النظم القرآني في سورة الرعد (4)
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
النظم القرآني في سورة الرعد (4)عناصر النظم القرآني في السورة:
إن دراسة أي نص قرآني تتطلب الوقوف عند لبناته الأولى التي هي المفردات، لتبين مدى الإصابة في اختيارها، ومدى تمكُّنها في موضعها من جملتها، وقوة ربطها بأخواتها، "وكلما ازداد الدارس تعمقًا في فهم النص القرآني واستجلائه لا بد أن يقف أمام جلال القرآن الكريم؛ ليدرك معه: لماذا أعيا العربَ وهم أصحاب اللَّسَن والبيان عن الإتيان بسورة من مثله؟!
والآن لنتتبع الآيات من قوله - تعالى -: ﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ [الرعد: 4] الآية".
ولنقف أمام جلال تلك الألفاظ وروعتها، ولنلحظ أن أول ما يطالعنا في بدايتها تلك الفاتحة العجيبة ﴿ المر ﴾ التي لم يَزِدْ أن قال العلماء عنها وعن غيرها من فواتح السور بمثلها: إنها سرُّ هذا القرآن، وهي مما استأثر اللهُ بعمله.
وحول فواتح السور ذكروا: أن جملتها عشرة أنواع من الكلام، منها: "الثناء على الله سبحانه"؛ كما في سورة الكهف: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1] والأنعام، وغيرهما مما ابتدِئ بهذا النوع، ومنها الاستفتاح "بالنداء"؛ كـ: "يا أيها المزمل، ويا أيها المدثر"، والاستفتاح بالجمل الخبرية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 1]، ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1]، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1]، والاستفتاح بالقسم: ﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ﴾ [الصافات: 1]، ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ﴾ [الذاريات: 1]، ﴿ وَالطُّورِ ﴾ [الطور: 1]، ﴿ وَالنَّجْمِ ﴾ [النجم: 1]، والاستفتاح بحروف الهجاء؛ كما في سورة البقرة وآل عمران، والقصص، والنمل، ومريم، والرعد، وغيرهن، إلى آخر ما ذكروه عن جملة هذه الأنواع، وأحصوه"، ولم يكتفِ بعضهم بالقول عن حروف الهجاء: إنها سر هذا القرآن، أو هي مما استأثر الله بعلمه، بل كثُر حديثهم عنها، وهذه طائفة من الأقوال التي ذكروها، قالوا: "إن الحروف المقطعة في أوائل السور بمثابة أدوات التنبيه، والغرض من استعمال هذه الحروف إثارةُ انتباه السامع إلى ما يراد إلقاؤه إليه.
وإذا نظرنا في فاتحة سورة الرعد ألفينا أربعة أحرف، هي الألف واللام والميم والراء، ولا شك أن مثل هذا الاستعمال أكثر لفتًا للنظر، وإثارة للانتباه مما جرت العادة باستعماله؛ وذلك أن المألوف على السمع يمر دون أن يحرك في النفس ساكنًا، أو يوقظ في الفكر نائمًا، أو ينبَّهَ به غافلٌ، فإذا طرق السمعَ جديدٌ غيرُ مألوف في أساليب الكلام تحرك الساكن، وتنبَّه الغافل.
ومن هنا فقد جاءت فاتحة سورة الرعد من تحقيق التنبيه التام بما لا مزيد عليه"، وقل مثل ذلك في السور الأخرى التي نهجت هذا المنهج من الفواتح، وذكروا أن الحروف المقطعة التي ابتدأت بها بعض السور: "بيان لإعجاز القرآن، وأن الخَلْق عاجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه مركَّب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها، ودليل ذلك أن السور المفتتحة بالحروف المقطعة يُذكَر فيها دائمًا الانتصارُ للقرآن الكريم، وأنه الحق الذي لا شك فيه، وأنه الكتاب المعجِز، وغيره دونَه.
فهذه سورة البقرة افتتحت بألف، لام، ميم، وبعدهن يأتي قوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، وهذه سورة آل عمران والأعراف ويونس وهود، وهذه سورة الرعد: ألف، لام، ميم، را، وبعد تلك الحروف يأتي قولُ الله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ﴾ [الرعد: 1] ومما نلحظه في فاتحة سورة الرعد: "أنها بدأت بحروف من جنس ما ورد فيها، وهذا البدء آية في التناسب، بل لقد ختمت حروف فاتحتِها بحروف الراء، وفي هذا تحقيقٌ للتناسب التام في جو السورة العام الذي كثيرًا ما يضطلع به هذا الحرف، كما في ذكر البرق والرعد"، "ورفع السموات بغير عمد، وبسط الأرض، وبث الثمرات، وجريان الأنهار".
قال أحمد بن فارس:
وأقرب القول في ذلك وأجمعه قول بعض علمائنا: إن أَولى الأمر أن نجعل هذه التأويلات كلها تأويلاً موحدًا، فيقال: إن الله افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه الدلالة بكل حرف منها على معانٍ كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعةً لأن تكون افتتاحًا للسور، وأن يكون كل واحد منها مأخوذًا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله - جل ثناؤه - قد وضعها هذا الموضع قسَمًا بها، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع ذلك مأخوذة من صفات الله - جل وعز - في أنعامه وأفضاله ومجده، وأن الافتتاح بها سبب لأن يَستمع إلى القرآن مَن لم يكن يستمع، وأن فيها إعلامًا للعرب أن القرآن الدالَّ على صحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- هو بهذه الحروف، وأن عجزَهم عن الإتيان بمثله - مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم - دليل على كذبهم وعنادهم وجحودهم، وأن كل عدد منها إذا وقع في أول سورة، فهو اسم لتلك السورة، وهذا هو الجامع للتأويلات كلها، من غير اطراح لواحد منها، وإنما قلنا هذا لأن المعنى فيها لا يمكن استخراجه عقلاً من حيث يزول به العذر، ولأنه المرجع إلى أقاويل العلماء، ولن يجوز لأحد أن يعترض عليهم بالطعن وهم من العلم بالمكان الذي هم به، ولهم مع ذلك فضيلةُ التقدم، ومزية السبق، والله أعلم بما أراد من ذلك".
ومن جملة ما قالوه عن فواتح السور بحروف الهجاء أنها أسماء لسورها، وهي سر القرآن، وهي مما استأثر اللهُ بعلمه، إلى أهم ما قالوه، وإن كان لا يعدو أن يكون اجتهادًا؛ ولذلك نجد أكثرهم يتحرزون عند الكلام على مدلول تلك الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن، فتراهم يصرون على ذكر هذه العبارة "الله أعلم بمراده بذلك"؛ تجنبًا لمزالق الاجتهاد، ومن هنا لا نؤثِرُ رأيًا على رأي مما قالوه، بل نضم أنفسنا إلى أولئك الذين بالغوا في الاحتياط فقالوا: الله أعلم بمراده.