، ولذلك يحرز نفسه إذا أراد أن يعصي، فتراه يغلق الباب والنافذة ويأمن نفسه، ويتعرف على مواعيد خروج ودخول الآخرين، ثم يقوم بعمل هذه المعصية.

(أن تعبد الله كأنك تراه): يعني: إذا اعتقدت أن الله يراك، وقام قلبك لهذا المشهد، فلا يمكن أن يقوى قلبك على العصيان ألبتة، فليس معنى أن تشهد أن لا إله إلا الله أن الأمر انتهى، ليس هذا معنى الشهادة، فالكلمة أنت قلتها، ولكن الشهادة يشترط فيها العلم والصدق، قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، إذاً: لابد أن تشهد بحقٍ وبعلم.

إذاً: تحقيق معنى الشهادة: أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى يراك.

يعني مثلاً: هناك بعض الإخوة يمكن أن يصلي الفجر وأخذ شكل الالتزام الظاهر، لكن عنده بلايا قديمة لم يستطع أن يتخلص منها حتى الآن، فهو قد قلل من الذنب، كان يفعله جهاراً فأصبح يفعله سراً، والتدخين مثلاً، بعض الناس مبتلون بالتدخين، فتنظر إليه تجده متسنناً، وتراه لا يترك صلاة في المسجد، وتراه رجلاً منافحاً عن السنة، ونحن لا نقول: إنه بهذه المعصية لا يحب الله ورسوله؛ فإن محبة الله ورسوله قد تجتمع مع العصيان، فقد جاء في البخاري وغيره: (أن رجلاً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر، فقال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال له رجلٌ: لعنك الله! فقال: لا تعن الشيطان على أخيك).

وفي رواية خارج الصحيحين قال: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)، وحديث آخر في الصحيح أيضاً: أنه لما لمزه شخص وقال إنه من المنافقين قال: (إنه يحب الله ورسوله)، فالإنسان قد يحب الله ورسوله وتجتمع فيه شعبة من شعب المعاصي، أي: أنه يفعل معصية وهو يحب الله ورسوله، لكنه حبٌ غير تام، إذ لو أحب الله عز وجل لاستحيا أن يبارز الله بالعصيان، ثم قارف العصيان من خلف الجدار حياء من الناس.

فكلمة (أشهد أن لا إله إلا الله) ينبغي أن يقوم قلبك بمعنى الشهادة فيها، كأن الله يراك، فإذا وصلت إلى هذا المعنى فقد حققت معنى (أشهد أن لا إله إلا الله).

(وأشهد أن محمداً رسول الله) يعني أن تشهد أيضاً أن محمداً رسول الله، ونفس المعنى أن تشهد كل حديث يأتيك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتعتبر أنه هو الذي يأمرك وأنت واقف أمامه تشهده وتنظر إليه.

مثلاً أنا رجل ثقة ولم تجربوا علي كذباً، وقلت لكم -وأنا أعلم الصحيح من الضعيف- صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت حديثاً لم أصححه أنا فحسب، وإنما أجمعت الأمة على صحته، فما أنا إلا مبلغ، فقلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، لماذا لا تبادر إلى فعله؟ نحن لن نحقق معنى الشهادة إلا بالاتباع.

ما هو الفرق بين أن يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: افعل! وبين أن يقول لك أحد أصحابه أو أتباعه: افعل؟! وهل تواجده عليه الصلاة والسلام شرطٌ في البلاغ، فلقد كان يرسل أصحابه إلى الآفاق بدعوة الإسلام، وكان يقاتل الذين لا يستجيبون لدعوة الإسلام على لسان فردٍ من أصحابه، وكان يصدق صاحبه فيما قال، فإذا قال: إن هؤلاء ردوا الإسلام، أرسل لهم بدفع الجزية، فإذا رجع صاحبه وقال: أبوا أن يدفعوا الجزية جهز الجيش وذهب ليغزوهم بخبر واحد، ولا نعلم أن واحداً من الذين أرسل إليهم في الآفاق قال لأحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: يشترط أن يأتينا بنفسه، ما قال أحد هذا الكلام، إنما تقوم الحجة بالمبلغ، وقد نقل ابن القيم رحمه الله: إجماع الأمة على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته إلى سنته، ولا يعلم سنته إلا العلماء، فإذا قال العالم: افعل كذا، فما الذي يصدك عن الاتباع؟!

فلو أني قلت لك: -وهذا المثال دائماً ما أطرحه، وطرحته في هذا المسجد أكثر من مرة، وأطرحه لفائدته، فكل مرة أطرحه أجد له نتيجة، فلعلي عندما أطرحه الآن يأتي بنتيجة أيضاً مع الذين قصروا في الأيام الماضية- لا شك أنه قد يوجد بيننا من ابتلي بلبس خاتم من ذهب، أو دبلة الذهب، فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: رأى رجلاً يلبس خاتماً من ذهب، فنزعه من يده نزعاً شديداً وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرةٍ من نار فيضعها في يده، فلما قام الرجل، قال له بعض الناس: خذ خاتمك انتفع به، قال: ما كنت لآخذه وقد طرحه).

وهو إن أخذه لن يلبسه ولكن سينتفع به، لكنه عظم الأمر، واستعظم كيف يلقي النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم على الأرض ثم يتناوله، كما قيل لـابن عمر عندما سئل: (أيؤكل الغراب؟ فقال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟)، وانظر هنا إلى تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم! والسبب الاتباع، مع أن التسمية قد لا يؤخذ منها تحريم، لكن تسميته بالفاسق وقعها على الأذن ثقيل، والرسول عليه الصلاة والسلام علّم الصحابة فهم واستنباط الأحكام.

وهكذا المسلم الحق يكون على أعلى الدرجات من الذوق، فالذي درس الذوق دراسة حقيقية، يصبح عنده ملكة وسجية.

فالمتكلم أحياناً لا يريد شيئاً لكن يصل إلى غرس بشاعة اللفظ في أذن المستمع.

وانظر مثلاً إلى امرأة فلاح، عندما دخل عليها وهو مغضب جداً، فقالت له: لماذا أنت مغضب؟ فقال لها: مات الحمار، فقالت له: فداك! دخلتك علينا بمائة حمار.

فالمعنى فهم على غير ما كانت تقصد، فهي عندما قالت له: دخلتك علينا بمائة حمار، تعني: أنه لا يهمك، ولكن وقع اللفظ مستبشعاً في أذن المستمع.

فالصحابة ينفعلون لهذه المسألة، فيقولون: (من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!) فلو سألت أي مبتلى بهذا البلاء العظيم وقلت له: توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن موجود، وهو الذي يكلمك قائلاً لك: يا فلان لم تلبس خاتم الذهب؟ انزعه! هل ستنزعه أم لا؟ وأنا لا أظن أن هناك شخصاً سيقول: لا، فلماذا يماطلون معنا؟ لماذا يعذبوننا ويتعبوننا؟ ونأتي بالكلام المنسق والمنظم والمنتقى والأشعار وغيرها.. لماذا هذا كله؟

لأن الشخص المخاطب لم يحقق معنى: أشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد من الشهادة: يعني كأنك تراه! فإذا وصلك أمره عليه الصلاة والسلام فتخيل أنه هو الذي يحدثك؛ لأن هذا يعينك على أن تعظم أمره، فإذا قلنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ... فيجب أن يُعمل به، والصحابة رضي الله عنهم ضربوا أروع الأمثلة في الاتباع؛ بسبب الحب، ونحن دائماً ندندن حول الحب، وأرجو من الإخوة أن يرجعوا مرةً أخرى إلى ما قلناه قبل ذلك عن الانتماء، وأن الانتماء هو ذلك الحب، وتكلمنا عن الحب في عدة خطب؛ لأن الحب هو الباعث على الفعل، إذا كنت محباً فسوف تفعل.

أثر المحبة في الاتباع

فالذي لم يحقق معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قضية الدبلة مثلاً يأتي لك شخص فيقول: أنا سأعمل مشكلة، وأنا إنما ألبسها لأنهم يعاكسونني وكذا.. ولو علموا أن ألبس دبلة فضة سيقولون: كذا وكذا، وهناك بعض الناس يقول مثل هذا الكلام المتهافت، يريد أن يقول: أنا مضطر.

فنقول له: لا تلبس الدبلة الفضة أيضاً؛ لأن المشكلة ليست هي أن تلبس فضة أو ذهباً، ولكن المشكلة أن الدبلة نفسها ليست من شرعنا، فهي اصطلاح نصراني محض، وهكذا اصطلحوا عليه، إذا وضعها في اليمين فهو خاطب، وبعدما يتزوج ينقلها إلى الشمال، فهذا تقليد نصراني ليس من ديننا، فنحن منهيون عن لبس الدبلة أصلاً، رجالاً ونساءً، لا فضة ولا غير فضة.

لكن البس خاتماً، والخاتم زينة الإصبع، فالخاتم نوع من التزيين للإصبع، وسواء لبست فضة أو ألمازاً أو أي معدن من المعادن النفيسة، لكن الذهب لا، والذهب بكل درجاته وكل ألوانه لا، ذهب أبيض أو أصفر، وكل مسمّى الذهب الحقيقي، لأن بعض الناس قد يسمي الشيء بغير اسمه، مثل ما يأتي لك بقماش في السوق ويقول لك: حرير، وهو ليس بحرير، أو ليس بالحرير المنهي عنه، ولكن نحن سميناه زوراً حريراً، ولو أتى بعض الناس فقال: هل ألبس المازاً، وهو أغلى من الذهب؟ نقول له: ليس هناك مانع؛ لأن لديك الصوف وهو أغلى من الحرير، ورغم ذلك تلبس الصوف الغالي وتترك الحرير وإن كان أقل سعراً.

إذاً: الاتباع باعثه الحب، فإذا قلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعظم، فإذا فاتك هذا التعظيم ولم يعلمك إياه أبوك، فعلمه ولدك، فتكون قد قمت بجزء مما عليك، فالولد امتداد لك، وكلما كان الولد صالحاً طال عمرك، لأن الولد الصالح يقال له: الله يرحمك ويرحم والديك! والولد الملعون يلعنونه ويلعنون أباه، فيموت الأب والولد يستجلب اللعنات له، بينما الولد الصالح يستجلب لك الرحمات، فالولد الصالح هو الامتداد لك، بينما الولد الفاسد قُطع أثرك به يوم أن مت وكأنك لم تخلف أصلاً: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] يعني: ليس بابنك، وإنما ابنك هو امتداد لك، فالولد الصالح فقط هو ابنك.

تربية الأولاد على الاتباع

عليك أن تبدأ بتدريب ولدك على تحقيق معنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأنت بذلك تعظم ربك سبحانه وتعالى، فإذا ذكر الله رفعت صوتك في السماء بذلك؛ لأن الولد مثل المسجلة، فإذا ذكرت الله في البيت وسمعك ابنك ولم يتكلم قلت له: لم أنت ساكت هكذا؟ لماذا لم تكبر وتعظم الله؟ وقل هذا الكلام بحماس، فأول ما يسمع الولد لفظ الجلالة يكون متعوداً على التعظيم، فالذكر بالصوت العالي يكون فيه حفاوة، يعني مثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه).

يعني أن صاحب أبيك الذي كان دائماً يأتيه، من أبر البر أن تذهب إليه بعد أن يموت أبوك، وتأخذ معك هدايا وما شابه.

فإذا كنت في حياة أبيك تعرف رجلاً معيناً أو اثنين أو ثلاثة، إذا وصلوا البيت أن أباك يقوم بالترحاب ويقابلهم بالعناق وما شابه، ويقول الكلمة المعتادة: نحن زارنا النبي! وزارنا النبي المقصود بها أنه ليس هناك أغلى منه، يريد أن يقول: ليس هناك أغلى منك، وطبعاً هناك تحفظ على هذا التعبير، لأن هناك أناساً قد تدخلنا في المتنبئين الكذبة، ولا يجوز قول هذا الكلام، وهو من المستبشع في اللفظ ولا يحل ذكره.

فإذا رأيت أباك يعظم أحد أصحابه، يظل تعظيم هذا الصاحب عندك طوال عمرك، وهذا الصاحب يأخذ قدره بقدر ما كان يأخذه في حياة أبيك، وكذلك عليك تعظيم ربك عز وجل وإذا ذكر فحذار من أن تخنس أو تثني عليه بصوت منخفص، ولكن ارفع صوتك، وهلل وكبر، وأمر أولادك أن يرفعوا أصواتهم ويهللوا ويكبروا، وإن كان صغيراً سمع كلامك فيتأثر به.

وإذا ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فقل: أشهد أن محمداً رسول الله، عليه الصلاة والسلام، صلى الله عليه وسلم.. وأحياناً يا أخي قد تدركك العبرة، فأحياناً إن كنت صادقاً تدركك العبرة، فيراك ابنك ويرمق هذه الدمعة منك، فيربط بين الدمعة وبين ذكرك للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بين ذكرك لربك وبين هذه الدمعة؛ فتؤثر فيه.

قال الإمام مالك رحمه الله: كنا نأتي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فإذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه، وهكذا المحب، كلما ذكرته بحبيبه بكي، وهو دائم البكاء؛ في اللقاء يخشى الفراق، وفي الفراق للاشتياق، فطالما حبيبه بعيد يبكي يريد أن يقابله، فإذا قابله بكي، فهو دائم البكاء جيئة وذهاباً.

فهؤلاء الجماعة كانوا معظمين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحققين معنى كلمة (أشهد)، يعني عندما يسمع الكلام يتخيل النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً أمامه وهو كأنه أحد الصحابة ويتلقى الأمر، ويريد أن يشرف نفسه، هل سينفذ الأمر مباشرة أم سيتوانى ويكسل؟ فلو كان الإنسان مستحضراً أن الرسول عليه الصلاة والسلام موجود أمامه، فمن الممكن أن يبكي إذا مس الحديث أوتار قلبه.

إذاً: ممكن أن يربط ابنك بين الدمعة والشهادة فتعظم المسألة عنده، وبعض الناس أراد أن يعلم ابنه حب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا بني! من أغلى الناس؟ فقال له: أنت يا أبي! فقال له: لا. أغلى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمر أمراً ينبغي أن يطاع، وأي أحد في الدنيا يخالفه ويقول شيء غير الذي قاله من ستسمع فيهم؟ فقال له: أسمع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وظل يكرر عليه الكلام.

وابنك -كما قلنا قبل ذلك- لا يستوعب معنى اللفظ كاملاً، لا تظن أنك عندما تقول له هذا الكلام أنه اهتضم مائة بالمائة، وأن الرسول بالفعل أصبح أغلى شخص عنده، وأن كلامه لا يجب أن يخالف، لا. بل هوأخذ منك كلامك على قدر فهمه هو، فإذا خالفك بعد ثانية واحدة فلا تقل له: لم تعاندني؟ هو لم يقصد أن يعاندك ولكن لم يفهم، فلعل عقله لم يستوعب من الكلمة إلا عشرها أو أقل من عشرها، فأنت محتاج إلى أن تكرر الكلمة الواحدة مرة ومرتين وعشر مرات إلى مائة، فكل يوم تقول له: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى واحد هل تخالفه؟ فيقول: لا، ولو خالفه شخص من ستطيع؟ فيقول: الرسول. وكل يوم على هذا المنوال.

وظل الرجل مدة طويلة وهو يقول له هذا الكلام كل يوم حتى حفظها الولد، فأراد أن يختبر الولد يوماً، وهذا بعدما علمه أن الكذب حرام وأن الذي يكذب يغضب منه الرسول.. فجاء شخص ودق الباب فقال له: قل له لست هنا! فالولد مباشرة خرج وقال له: أبي ليس هنا!! لماذا؟ لأن أباه حاضر أمامه، وهذا هو معنى الشهادة.

فالولد يخشى أن يوقع أبوه العقوبة به، فلما أمن الولد جانب العقوبة قال مباشرة: أبي ليس هنا، فمباشرة خرج الرجل ونادى صاحبه وأفهمه الموقف، وبأن هذا الولد أنا أقوم بتدريبه على كذا وكذا، وقلت له كذا وكذا، ثم جئت أختبره.

ثم جاء الولد، فقال له: لماذا قلت للرجل أني لست هنا؟ فقال الولد: أنت قلت لي هكذا، فقال له: ألم أقل لك قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحب الكذب؟! وأن الرسول عندما يقول لا تكذب، وأنا أكذب، فعليك أن تسمع كلام الرسول!!

فلم يضربه، لأنه لو ضربه لكره التعليم، فلا تعاقب ولدك بالصراعات في مقتبل العمر.

ذات مرة أراد أحد المدرسين أن يكون ابنه الأول على المدرسة؛ لأنه مدرس ويحب الطالب المتفوق في الصف، وكل مدرس عنده هذه القضية مستقرة في نفسه، ومهما كلمته عن ملكات الأطفال، وأن مستوى الذكاء متفاوت، يقل لك: لا، لازم يطلع الأول، وتأتي لآخر يريد أن يلبس ابنته الحجاب والبنت لا تريد أن تلبس الحجاب أبداً، فيقول لها: أقسم بعزة الله إن لم تكوني الأولى على المدرسة لألبسنك الحجاب!! أي نكد هذا، يعني لو لم تكن الأولى على المدرسة سنعاقبها ونلبسها الحجاب؟!!

أي تربية هذه، فيحصل انطباع عند البنت بأن الحجاب هذا عقوبة، فتكرهه من قلبها، فلا تجعل العقوبة هي الطاعات وأنت تعلّم الولد، إنما عندما يصير للولد أهلية للثواب والعقاب عاقبه إذا أخطأ، لماذا؟ لأن المعاني ستكون مستقرة عنده، فتقول له: لا تعمل هذه، وهو كبير عمره خمس عشرة أو عشرين سنة، فيفهم الموقف، لكن إذا كان الولد صغيراً وقلت له: لا تعمل هذه، هو فهم منها عشرة بالمائة، والتسعين بالمائة في اللعب الذي هو يريد أن يلعبه، فعندما يكون له أهلية عاقبه على قدر استعيابه، لكن طالما كان صغيراً لا تعاقبه، أقلل من العقوبة طالما كان الولد صغيراً، وحفزه دائماً.

وأنا أعرف مسجداً افتتح بحارتنا سنوا فيه سنة كبيرة جداً، وهي أنهم وضعوا كيساً من الشوكولاته والحلوى فأمس فقط وجدت أولاد أناس من جيراني لا يدخلون المسجد، ودخلوا المسجد مرة فأخذوا حلوى، وإذا بهم كل يوم في المسجد، فأخذت أتكلم مع الإمام بعد أن خرج الناس وما زال الأطفال جالسين، فاستغربت ماذا يريد هؤلاء الأطفال؟ وأنا لا أعرف السبب، فذكر لي أنهم كل يوم يأتون ليأخذوا حلوى، ألا تنزل هؤلاء الأولاد منزلة المؤلفة قلوبهم، تألف قلوبهم، فربنا عز وجل فرض سهماً في الزكاة للمؤلفة قلوبهم.

يعني لو أنّ لديك رجلاً غير ملتزم وتريد منه أن يلتزم لا تكلمه، إنما استخدم رجلاً آخر كسفير بينك وبينه يعطيه هدية منك، وتستطيع بذلك أن تكسر الحاجز النفسي الذي بينك وبينه عن طريق الهدية، والهدية عطية.

والصحابة الذين كانوا يأخذون سهم المؤلفة قلوبهم لم يأخذوها بعد ذلك، فقال قائلهم: والله لا آخذ على الإسلام أجراً، لأنه أسلم في البداية من أجل أن يأخذ مالاً، لكن بعد ذلك ما رضي أن يأخذ أجراً، وحسن إسلامه.

فكيس الحلوى الذي بثلاث جنيهات تجعل الأولاد الطامحين كلهم يصلون، فالولد الصغير تنطبع عنده كل هذه الأشياء، وأنت من تعظيمك لله ورسوله ولهجك بالثناء عليهما، هذا كله يلاحظه الولد فيرثه، فإذا عظم يبدأ بتدوير معنى آخر بداخله لا تعلم أنت ما هو.

هذا ما عجزت أنت عن تحقيقة إذ فرط أبوك في تربيتك، فلا تفرط أنت مع أولادك، أقم الصلاة وآت الزكاة وصم رمضان وحج البيت، كل هذا مبني على معنى (أشهد).

هناك جماعة يذهبون للحج؛ لكن لم يحققوا معنى كلمة (أشهد)، وقد رأيت أناساً بعيني على جبل الرحمة في يوم عرفات يدخنون السجائر، وأناساً في الخيمة يشربون المعسل، وانظر إلى شخص جالس في يوم عرفة -الذي يباهي فيه الله عز وجل بالجمع: (أتوني شعثاً غبراً ضاحين)- يشرب السجائر، وآخر يشرب المعسل في الخيمة.

هؤلاء لم يحققوا معنى كلمة (أشهد).

لما حجيت أول مرة مع الشيخ الألباني رحمه الله، ونحن خارجون من باب الفندق لقينا رجل مصري وهو يشرب بالشمال، فقال له الشيخ: يا فلان أو يا شيخ -ولا أذكر لفظ الشيخ بالضبط- لا تشرب بالشمال! فرد عليه قائلاً: هذا دواء!! وهل الدواء يشرب بالشمال؟!

وأنا توقعت الإجابة، فعندما يقول له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يشربن أحدكم بشماله، ولا يأكلن بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) فيأتي يقول هو: هذا دواء، ليس بأكل ولا بشرب، وهكذا يكون خرج من الحديث فينظره السقيم.

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ [النساء:10]، فيقول لك: أنا لا آكله -ظاهرية جامدة على اللفظ- لو أحرقته لا أقع تحت الآية، لكن لو أكله يقع تحتها، وما الفرق بين الإحراق والأكل وكله إتلاف، والقصد أنك لا تتلف مال اليتيم، وليس معنى هذا أن تحرقه ولا تأكله فيكون عليك حراماً.

فلما قال له: قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا وكذا قال له: هذا دواء، ولا يوجد أحد من الصحابة إطلاقاً خالف في هذه المسألة، فكل مخالفة في الفعل يأتي بها المكلف سببها أنه لم يحقق معنى كلمة (أشهد) التي تفيد الشهادة والحضور والنظر، سواء كان في شطر الشهادة الأول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو في الشطر الثاني: أشهد أن محمداً رسول الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

فالذي لم يحقق معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قضية الدبلة مثلاً يأتي لك شخص فيقول: أنا سأعمل مشكلة، وأنا إنما ألبسها لأنهم يعاكسونني وكذا.. ولو علموا أن ألبس دبلة فضة سيقولون: كذا وكذا، وهناك بعض الناس يقول مثل هذا الكلام المتهافت، يريد أن يقول: أنا مضطر.

فنقول له: لا تلبس الدبلة الفضة أيضاً؛ لأن المشكلة ليست هي أن تلبس فضة أو ذهباً، ولكن المشكلة أن الدبلة نفسها ليست من شرعنا، فهي اصطلاح نصراني محض، وهكذا اصطلحوا عليه، إذا وضعها في اليمين فهو خاطب، وبعدما يتزوج ينقلها إلى الشمال، فهذا تقليد نصراني ليس من ديننا، فنحن منهيون عن لبس الدبلة أصلاً، رجالاً ونساءً، لا فضة ولا غير فضة.

لكن البس خاتماً، والخاتم زينة الإصبع، فالخاتم نوع من التزيين للإصبع، وسواء لبست فضة أو ألمازاً أو أي معدن من المعادن النفيسة، لكن الذهب لا، والذهب بكل درجاته وكل ألوانه لا، ذهب أبيض أو أصفر، وكل مسمّى الذهب الحقيقي، لأن بعض الناس قد يسمي الشيء بغير اسمه، مثل ما يأتي لك بقماش في السوق ويقول لك: حرير، وهو ليس بحرير، أو ليس بالحرير المنهي عنه، ولكن نحن سميناه زوراً حريراً، ولو أتى بعض الناس فقال: هل ألبس المازاً، وهو أغلى من الذهب؟ نقول له: ليس هناك مانع؛ لأن لديك الصوف وهو أغلى من الحرير، ورغم ذلك تلبس الصوف الغالي وتترك الحرير وإن كان أقل سعراً.

إذاً: الاتباع باعثه الحب، فإذا قلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تعظم، فإذا فاتك هذا التعظيم ولم يعلمك إياه أبوك، فعلمه ولدك، فتكون قد قمت بجزء مما عليك، فالولد امتداد لك، وكلما كان الولد صالحاً طال عمرك، لأن الولد الصالح يقال له: الله يرحمك ويرحم والديك! والولد الملعون يلعنونه ويلعنون أباه، فيموت الأب والولد يستجلب اللعنات له، بينما الولد الصالح يستجلب لك الرحمات، فالولد الصالح هو الامتداد لك، بينما الولد الفاسد قُطع أثرك به يوم أن مت وكأنك لم تخلف أصلاً: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] يعني: ليس بابنك، وإنما ابنك هو امتداد لك، فالولد الصالح فقط هو ابنك.