الولاء والبراء[2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قلنا فيما مضى: إن أول ما ينبغي أن ينشأ عليه الولد: هو صدق الانتماء إلى الله ورسوله، وذكرنا معنى الانتماء، وأن أساس الانتماء الحب، وكما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: (كل حركة في الكون أساسها الحب والبغض). كل حركة يتحركها الكائن أساسها الحب أو البغض، فأساس الموالاة: الحب، وأساس المعاداة: البغض.

فبعدما ذكرنا علامات الحب قلنا: أثر هذا الحب هو موالاة الله ورسوله والمؤمنين ومعاداة الكافرين، فالرجل صادق الانتماء لا ينتظر أمراً من أحد ليدعو إلى من يحب، إنه يدعو إلى من يحب طبعاً، فلا يقال له: ادع إلى من تحب، أو الهج بذكر من تحب، إنه لا يحتاج إلى ذلك.

أفلا أعطيك مثلاً ودليلاً؛ لعلك بعدما تستمعه تقول مثلما قال ابن آدم الآول: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ [المائدة:31]؟

الهدهد أحد جنود سليمان عليه السلام، وهو عبد لله عز وجل، فلا يوجد الكفر إلا في الثقلين الإنس والجن فقط.. فانتبهوا!

فهذا العبد الموحد -الهدهد- انطلق بغير أمر، وراعه ما رأى، ورجع ليحيط سليمان عليه السلام بذلك التقرير الخطير! وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21] ، رجع الهدهد ولكن ينطوي صدره على سر عظيم، لو اقترب من سليمان لعله قاتله قبل أن يبوح بالسر الذي بين يديه، لذلك فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] ولم يترك مهلة لسليمان ليسأله أين كنت، حتى عاجله وبادره بهول ما رأى فَقَالَ [النمل:22] جاءت الفاء تفيد التعقيب مباشرة، حتى لا يترك أي فرصة للسؤال فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، ما أخبرني أحد، بل رأيت بعيني.

إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وهذا عجب! المرأة مملوكة لا مالكة، ولذلك حرمت من القضاء، وحرمت من الولايات العظيمة، وجعل عليها القوامة؛ لأنها مملوكة، فالعجيب أن يملُك هذا المملوك! كأنه قال له: اعجب وتنكر أن امرأة تملكهم، ولم يقل: تحكمهم؛ لأن الملك يدخل فيه معنى الحكم، والملك أعظم، ولذلك العلماء لما تكلموا في قوله تبارك وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، أو مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ وكلاهما قراءتان متواترتان، وتكلم العلماء أيهما أبلغ، ملك يَوْمِ الدِّينِ أو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فقال جمهورهم: بل ملك يوم الدين أبلغ، لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملك، فيقول: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ لم يقل: تحكمهم بل قال: (تَمْلِكُهُم) وهذا أشد لهوانهم.

تصور لما تكون العصمة في يد امرأة، ماذا تفعل بالرجل؟! العصمة في يدها، لذلك نهيت المرأة عن تولي الولايات العامة والقضاء؛ لأنها مملوكة، ولا تكون مالكة، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] .

هذه توطئة: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فلماذا ذكر التوطئة هكذا؟ وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ إنما قدم بأنها تملك كل شيء حتى يظهر قبح الشرك، بعدما آتاها كل شيء، وملكها وأجلسها على عرش عظيم؛ تسجد لغير الله؟ وليظهر قبح ما ارتكبته المرأة وقومها، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:24-26].

فهذا جندي خرج بلا أمر، فلما رأى هذا الشرك لم يحتمل، وذهب ليضع هذا التقرير الخطير بين يدي سليمان عليه السلام، وكل محب منتمٍ يفعل ذلك، والذين يزعمون الالتزام.. كم من الفواحش، لا أقول: مررت عليها، بل هي في بيتك، وكم من المخالفات لا أقول: غيرك هو الذي يفعلها، بل أنت الذي تفعلها، وأولادك يفعلونها، وامرأتك تفعلها، وجيرانك، ومن معك في البيت، ومن معك في الشارع، ومن معك في البلد، ومع ذلك يقول أنا: لا شأن لي! هذا يصرف معنى الانتماء؛ لأن من يتحقق عنده الانتماء لا ينتظر الأمر في الدعوة إلى من يحب، ولا في اللهج باسم من يحب، إنما يجد نفسه منساقاً إلى ما يعتقد.

إن حربنا مع أعدائنا -الذين يجب علينا أن نبغضهم غاية البغض لأنهم كفروا بالله عز وجل- ليست اقتصادية ولا سياسية ولا اجتماعية، إنما هي حرب عقائد، كذا قال الله عز وجل، كل حرب مع عدو لنا القصد منها أن نكفر بالله، أن نرتد عن ديننا، كذا قال الله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] ، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] ، وقال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] ، وقال تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2] .

هذه الآيات ناطقة بأن رجاء كل الذين كفروا أن يرتد المسلمون على أدبارهم، إذاً: ليست حرباً سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية، بل هي حرب عقيدة، ولذلك تجد أي مستعمر لأي بلد أول شيء يحرص عليه أن ينشر لغته؛ لأنه لا يتم نشر الاعتقاد ولا فهم المعتقدات إلا باللغة، وتجد هذا واضح الأثر حتى الآن، فاللغة الأولى في بلادنا ما هي؟ لا تقل لي اللغة العربية، فهذا حبر على ورق، مثلما يقال في الدستور: الدين الرسمي للدولة الإسلام.. هذا غلط، الدين الرسمي للدولة هو القانون، لا الإسلام، هذا هو الواقع، دعنا من الحبر المكتوب على الورق، فهذا كلام لا يساوي المداد الذي كتب به، الواقع أن اللغة الأولى في بلادنا هي اللغة الإنجليزية، وليست هي اللغة العربية، فاللغة العربية مظلومة، ومدرس اللغة الإنجليزية يحظى باحترام وتقدير لا يجده حتى مدرس اللغة العربية.

وحافظ إبراهيم له قصيدة رثائية رائعة، اللغة العربية ترثي نفسها، يقول فيها على لسان اللغة العربية المهضومة:

وسعت كتاب الله لفظـاً وآيــة وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلـة وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الـدر كامـن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

حتى الآن وما زالت مشكلة تعريب الطب مشكلة المشاكل، كيف تقاعسوا عنها حتى الآن، ولا نعلم أن هناك بلد تحترم هذا التعريب إلا سوريا ومن جرى مجراها من البلاد العربية، ولا زالت بعض المصطلحات الكافرة موجودة حتى الآن ينطقها المسلمون ويعجزون عن تغييرها، مثل أن يقال: عيب خلقي.. مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] فهل يقال عيب خلقي؟!

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في ظهره انحناء، فجعل الرجل يخفي هذا بثوبه، فلحظه النبي صلى الله عليه وسلم فناداه، وقال له: (يا فلان! كل خلق الله حسن).

الأمم المنتصرة تفرض نفسها وتفرض مصطلحاتها على الأمم الضعيفة، فنتكلم بالكلام الكفري باسم المصطلحات العلمية، ونعجز عن تغييرها.. لماذا؟ لأنه ساد المصطلح، وصار معروفاً للأساتذة الكبار والتلاميذ الصغار، فلو قلت له: ماتقول في كذا -وسميته اسماً من عندك-؟ لا يعرف الطالب ماذا تريد، مع أن الدنيا كلها تشهد أننا اخترعنا الطب، وهم أخذوه منا، ونحن أولى به، وبضاعتنا يجب أن ترد إلينا، لكن هذا القهر اللغوي غلبنا في كل شيء.

المغرب العربي اللغة الرسمية فيه هي الفرنسية، وقد قابلت كثيراً منهم في الحج والعمرة ولا يتكلمون العربية إلا بصعوبة، بل أقول لكم شيئاً رأيته بنفسي، لما سافرت إلى أسبانيا وأنا طالب، وجعلت أبحث عن مسجد لأصلي فيه الجمعة، ظللت أسبوعين أبحث وأسأل كل من ألقى: أين المسجد الموجود في مدريد؟ وبعد بلاء وصعوبة قالوا: المسجد في الشارع الفلاني، فذهبت وأنا أظن أنه مسجد له مئذنة أو مسجد كبير على وجه الأرض، فقابلت رجلاً على قارعة الطريق فسألته: أين المسجد الذي هنا؟ فبصق في الأرض ومضى، فذهبت إلى عنوان وصف لي، فلما وصلت ذهبت إلى استعلامات العمارة وأنا خائف أن يبصق الرجل أيضاً، فسألته وأنا وجل: هل يوجد هنا مسجد؟ قال: انزل هذا البدروم، نزلت تقريباً ستة عشر درجة، فوجدت شقة مؤلفة من غرفتين وصالة ووجدت بها مجموعة مكونة من حوالي مائة رجل يصلون الجمعة، كلهم يتكلم بالعربية وينتمون إلى جاليات عربية، وأغلبهم من الشام.

فجعلت أتكلم بالعربية معهم، وأردت أن أتكلم مع ولد بجواري فرفض، وتكلم بالأسبانية، ففرحت وكدت أطير، حيث وجدت بغيتي أخيراً.. وجدت مسلماً أسبانياً في بلد ظل الإسلام فيه ثمانية قرون -ثمانمائة سنة- فلما تكلمت معه أُسقط في يدي إذ لم يكن أسبانياً، ولكنه شاب مغربي لا يعرف حرفاً من اللغة العربية!

فاللغة الرسمية في بلاد المغرب العربي هي اللغة الفرنسية، وهكذا فإن الاستعمار أول ما يدخل يبدأ ينشر لغته؛ لأنه إنما ينشر اعتقاده باللغة، وكل الحروب الدائرة بيننا وبين الكفار حرب معتقدات، وليست حرب اقتصاد ولا سياسة ولا هيمنة أبداً، إنما هي حرب معتقدات كما قال الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، كل المسألة أنهم يريدوننا أن نكفر كما كفروا.

فهل نوالي مثل هؤلاء؟ هل نلقي إليهم بالمودة؟ إن الولاء والبراء هو الأثر الطبيعي لصدق الانتماء، وإن الكافر إذا ظهر لا يدعك أبداً، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8] ، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، وقال في الفتية الذين آمنوا وهربوا إلى الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] ، هذه طبيعة ظهور الكافر على المسلم.

ضياع الانتماء والولاء والبراء في واقعنا المعاصر

نحن في زمان نمر بأحداث جسام، وأزمتنا أزمة رجال، نريد أن نستعلي بهذا الإيمان، فهو الذي يغلب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56] .

هذا هو سلاحنا الوحيد، وعندما قال الدعاة إلى الله عز وجل: إن السلام الذي عقد مع اليهود ليس سلاماً، بل هو استسلام؛ رموهم بالرجعية والتخلف، وهجم عليهم العلمانيون، الذين يريدون ربط الناس بالتراب وليس بالله عز وجل، حيث يقول قائلهم:

وطني لو صوروه لي وثنـاً هممت ألثم ذلك الوثنا

ويقول الآخر:

سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

ويقول الآخر:

ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا

أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا

هكذا يريدون أن يربطوا الناس بالتراب، ومن رُبط بالتراب دِيس بالأقدام، وهذه هي طبيعة التراب، فهؤلاء ليس عندهم نخوة العربي الجاهلي، الذي رأى أن اعتداء المعتدي عليه عدة مرات إذعان وإهانة، ليس عندهم نخوة هذا العربي الذي قال -ونعم ما قال!-:

صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْـوَانُ

عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا

فلَمَّا صَرَّحَ الشَّـر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيـانُ

َولَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ

بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ وتأْيِيمٌ وإرْنانُ

وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ غَذَا والزِّقُّ ملآنُ

ثم قال -ونعم ما قال!-:

وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْـلِ للذلّةِ إذْعانُ

وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ

بعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان، يعتدي عليك فتسامحه، ثم يعتدي مرة ثانية وتسامحه، ثم ثالثة ورابعة وتسامحه.. لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان.

فبعض الحلم -إذا جهل الجاهلون عليك، ولم يراعوا معك اتفاقاً- إذعان، فإذا أحسنت إلى أحدهم مرة وثانية وثالثة ولم تجد لإحسانك موضعاً -إذ الذي أحسنت إليه لئيم- حينئذ لا يبقى إلا الأخيرة.

وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ

ما بقي إلا هذا، فنحن مقدمون على مرحلة خطيرة، والعلمانيون فعلوا في هذه الأمة ما لم يفعله اليهود ولا النصارى، ولهم وسائل كثيرة متعددة.

فتسجيداً للانتماء وعملاً بعقيدة الولاء والبراء أول ما ينبغي أن نفعله، مقاطعة السلع اليهودية، وإن كنا نعرف أن اليهود يستطيعون كتابة (صنع في أي بلد)؛ مثل الأخطبوط، فيرسل لك البضاعة عبر أي دولة تريدها أنت.

حذيفة بن اليمان لما خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمسكه المشركون وأباه..

قالوا: إلى أين؟

فأجابا: إلى المدينة.

فقالوا: تذهبون وتحاربوننا.. أبداً! أنتم أسرى عندنا.

فقال حذيفة : لكم علينا أن لا نحاربكم..

فتركوهما، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصا عليه ما حدث، فماذا قال لهم النبي الكريم النبيل؟ قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) ، فلم يشهد حذيفة بن اليمان ولا والده غزوة بدر، ليس لأنه لم يكن حاضراً؛ بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).

وفي الصحيح أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الحرب امرأة مقتولة، فغضب، وقال: من قتل هذه؟ قالوا: يا رسول الله! إنها خرجت معهم. قال: سبحان الله ما كانت هذه تقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والذرية) .

في الحرب أعداؤك لا ينظرون بهذا المنظار، أعداؤك ليس هناك قانون يحكمهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، يريد أن يصل فليفعل ما شاء، وجاراهم المسلمون بالذات في باب الجاسوسية، فالجاسوس يزني، ويشرب الخمر، ويدفعون له المال، ويقولون له: ازن على حسابنا، واشرب خمر على حسابنا، واعمل كل الفجور على حسابنا، وهات عنهم المعلومات.. أهذا يرضي الله؟!

جاريناهم، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، فنحن قوم نبلاء، ونحن محكومون حتى مع أعدائنا فكل شيء حرمه الله عز وجل لا يحل لنا حتى مع أعدائنا: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) ، إذاً هو عدتنا وهو ملجأنا وهو ناصرنا، ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] هذا هو القانون.

ولذلك لا نسير سيرتهم على الإطلاق، محرم علينا ذلك، فالنبي ينهى عن قتل النساء والذرية ويقول: (سبحان الله! ما كانت هذه تقاتل) إذاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى قتل النساء المجندات في الجيش؛ لأنه إنما ربط الإنكار لعلة أنها لا تقاتل، وإذا ثبت أن المرأة تقاتل جاز قتلها، مثلها مثل الرجل تماماً، (ما كانت هذه تقاتل) معنى ذلك أنها لو كانت تقاتل إذاً تستحق القتل، فكل امرأة ثبت أنها مجندة في جيش العدو تقتل مثل الرجل تماماً، بنص هذا الحديث.

من صور البراءة من الكفار

وباختصار: عدتنا القادمة هو الإيمان بالله، والاستعلاء بهذا الدين، والولاء والبراء، وأول من ينبغي أن تتبرأ منه هو الكافر بالله عز وجل.

مثل إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28] ، انظر الكلام! وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ عقب من؟ عقب إبراهيم عليه السلام.

إذاً: الولاء والبراء جزء من لا إله إلا الله، ، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، فهذا معنى كلمة: (لا إله) أليس البراء رفض، والولاء انتماء؟ فعندما تقول: (لا إله) فهذا شطر البراء الموجود في الكلمة المباركة، و(إلا الله): هذا هو الانتماء، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ : هذا هو معنى (لا إله) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27] (إلا الله) فجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام يتناقلها أبناؤه وذريته إلى يوم القيامة، فكل الأنبياء من نسله، وإن تعجب فعجب أن يقول الذي نزل بالتوحيد: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، يخشى -وهو الحنيف الذي أرسل بالتوحيد- أن يرتكس في عبادة الأصنام؛ فيستعيذ بالله من ذلك.

لأنها كلمة باقية في عقب هذا النبي الكريم شرفه الله بها، وشرف ذريته بها، فإعلانك البراءة من الكافرين لا يتم قول لا إله إلا الله واعتقادها إلا بذلك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

فقه البراءة من الكفار

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

روى الإمام النسائي في سننه أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم -من العهود والمواثيق-. قال: تبايعني على ألا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح للمسلمين، وتفارق المشركين) ، فتأمل هذا!

مفارقة المشركين ضرورة، ومن غير المتصور على الإطلاق بأي مذهب على وجه الأرض أن توالي عدو حبيبك وتزعم أنك تحبه! أو تقول: أنا أكرهه، ثم تبسط يدك إليه بالود! فأنت عندما تحب الله عز وجل؛ تكره أعداءه بتلقائية، بدون مجهود، و(تفارق المشركين).

لقد كانت جناية الطابور الخامس على أمتنا جناية عظيمة الأثر، بالغة الخطر، لا زلنا نتجرع مرراتها حتى الآن.

والعجيب: أن كل خائن وصل إلى قمة الهرم.. كيف؟ لا أدري! وكأن من مسوغات ارتقاء الهرم أن تكون خائناً! وكلما بالغ المرء في الخيانة كلما واصل ارتقاءه.

وقد قرأت منذ أيام في مذكرات أحمد لطفي السيد ، الذي لقبوه بأستاذ الجيل، ونزل هذا الكتاب بخمسة وعشرين قرشاً في وقت كان أسعار الورق فيه مرتفعة، وأسعار الكتب في الذروة، ولكن هذا الكتاب كان مدعوماً، وقد كتب عليه في أعلى الغلاف (المواجهة) ومن تحت (التنوير) وعلى غلاف الصفحة الأخيرة مذكور: لماذا تنشر هذه السلسلة بهذا الثمن الرخيص؟! قال لك: لأن الإرهاب سيحطم كل الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، فأحببنا أن نواجه الإرهاب بالتنوير.

في هذا الكتاب تحت عنوان (الجامعة الإسلامية) في أيام اللورد كرومر ، وعندما كان الإنجليز يحتلون مصر، ظهرت فكرة إنشاء جامعة إسلامية في مواجهة الإنجليز لتحرير البلد، فلما نطق بهذه الفكرة بعض الصحفيين على صفحات الجرائد آنذاك؛ هاب الإنجليز والغرب ذلك، فبعثوا يسألون عن حقيقة هذه ما الجامعة الإسلامية، فانبرى أستاذ الجيل يفند وينفي بقوة قلب وجرأة جنان أن يكون هناك أي فكرة للجامعة الإسلامية، وقال: هذا تفكير ساذج لصحفي كاذب.

كل هذه آثار ينبغي أن يكون المسلم عالماً بفقه البراءة منها؛ لأن من أسباب عدم ظهور هذه الشعيرة العظيمة: الجهل، ووضع الضعيف في مكان القوي، والقوي في مكان الضعيف.

ونحن نعلم أن الخوارج لما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام -في صحيح البخاري- قال: (يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام) مثلاً: أنت مختلف مع واحد في مسألة، القنوت في الفجر -مثلاً- أبدعة هي أم لا؟ أو مسألة رفع اليدين في دعاء الجمعة بدعة أم لا؟ هذه المسائل الفرعية، مسألة أن الجماعة الفلانية مبتدعة أم لا، مسائل كهذه يهجره بسببها، ويصير جاره النصراني يقول له: صباح الخير، وصباح الفل، ويضحك في وجهه، وأول ما يرى أخاه يتجهم.. وهذا من أسلوب الخوارج، (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).

فتعاملك مع الناس يجب أن ينبني على أساس الدين، وبالتالي فإن هجرك لأصناف الناس يجب أن يكون وفق العقيدة التي يعتقدها كل صنف، فالمبتدع له نمط، والعاصي له نمط، والكافر له نمط، الرسول عليه الصلاة والسلام قال -كما في صحيح مسلم-: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ضيق عليه، وهذا حديث في صحيح مسلم، أين ذهبت هذه الأحاديث؟!

نحن في زمان نمر بأحداث جسام، وأزمتنا أزمة رجال، نريد أن نستعلي بهذا الإيمان، فهو الذي يغلب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56] .

هذا هو سلاحنا الوحيد، وعندما قال الدعاة إلى الله عز وجل: إن السلام الذي عقد مع اليهود ليس سلاماً، بل هو استسلام؛ رموهم بالرجعية والتخلف، وهجم عليهم العلمانيون، الذين يريدون ربط الناس بالتراب وليس بالله عز وجل، حيث يقول قائلهم:

وطني لو صوروه لي وثنـاً هممت ألثم ذلك الوثنا

ويقول الآخر:

سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

ويقول الآخر:

ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا

أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا

هكذا يريدون أن يربطوا الناس بالتراب، ومن رُبط بالتراب دِيس بالأقدام، وهذه هي طبيعة التراب، فهؤلاء ليس عندهم نخوة العربي الجاهلي، الذي رأى أن اعتداء المعتدي عليه عدة مرات إذعان وإهانة، ليس عندهم نخوة هذا العربي الذي قال -ونعم ما قال!-:

صَفحْنا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وَقُلْنا الْقَوْمُ إخْـوَانُ

عَسَى الأَيَّامُ أنْ يَرْجعْنَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا

فلَمَّا صَرَّحَ الشَّـر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيـانُ

َولَمْ يَبَقَ سِوَى العُدْوَانِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

مَشَيْنا مِشْيَةَ اللَّيْثِ غَدَا واللَّيْثُ غَضْبَانُ

بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ وتأْيِيمٌ وإرْنانُ

وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ غَذَا والزِّقُّ ملآنُ

ثم قال -ونعم ما قال!-:

وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْـلِ للذلّةِ إذْعانُ

وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ

بعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان، يعتدي عليك فتسامحه، ثم يعتدي مرة ثانية وتسامحه، ثم ثالثة ورابعة وتسامحه.. لا، هذا ليس حلماً، هذا إذعان.

فبعض الحلم -إذا جهل الجاهلون عليك، ولم يراعوا معك اتفاقاً- إذعان، فإذا أحسنت إلى أحدهم مرة وثانية وثالثة ولم تجد لإحسانك موضعاً -إذ الذي أحسنت إليه لئيم- حينئذ لا يبقى إلا الأخيرة.

وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ لا يُنْجِيك إحسانُ

ما بقي إلا هذا، فنحن مقدمون على مرحلة خطيرة، والعلمانيون فعلوا في هذه الأمة ما لم يفعله اليهود ولا النصارى، ولهم وسائل كثيرة متعددة.

فتسجيداً للانتماء وعملاً بعقيدة الولاء والبراء أول ما ينبغي أن نفعله، مقاطعة السلع اليهودية، وإن كنا نعرف أن اليهود يستطيعون كتابة (صنع في أي بلد)؛ مثل الأخطبوط، فيرسل لك البضاعة عبر أي دولة تريدها أنت.

حذيفة بن اليمان لما خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمسكه المشركون وأباه..

قالوا: إلى أين؟

فأجابا: إلى المدينة.

فقالوا: تذهبون وتحاربوننا.. أبداً! أنتم أسرى عندنا.

فقال حذيفة : لكم علينا أن لا نحاربكم..

فتركوهما، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصا عليه ما حدث، فماذا قال لهم النبي الكريم النبيل؟ قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) ، فلم يشهد حذيفة بن اليمان ولا والده غزوة بدر، ليس لأنه لم يكن حاضراً؛ بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).

وفي الصحيح أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد في الحرب امرأة مقتولة، فغضب، وقال: من قتل هذه؟ قالوا: يا رسول الله! إنها خرجت معهم. قال: سبحان الله ما كانت هذه تقاتل، ثم نهى عن قتل النساء والذرية) .

في الحرب أعداؤك لا ينظرون بهذا المنظار، أعداؤك ليس هناك قانون يحكمهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، يريد أن يصل فليفعل ما شاء، وجاراهم المسلمون بالذات في باب الجاسوسية، فالجاسوس يزني، ويشرب الخمر، ويدفعون له المال، ويقولون له: ازن على حسابنا، واشرب خمر على حسابنا، واعمل كل الفجور على حسابنا، وهات عنهم المعلومات.. أهذا يرضي الله؟!

جاريناهم، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، فنحن قوم نبلاء، ونحن محكومون حتى مع أعدائنا فكل شيء حرمه الله عز وجل لا يحل لنا حتى مع أعدائنا: (وفوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) ، إذاً هو عدتنا وهو ملجأنا وهو ناصرنا، ولذلك نقول دائماً: لا حول ولا قوة إلا بالله، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] هذا هو القانون.

ولذلك لا نسير سيرتهم على الإطلاق، محرم علينا ذلك، فالنبي ينهى عن قتل النساء والذرية ويقول: (سبحان الله! ما كانت هذه تقاتل) إذاً خطاب النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى قتل النساء المجندات في الجيش؛ لأنه إنما ربط الإنكار لعلة أنها لا تقاتل، وإذا ثبت أن المرأة تقاتل جاز قتلها، مثلها مثل الرجل تماماً، (ما كانت هذه تقاتل) معنى ذلك أنها لو كانت تقاتل إذاً تستحق القتل، فكل امرأة ثبت أنها مجندة في جيش العدو تقتل مثل الرجل تماماً، بنص هذا الحديث.

وباختصار: عدتنا القادمة هو الإيمان بالله، والاستعلاء بهذا الدين، والولاء والبراء، وأول من ينبغي أن تتبرأ منه هو الكافر بالله عز وجل.

مثل إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28] ، انظر الكلام! وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ عقب من؟ عقب إبراهيم عليه السلام.

إذاً: الولاء والبراء جزء من لا إله إلا الله، ، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، فهذا معنى كلمة: (لا إله) أليس البراء رفض، والولاء انتماء؟ فعندما تقول: (لا إله) فهذا شطر البراء الموجود في الكلمة المباركة، و(إلا الله): هذا هو الانتماء، إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ : هذا هو معنى (لا إله) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27] (إلا الله) فجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام يتناقلها أبناؤه وذريته إلى يوم القيامة، فكل الأنبياء من نسله، وإن تعجب فعجب أن يقول الذي نزل بالتوحيد: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، يخشى -وهو الحنيف الذي أرسل بالتوحيد- أن يرتكس في عبادة الأصنام؛ فيستعيذ بالله من ذلك.

لأنها كلمة باقية في عقب هذا النبي الكريم شرفه الله بها، وشرف ذريته بها، فإعلانك البراءة من الكافرين لا يتم قول لا إله إلا الله واعتقادها إلا بذلك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب:4] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

روى الإمام النسائي في سننه أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم -من العهود والمواثيق-. قال: تبايعني على ألا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح للمسلمين، وتفارق المشركين) ، فتأمل هذا!

مفارقة المشركين ضرورة، ومن غير المتصور على الإطلاق بأي مذهب على وجه الأرض أن توالي عدو حبيبك وتزعم أنك تحبه! أو تقول: أنا أكرهه، ثم تبسط يدك إليه بالود! فأنت عندما تحب الله عز وجل؛ تكره أعداءه بتلقائية، بدون مجهود، و(تفارق المشركين).

لقد كانت جناية الطابور الخامس على أمتنا جناية عظيمة الأثر، بالغة الخطر، لا زلنا نتجرع مرراتها حتى الآن.

والعجيب: أن كل خائن وصل إلى قمة الهرم.. كيف؟ لا أدري! وكأن من مسوغات ارتقاء الهرم أن تكون خائناً! وكلما بالغ المرء في الخيانة كلما واصل ارتقاءه.

وقد قرأت منذ أيام في مذكرات أحمد لطفي السيد ، الذي لقبوه بأستاذ الجيل، ونزل هذا الكتاب بخمسة وعشرين قرشاً في وقت كان أسعار الورق فيه مرتفعة، وأسعار الكتب في الذروة، ولكن هذا الكتاب كان مدعوماً، وقد كتب عليه في أعلى الغلاف (المواجهة) ومن تحت (التنوير) وعلى غلاف الصفحة الأخيرة مذكور: لماذا تنشر هذه السلسلة بهذا الثمن الرخيص؟! قال لك: لأن الإرهاب سيحطم كل الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، فأحببنا أن نواجه الإرهاب بالتنوير.

في هذا الكتاب تحت عنوان (الجامعة الإسلامية) في أيام اللورد كرومر ، وعندما كان الإنجليز يحتلون مصر، ظهرت فكرة إنشاء جامعة إسلامية في مواجهة الإنجليز لتحرير البلد، فلما نطق بهذه الفكرة بعض الصحفيين على صفحات الجرائد آنذاك؛ هاب الإنجليز والغرب ذلك، فبعثوا يسألون عن حقيقة هذه ما الجامعة الإسلامية، فانبرى أستاذ الجيل يفند وينفي بقوة قلب وجرأة جنان أن يكون هناك أي فكرة للجامعة الإسلامية، وقال: هذا تفكير ساذج لصحفي كاذب.

كل هذه آثار ينبغي أن يكون المسلم عالماً بفقه البراءة منها؛ لأن من أسباب عدم ظهور هذه الشعيرة العظيمة: الجهل، ووضع الضعيف في مكان القوي، والقوي في مكان الضعيف.

ونحن نعلم أن الخوارج لما وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام -في صحيح البخاري- قال: (يدعون أهل الأوثان، ويقتلون أهل الإسلام) مثلاً: أنت مختلف مع واحد في مسألة، القنوت في الفجر -مثلاً- أبدعة هي أم لا؟ أو مسألة رفع اليدين في دعاء الجمعة بدعة أم لا؟ هذه المسائل الفرعية، مسألة أن الجماعة الفلانية مبتدعة أم لا، مسائل كهذه يهجره بسببها، ويصير جاره النصراني يقول له: صباح الخير، وصباح الفل، ويضحك في وجهه، وأول ما يرى أخاه يتجهم.. وهذا من أسلوب الخوارج، (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).

فتعاملك مع الناس يجب أن ينبني على أساس الدين، وبالتالي فإن هجرك لأصناف الناس يجب أن يكون وفق العقيدة التي يعتقدها كل صنف، فالمبتدع له نمط، والعاصي له نمط، والكافر له نمط، الرسول عليه الصلاة والسلام قال -كما في صحيح مسلم-: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) ضيق عليه، وهذا حديث في صحيح مسلم، أين ذهبت هذه الأحاديث؟!