سجون بغداد
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 3 -
ويمعن أبو يوسف في تصوير هؤلاء العامة من السجناء فقول: وأغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم الناس؛ فإن هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا وأخطئوا، وقضى الله عليهم ما هم فيه فحبسوا، يخرجون في السلاسل يتصدقون. وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بإسارى المسلمين الذين في أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ وإنما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع. ولقد بلغني، وأخبرني به الثقات، أنه ربما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم واليومين، حتى يستامر الوالي في دفنه، وحتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون، ويكترون من يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة). وقد نجد في كتب الأدب والتاريخ، نبذاً عما كان يفعل بخواص المسجونين إذا دخلوا السجن.
كانوا ينزعون عنهم ثيابهم فيلبسون غيرها، ثم يقيدون، ويقدم لهم طعام خاص: حدث ابن وهب قال: أخذني اسحق (بن إبراهيم) فقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف.
فأقمت كذلك نحو عشرين يوماً، لا يفتح عليه الباب إلا مرة واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع لي فيها خبز شعير وماء حار). وحدث سليمان بن وهب قال: (كنت في يدي محمد بن عبد الملك يطالبني وأنا منكوب، وكان يحضرني كل يوم وأنا في قيودي، وعلي جبة صوف). وذكر يعقوب بن داود قال: (حبسني المهدي.
في بئر.
وكان يدلي إلي في كل يوم رغيف وكوز ماء.
) ولما سجن ابن عبد الملك أمر بتقييده فقيد، ولم يأكل في طول حبسه إلا رغيفاً واحداً.
وكان يأكل العنبة والعنبتين). وقيد جعفر بن يحيى في حبسه بقيد حمار قبل أن يقتل ثم ضربت عنقه. وسأل الرشيد جعفر بن يحيى يوماً ما فعل بيحي بن عبد الله؟ قال بحاله يا أمير المؤمنين: في الحبس الضيق والأكبال. وقيد إيتاخ في سجنه وصير في عنقه ثمانون رطلا وقيد ثقيل وكانت وظيفته رغيفاً وكوزاً من ماء. ولما حبس اسحق بن إبراهيم عمر بن فرج ألبسه جبة صوف وقيده بالأكبال. وحبس بختيشوع المتطبب في المطبق فضرب مائة وخمسين مقرعة وأثقل بالحديد. وقد كانت جبة الصوف تدهن أحايين كثيرة بالنقط أو بماء الأكارع، كما فعل بجبة ابن الفرات وغيره.
أما القيد فربما بقيت آثاره بعد فكه.
وهذا ما حدث لأبي العباس أحمد.
ابن الفرات، فقد علق بحبال في يديه بقيت آثارها فيها مدة حياته، وربما أصاب المسجونين الإهمال، فلم يكسوا أو يطعموا.
وقد ذكر ابن المعتز أن الرشيد أرسل مسروراً الكبير إلى البرامك، وهم في الحبس يتعرف حالهم.
فصار إليهم فوجد الفضل ساجداً فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط.
وكان في ثوب سمل، وذلك في الشتاء والبرد شديد. فأنت ترى أن لباس السجناء جبة من صوف، وأن طعامهم رغيف في اليوم، وشرابهم كوز من ماء، وقيودهم السلاسل والأكبال. وربما كان للسفهاء في السجون العامة سيطرة وسلطان.
نستدل على ذلك من أبيات قالها عبد الملك بن عبد العزيز وكان قد حبسه الرشيد، وهي: ومحلة شمل المكاره أهلها ...
وتقلدوا مشنوءة الأسماء دار يهاب بها اللئام وتتقي ...
وتقل فيها هيبة الكرماء ولم يكن يسمح للمحبوسين أن يقابلوا أحداً.
وقد يكون ذلك بالرشي.
حدث محمد بن صالح العلوي قال: (وجاءني السجان يوماً وقال إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد.
إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما، وهما في الدهليز، فاخرج إليهما.
). ويقول ابن المعتز إن البرامكة كان يزورهم في محنتهم من كان يألفهم أيام نعمتهم حتى أن الرشيد كان يقول لسعيد بن وهب (آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم). وهنا قد يتساءل الإنسان: أكان السجناء يتعلمون في السجن صناعة ما أو علماً؟ ويذهب آدم متز إلى أن المسجونين كانوا يشتغلون بنسج التكك، مستنداً على بيت من الشعر قاله ابن المعتز، لم نجده في ديوانه، وهو: تعلمت في السجن نسج التكك ...
وكنت امرءاً قبل حبسي ملك على أننا لا نستطيع أن نجزم بذلك.
فابن المعتز سجن في مكان خاص منفرد؛ ولم تكن مدة سجنه طويلة حتى يتعلم، على أنه إذا نفينا ذلك عن ابن المعتز، فقد يكون لسجناء، في السجون العامة الأخرى. ويحدثنا إبراهيم الموصلي أنه حبس أيام المهدي وضرب قال: فحذقت الكتابة والقراءة في الحبس.
وليس في هذا أيضاً ما يوجب التعميم. وما كادت المائة الثانية من الهجرة تمضي، حتى بدأت السجون تنال عناية من الخلفاء؛ ولا سيما المعتضد.
فقد أوقف لها الأموال الكبار لنفقات المحبوسين وثمن أقواتهم ومائهم وسائر مؤنهم.
وقد جعل في ميزانيته ألف وخمسمائة دينار في الشهر لذلك.
ويحدثنا القفطي أنه عين لمن في السجون أطباء أفردوا لذلك.
فكانوا يدخلون إليهم ويحملون معهم الأدوية والأشربة، ويطوفون على سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، كما جعل للمحبسين ديوان خاص تكتب فيه قصصهم في دفاتر خاصة يرجعون إليها دائماً. التعذيب وكانوا يلجئون في بعض الأحايين إلى تعذيب السجين تعذيباً مؤلماً.
وقد يخص بالعذاب الوزراء والعمال.
وسنعرض عليك ألواناً مختلفات من التضييق والتعذيب؛ فقد كان سليمان بن وهب في أول حبسه بالبئر (يأنس بالخنافس وبنات وردان ويتمنى الموت لشدة ما هو فيه). وحبس محمد بن القاسم.
بن علي بن أبي طالب في الحبس الذي شيد في بستان موسى (فلما أدخل إليه أكب على وجهه في أسفل بيت منه.
فلما استقر به أصابه من الجهد لضيقه وظلمته، ومن البرد لندى الموضع ورطوبته، ما كاد يتلفه). أما الضرب والتعذيب فكثير: فقد ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسون مقرعة.
وضرب يحيى بن خالد، والفضل ابن يحيى وسوهر محمد بن عبد الملك، ومنع من النوم، وكان ينخس بمسلة (تؤلمه وتدمي جسده). ولما سجن المعتز بعد خلعه دفع إلى من يعذبه ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه منها، ثم جصصوا سرداباً بالجص السخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه فأصبح ميتاً). وقد كان يحدث القتل وضرب الأعناق.
وأورد التنوخي قصة قتل نوردها بكاملها، قال: (حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحسن.
وكان خليفة أبي علي على الفتيا بسوق الأهواز بإسناده عن القاضي أبي عمر قال: لما جرى من أمر عبد الله بن المعتز ما جرى حبست وما في لحيتي شعرة بيضاء، وحبس معي أبو المثنى القاضي، ومحمد بن داود بن الجراح في دار واحدة، في ثلاثة أبيات متلاصقة.
وكان بيتي في الوسط؛ وكنا آيسين من الحياة وكنت إذا جن الليل حدثت أبا المثنى تارة، ومحمد بن داود تارة.
وحدثاني من وراء الأبواب.
ويوصي كل واحد منا إلى صاحبه، ونتوقع القتل ساعة بساعة.
فلما كان ذات ليلة، وقد أغلقت الأبواب، ونام الموكلون؛ ونحن نتحدث من بيوتنا إذ أحسسنا بصوت الأقفال تفتح.
فارتعنا، ورجع كل منا إلى صدر بيته.
فما شعرت إلا وقد فتح البواب على محمد بن داود، وأخرج، وأضجع على المذبح فقال: يا قوم ذبحاً كما تذبح الشاة؟ أين المصادرات؟ أين أنتم من أموالي أفتدي بها نفسي.
فما التفتوا إلى كلامه، وذبحوه وأنا أراه من شق الباب، وقد أضاء السجن من كثرة الشموع، وصار كأنه نهار.
واحتزوا رأسه فأخرجوه معهم، وجردوا جثته، وطرحت في بئر الدار وغلقت الأبواب.
(قال) فأيقنت بالقتل، وأقبلت على الصلاة والدعاء والبكاء، فما مضت إلا ساعة واحدة حتى أحسست بالأقفال تفتح؛ فعاودني الجزع، وإذا هم جاءوا إلى بيت أبي المثنى ففتحوه وأخرجوه وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين، يا عدو الله، يا فاسق بم استحللت نكث بيعتي وخلع طاعتي؟ فقال.
لأني علمت أنه لا يصلح للإمامة! فقالوا: إن أمير المؤمنين قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر، فإن تبت رددناك إلى محبسك، وإلا قتلناك.
فقال أعوذ بالله من الكفر، ما أتيت ما يوجب الكفر.
فلما أيسوا منه مضى بعضهم وعاد فأضجعوه وذبحوه وأنا أراه، وحملوا رأسه وطرحوا جثته في البئر.
فذهب علي أمري، وأقبلت على الدعاء والبكاء والتضرع إلى الله.
فلما كان وجه السحر سمعت صوت الأقفال، فقلت: لم يبق غيري وأنا مقتول.
فاستسلمت وفتحوا الباب فأقاموني إلى الصحن، وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاعل ويا صانع، ما حملك على خلع بيعتي؟ قلت: الخطأ وشقوة الجد.
وأنا تائب إلى الله عز وجل من هذا الذنب.
فجاءوا إلي بخفي وطيلساني وعمامتي، فلبست ذلك وأخرجت، فجيء بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة.
فلما رآني، أقبل يخاطبني بعظم جنايتي وخطأي، وأنا أقر بذلك وأستقيل وأتنصل فقال: (وهب لي أمير المؤمنين دمك، وابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار، ألزمتك إياها). وقد يعذبون بغير ما ذكرنا.
فقد رؤى في أيام المقتدر، رجل في المطبق مغلولا على ظهره لبنة حديد فيها ستون رطلا.
ولما حبس إيتاخ أطعم كثيراً فاستسقى فمنع الماء فمات عطشاً. على أن هناك صلة بين التعذيب عند العباسيين، والتعذيب على أهل أوربة في القرون الوسطى.
وإن كان التعذيب في أوربة يفوق تعذيب العباسيين شدة وفظاظة.
فلقد بلغوا فيه مبلغاً من القسوة لا يجاريهم فيه أحد.
وقد ذهبوا في الظلم والإرهاق مذاهب شتى، وتنافسوا في ابتكار أشد وسائل الإرهاب في السجن فظاعة.
من ذلك أن بعض السجون المظلمة التي كان يزج فيها السجناء كانت أشبه بمغاور تحت الأرض، يوصل إليها بسلاليم، لا ينفذ إليها النور.
وكانت السلاليم مؤلفة من عدة درجات، يختلف بعضها عن بعض في حجمها وارتفاعها، والغرض من جعلها كذلك تضليل النازل حتى تزل قدمه فيهوي إلى قاع السجن الرهيب. (يتبع) صلاح الدين المنجد