جيل الصحابة[2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

ما زلنا -أيها الإخوة الكرام- نسرد بعضاً من مواقف هذا الجيل الفريد، فإن الله تبارك وتعالى خلق خُلق التأسي في بني آدم، كما قالت الخنساء :

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

فالذي جعلها تصبر أنها رأت غيرها مصاباً بهذه المصيبة، فكلما رأيت غيرك مصاباً في مصيبة هانت عليك مصيبتك، وقد قال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

كذلك حياة الصحابة، فإنك حين تطالع سيرتهم في الجهاد، والبذل والفداء، سواء كان ببذل النفس والمهج أو ببذل المال؛ تعلم أن صاحب هذا الخلق -حتى ولو لم يكن مؤيداً بدين- سينتصر؛ لأن فيه من جميل الخلال وخصال الكمال ما يجعله أهلاً أن يحكم هذه الأرض.

شبابنا الآن يسافرون إلى البلاد الأوروبية ليعملوا في المطاعم، ليقدموا للآكلين الخنزير والخمر، وكل ذلك بدعوى تحصيل المال والحصول على لقمة العيش، وهذا نوع من دناءة النفس، أن يأتي المرء ما حرم الله تبارك وتعالى، ويظن أنه بمعصية الله ليس يخسر، وهذا خطأ في التصور.

ودعونا نضرب هذا المثال: لو أن رجلاً من أكرم الناس لا يسأله سائل إلا أعطاه، ولا يطلبه مبلغاً إلا أعطاه مثله وربما أكثر، فأكبر مصيبة تصاب بها أن يموت هذا الرجل، لأنه لا يحوجك إلى أحد، كلما طلبت شيئاً أعطاك، فأكبر مصيبة أن يموت هذا الرجل، فالله تبارك وتعالى قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] مع أن الذي لا يموت هو الحي وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ إذاً: هذا الذي ذهب إلى بلاد الغرب واشتغل فيما حرم الله لم يتوكل على الله الحي الذي لا يموت.

فمهما كان الرقم كبيراً فإن له نهاية، لكن عطاء الله تبارك وتعالى وحده هو الذي لا ينقطع وليس له نهاية، كما يقول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54].

والحديث المشهور في صحيح مسلم وهو أجل حديث لأهل الشام، حديث أبي ذر : (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي ..) من ضمن هذا الحديث قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد -وقفوا في طابور من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة- وسأل كل واحد مسألته، فأعطيته مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر).

كل واحد يتمنى أي أمنية تخطر على باله من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، وربنا تبارك وتعالى يعطيه ما يتمناه، والذي ينقص من خزائن الله مثل أن تدخل إبرة في البحر المحيط وتخرجها، وهذه الإبرة لم تأخذ من البحر المحيط شيئاً، وهذا على سبيل التمثيل، وإلا فلا ينقص من خزائنه شيء، كما قال الخضر لموسى عليه السلام لما التقى به في مجمع البحرين، وكانت هذه الرحلة كلها بسبب كلمة قالها موسى عليه السلام كما في الصحيحين، فقد كان موسى عليه السلام في مجلس من مجالس بني إسرائيل، فقال كلاماً مؤثراً بكى له الناس ورقت قلوبهم. فقال قائل لموسى عليه السلام: يا كليم الله! هل هناك أحد هو أعلم منك؟ فقال: لا أعلم في الأرض من هو أعلم مني، فعتب الله عليه، لأنه لم يرجع العلم إليه، ما أدراك؟ سبحان من لا يعلم أسرار خلقه إلا هو، كم في الزوايا خبايا، وكم في الناس بقايا، فعتب الله عليه لأنه لم يقل: الله أعلم.

فقال الله له: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. وأمره أن يذهب إلى مجمع البحرين..

والتقى موسى عليه السلام بالخضر ، فجاء عصفور، فنقر في ماء البحر، فأخذ قطرة، فقال الخضر لموسى : يا موسى! مثل علمي وعلمك إلى علم الله كمثل ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر.

إذاً: المسألة تقريبية فقط، وإلا لا ينقص من خزائن الله شيء لماذا تركب معصية الله لتحصل على المال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بأربع كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن -أول كلمة من هذه الكلمات-: إن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من حر ماله، وقال له: هذا عملي وهذه داري، فاعمل وأد إليّ، فكان يبيع ويعطي غيره -يأخذ حصيلة البيع كل يوم ويذهب إلى جاره ويعطيه حصيلة البيع- قال عليه الصلاة والسلام: فأيّكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟) من فيكم يرضى بهذا؟! المال مالك، والمحل محلك، ويبيع عبدك ويعطي المال لجارك ... هذا العبد أتبقيه يوماً واحداً؟! ما أظنك تبقيه يوماً واحداً، فلماذا قبلت أن تفعل هذا مع الله، وأنت لا تفعله مع نفسك، وتأنف أن يكون عبدك كذلك؟!

فإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، يقول الله تبارك وتعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58] والتوكل: هو اعتماد القلب على الله، وهذا الذي كان يميز الصحابة رضي الله عنهم عن غيرهم، كان الواحد منهم تزهق نفسه ولا يقترب من محرمات الله، وكان الواحد يترك باباً من الحلال إذا اقترب من باب شبهة؛ خشية أن يقع في الشبهة.. لماذا؟ لأن لديه توكلاً كاملاً على الله أنه لن يضيعه.

فأنت عبده وأنت صنعته، فلن يضيعك.

ثم سوء الظن بالله أن تظن أنك إذا ركبت معاصيه أعطاك، وإذا أطعته حرمك، هذا سوء ظن بالله تبارك وتعالى.

أنت إذا كنت فقيراً فلذ بغني، ولا أغنى من الله؛ قال سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [مريم:40].

انتبه إلى كلمة (نحن) مع أن الكلام يمكن أن يفهم بدونها: (إنا نرث الأرض من وعليها) لكنه قال إِنَّا نَحْنُ [مريم:40] ضمير العوض: إِنَّا نَحْنُ ، يعني: هذا كله إليه؛ فالله سبحانه وتعالى له الملك وحده، وهو القادر على شيء.

وأصحاب النظام العالمي الجديد لو أحبوا أن يصنعوا مكيفاً مركزياً للعالم، يدفئ العالم في الشتاء، ويجعله برداً في الصيف.. فوالله لن يستطيعوا ذلك أبداً، ولو أنفقوا أموال الدنيا كلها.

فالقادر هو الله، والرازق هو الله، بيده خزائن السموات والأرض.

بعض الشباب يذهبون إلى الخارج -بلاد أوروبا- يبحثون عن عمل، فيرتكبون المعاصي والمنكرات في سبيل جمع المال، وهذا لا يجوز، ولم يكن هذا دأب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.

فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه خطر بباله أن يأخذ جميع ماله الذي جمعه طول عمره، ويهرب في الليل من مكة إلى المدينة فاراً بدينه، فعلم المشركون أنه سيهرب، فلحقوه بالخيول، فقبضوا عليه في منتصف الطريق، فقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تأخذ المال وتذهب؟!

فقال: أرأيتم إن خليت بينكم وبين المال -أعطيتكم المال- أتخلون بيني وبين وجهي؟ أي: بيني وبين الجهة التي أريد أن أذهب إليها؟ قالوا: نعم. فأعطاهم المال غير نادم ولا آسف، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال له: (ربح البيع يا أبا يحيى :إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]) فهذه صيغة عقد، وهذا العقد ينقصه توقعيك أنت فقط، لأن المشتري مضمون، وهو الله تبارك وتعالى، فهذا عقد بينك وبينه، هل توقع على هذا العقد أم لا؟ إن الله اشترى هو ذا العقد، ينقصه توقيعك أنت، ولكن أكثر الناس يهاب أن يوقع.

اعلم أن كل إنسان على وجه هذه الأرض مبتلى، فليكن بلاؤك في ذات الله عز وجل، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يُرْزَقْها بعمله، ابتلاه حتى يبلغها).

أي أن البلاء ليس شرطاً أن يكون في الله تعالى، كرجل مؤمن ولكنه لا يحافظ على النوافل والقربات المستحبة، وقد كتب الله له منزلة، فإنه إن لم يبلغ المنزلة التي سبقت من الله له بعبادته، ابتلاه الله عز وجل ليرفعه إليها.

فإذا ابتليت في ذات الله كان أشرف لك.. لماذا؟ لأن سلفك في ذلك هم الأنبياء، وحين تلتفت في الطريق، تجد أن أسلافك هم الأنبياء.. تطمئن نفسك.

وأنت عندما تسجن (مثلاً) من أجل دينك تختلف اختلافاً كلياً مع ذلك الذي يسجن من أجل الحشيش أو القتل أو غير ذلك ... فلا بد أن يصيبك بلاء، فاقبل أن يكون في الآخرة عند ربك... لماذا؟ لأن سلفك هم الأنبياء، والصحابة والتابعين، والأئمة المتبوعين، وهم أتباع الصادق صلى الله عليه وسلم.

يقول عليه الصلاة والسلام : (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه).

في الابتلاء سلامة للقلوب من أمراضها

إن المرء يوم القيامة يوزن بقلبه، وسلامة هذا القلب فيه سلامة العقل، وكثير من الناس يظن أن العقل في الدماغ، وهذا غلط، فالعقل في القلب وليس في الدماغ، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج:46] فالعقل في القلب وليس في الدماغ، فسلامة القلب معناها سلامة عقلك. وهذا يعني: سلامة تفكيرك.

وهناك قصة مشهورة نشرت في الجرائد بمناسبة أن الدكتور مجدي يعقوب الجراح المصري الذي يقطن في لندن، قد أجرى عملية نقل قلب لشاب إنجليزي عمره تسع عشر سنة، ونجحت العملية عشرة على عشرة إلا أنها دمرت خلايا مخ الشاب، فرفع والد الشاب قضية على هذا الدكتور يطالبه بتعويض.

فبمناسبة هذا الخبر نشرت الجرائد قصة الدكتور برنر -أول طبيب نقل قلباً في الدنيا، وكان هذا سنة (1963م أو 1965م)- نقل قلباً لمريض في سويسرا، وبعد أن نقل هذا القلب بطريقة ميكانيكية جيدة، بدأ المريض يخلط بين الأمور؛ وظن في البداية أن ذلك من تأثير البنج، لكن المريض لم يفق وظل يخلط دائماً.

وبعد ذلك نقل هذا الطبيب برنر قلباً لرجل آخر، فبدأ هذا الرجل أيضاً يخلط بين الأمور، ويأتي بكلام لا يفهم معناه، فأرسل الدكتور مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي؛ مع أنه لا لقاء بينهما ولا يعرف أحدهما الآخر؛ لكنه يهذي بقصص وحكايات لصاحب القلب الأصلي...

حينئذ أسقط في يد هذا الدكتور، وعقد مؤتمراً صحفياً، وأعلن بأسى بالغ اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: ما قيمة إنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته..؟! واعتزل الطب بسبب هذه المسألة، وهناك بعض الأطباء ينسون الفوط وأجهزة التليفونات في بطن المريض أحياناً، ويعتبرونه أمراً عادياً، وهذا فيه جناية على المريض.

واعلم أن العبد يوم القيامة يوزن عند الله بقلبه: (يأتي الرجل السمين البدين لا يزن عند الله جناح بعوضة) لماذا؟ قال ابن القيم رحمه الله: لأن العبد يوزن عند الله بقلبه: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].

وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب، وأول ما تريحه يموت، فالقلب بخلاف الجوارح، فعندما تأكل وتشرب جيداً تنمو الجوارح، وتكبر العضلات، وينتفخ صدرك، وتصير بحالة جيدة، فإذا قطعت الأكل لمدة أسبوع، تجد أنك قد نحفت، وأن العضلات بدأت تتفسخ تضمر؛ فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن، ففيها سلامة القلب، فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن، ولذلك اختار الله عز وجل البلاء، فجعله من نصيب أوليائه؛ لا لهوانهم عليه، ولكن ليحصن قلوبهم؛ لأن أحدهم لو استراح، وركن إلى الدنيا، ضعف قلبه، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً وأدناهم الناس همة هم أهل الترف، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16].

(أمرنا مترفيها) يعني: بالطاعة: فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وفي قراءة أخرى (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها) أو (أمّرنا مترفيها) لكنها قراءة شاذة -أعني: (أمّرنا)- لكن العلماء يقولون: إن القراءات الشاذة تستخدم للتأنيس، كقراءة: (أمّرنا مترفيها) أي: جعلناهم أمراء، تخيل إنساناً أميراً وجاهلاً، فلا يشتهي شهوةً إلا وجدها عند أطراف أصابعه.

إذاً: حين ابتلاك الله عز وجل ليس لهوانك عليه، ولكن ليضمن سلامة قلبك له تبارك وتعالى، فلا تبتئس.

إن المؤمن مصاب ومبتلى، لكن مصيبته ومبتلاه في ذات الله:

ولست أبالي حين أقتل مسلمـاً على أي جنب كان في الله مصرعي

وسلامة قلبك تقتضي إذا شعرت بأي تغير في هذا القلب أن تتصل بالخالق سبحانه وتعالى مصرف القلوب.

سأضرب لكم مثلاً: لو أن شخصاً أحب أن يقتل ملكاً أو رئيساً، فهل يستطيع بمجرد أن يفكر بذلك أن يقتله؟ لا. لا يستطيع ذلك، فلابد من أن يظل شهوراً أو سنين، يراقبه ويخطط لمصرعه، ولابد أن يعمل دراسة طويلة عريضة.. لماذا؟ لأن قتل الملوك ليس سهلاً، ومن الصعب جداً أن يقتل الإنسان ملكاً.

كذلك القلب -ملك البدن- لا يستطيع الشيطان أن يغتاله بسهم يصوبه إليه ابتداءً، فالقلب عليه حراسة شديدة؛ لأنه مِلْك الرب تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا القلب آية من آيات الملك تبارك وتعالى.

وإذا مات قلب الإنسان، فقد سبقته ذنوب كثيرة وسنوات من الغفلة، فسهل على الشيطان إصابة قلبه.

فالإنسان الذي يريد أن يلقى ربه بقلب سليم -أول ما يشعر أن هناك تغيراً في هذا القلب؛ وفيه قسوة شديدة وعينه لا تتأثر بالقرآن- ينبغي له أن يبحث عن طبيب رباني يداويه.

ولو أنك أصبت -والعياذ بالله- بتصلب شرايين أو جلطة أو غير ذلك من الأمراض، فإنك تسارع إلى الطبيب لتعالج جسدك قبل فوات أوان نفع الطب، فلماذا حين يكون الأمر متعلقاً بروحك وقلبك لا تسارع إلى علاجه؟!

إن المرء يوم القيامة يوزن بقلبه، وسلامة هذا القلب فيه سلامة العقل، وكثير من الناس يظن أن العقل في الدماغ، وهذا غلط، فالعقل في القلب وليس في الدماغ، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج:46] فالعقل في القلب وليس في الدماغ، فسلامة القلب معناها سلامة عقلك. وهذا يعني: سلامة تفكيرك.

وهناك قصة مشهورة نشرت في الجرائد بمناسبة أن الدكتور مجدي يعقوب الجراح المصري الذي يقطن في لندن، قد أجرى عملية نقل قلب لشاب إنجليزي عمره تسع عشر سنة، ونجحت العملية عشرة على عشرة إلا أنها دمرت خلايا مخ الشاب، فرفع والد الشاب قضية على هذا الدكتور يطالبه بتعويض.

فبمناسبة هذا الخبر نشرت الجرائد قصة الدكتور برنر -أول طبيب نقل قلباً في الدنيا، وكان هذا سنة (1963م أو 1965م)- نقل قلباً لمريض في سويسرا، وبعد أن نقل هذا القلب بطريقة ميكانيكية جيدة، بدأ المريض يخلط بين الأمور؛ وظن في البداية أن ذلك من تأثير البنج، لكن المريض لم يفق وظل يخلط دائماً.

وبعد ذلك نقل هذا الطبيب برنر قلباً لرجل آخر، فبدأ هذا الرجل أيضاً يخلط بين الأمور، ويأتي بكلام لا يفهم معناه، فأرسل الدكتور مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي؛ مع أنه لا لقاء بينهما ولا يعرف أحدهما الآخر؛ لكنه يهذي بقصص وحكايات لصاحب القلب الأصلي...

حينئذ أسقط في يد هذا الدكتور، وعقد مؤتمراً صحفياً، وأعلن بأسى بالغ اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: ما قيمة إنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته..؟! واعتزل الطب بسبب هذه المسألة، وهناك بعض الأطباء ينسون الفوط وأجهزة التليفونات في بطن المريض أحياناً، ويعتبرونه أمراً عادياً، وهذا فيه جناية على المريض.

واعلم أن العبد يوم القيامة يوزن عند الله بقلبه: (يأتي الرجل السمين البدين لا يزن عند الله جناح بعوضة) لماذا؟ قال ابن القيم رحمه الله: لأن العبد يوزن عند الله بقلبه: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].

وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب، وأول ما تريحه يموت، فالقلب بخلاف الجوارح، فعندما تأكل وتشرب جيداً تنمو الجوارح، وتكبر العضلات، وينتفخ صدرك، وتصير بحالة جيدة، فإذا قطعت الأكل لمدة أسبوع، تجد أنك قد نحفت، وأن العضلات بدأت تتفسخ تضمر؛ فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن، ففيها سلامة القلب، فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن، ولذلك اختار الله عز وجل البلاء، فجعله من نصيب أوليائه؛ لا لهوانهم عليه، ولكن ليحصن قلوبهم؛ لأن أحدهم لو استراح، وركن إلى الدنيا، ضعف قلبه، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً وأدناهم الناس همة هم أهل الترف، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16].

(أمرنا مترفيها) يعني: بالطاعة: فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وفي قراءة أخرى (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها) أو (أمّرنا مترفيها) لكنها قراءة شاذة -أعني: (أمّرنا)- لكن العلماء يقولون: إن القراءات الشاذة تستخدم للتأنيس، كقراءة: (أمّرنا مترفيها) أي: جعلناهم أمراء، تخيل إنساناً أميراً وجاهلاً، فلا يشتهي شهوةً إلا وجدها عند أطراف أصابعه.

إذاً: حين ابتلاك الله عز وجل ليس لهوانك عليه، ولكن ليضمن سلامة قلبك له تبارك وتعالى، فلا تبتئس.

إن المؤمن مصاب ومبتلى، لكن مصيبته ومبتلاه في ذات الله:

ولست أبالي حين أقتل مسلمـاً على أي جنب كان في الله مصرعي

وسلامة قلبك تقتضي إذا شعرت بأي تغير في هذا القلب أن تتصل بالخالق سبحانه وتعالى مصرف القلوب.

سأضرب لكم مثلاً: لو أن شخصاً أحب أن يقتل ملكاً أو رئيساً، فهل يستطيع بمجرد أن يفكر بذلك أن يقتله؟ لا. لا يستطيع ذلك، فلابد من أن يظل شهوراً أو سنين، يراقبه ويخطط لمصرعه، ولابد أن يعمل دراسة طويلة عريضة.. لماذا؟ لأن قتل الملوك ليس سهلاً، ومن الصعب جداً أن يقتل الإنسان ملكاً.

كذلك القلب -ملك البدن- لا يستطيع الشيطان أن يغتاله بسهم يصوبه إليه ابتداءً، فالقلب عليه حراسة شديدة؛ لأنه مِلْك الرب تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) وهذا القلب آية من آيات الملك تبارك وتعالى.

وإذا مات قلب الإنسان، فقد سبقته ذنوب كثيرة وسنوات من الغفلة، فسهل على الشيطان إصابة قلبه.

فالإنسان الذي يريد أن يلقى ربه بقلب سليم -أول ما يشعر أن هناك تغيراً في هذا القلب؛ وفيه قسوة شديدة وعينه لا تتأثر بالقرآن- ينبغي له أن يبحث عن طبيب رباني يداويه.

ولو أنك أصبت -والعياذ بالله- بتصلب شرايين أو جلطة أو غير ذلك من الأمراض، فإنك تسارع إلى الطبيب لتعالج جسدك قبل فوات أوان نفع الطب، فلماذا حين يكون الأمر متعلقاً بروحك وقلبك لا تسارع إلى علاجه؟!

إن الله تبارك وتعالى ما اختار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن نظر إليهم فوجدهم أطهر الناس قلوباً.

فهذا أبو الدحداح رضي الله عنه مرة -كما في مسند البزار- كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] وكان لـأبي الدحداح بستان به ستمائة نخلة، وهذه بضاعة رائجة عند العرب.

والأسودان التمر والماء كانت أساس حياة العرب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بيت لا تمر فيه جياع أهله).

إنسان يقول: نحن ليس لدينا تمر ولا نأكل تمراً، ونحن -والحمد لله- في نعمة وشبع؟! نقول له: إن الجوع هنا ليس معناه أن تكون جائعاً دائماً، فأنت لو أكلت جبنة أو زبدة، فما هي إلا نصف ساعة أو ربع ساعة، وإذا بك جائع، لكن التمر بخلاف ذلك، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (جياع أهله) .. ليس شرطاً أن يظل جائعاً دائماً، ربما يكون جائعاً ربع ساعة، وربما يكون جائعاً خمس دقائق، ثم ينتهي جوعه.

وكانت التمور هي البضاعة الرائجة عند العرب، فـأبو الدحداح رضي الله عنه حين سمع الآية قال: (يا رسول الله! الله يطلب منا القرض؟! قال: نعم. قال: ما لي عند ربي إن أقرضته حائطي هذا؟ -ستمائة نخلة إن أعطيته إياها فماذا لي؟- قال: لك الجنة. قال: فإني أشهدك أنني أقرضت حائطي هذا ربي) وقام من المجلس وحاله ليس مثل حالنا؛ بمجرد أن نخشع وترق قلوبنا يقول أحدنا: خذوا روحي! وبعد قليل يأسف. ما الذي جعلني أقول ذلك؟! ما الذي ورطني هذه الورطة؟!

أما هؤلاء الصحابة فقد كانت حرارة الإيمان عندهم دائمة، فلما أقرض الحائط هذا كله لله تبارك وتعالى، قام من المجلس، والحائط هذا كان سوراً على الستمائة نخلة، وكانت بيته بداخل هذا السور، فوقف على الباب ولم يدخل؛ لأنه لم يعد ملكه، فقد أقرضه ربه، ونادى على امرأته: يا أم الدحداح ! اخرجي بأولادك؛ فإني أقرضت حائطي هذا ربي.

انظر إلى جواب المرأة! ما قالت: ما هذا الذي فعلت يا رجل؟! لماذا لم تكلمنا؟! أنت ماذا جرى لك؟! والأولاد.. أما تركت شيئاً للأولاد؟!

قالت له: (ربح البيع يا أبا الدحداح ، ربح البيع يا أبا الدحداح )

أنعم بتلك النساء! والله إننا بحاجة إلى أن تتعلم نساؤنا من نساء الصحابة.

انظر إلى طلحة بن عبيد الله -أحد العشرة- في ليلة من الليالي قعد يتقلب في سريره وما استطاع أن ينام، يتقلب يميناً ويتقلب شمالاً وعيناه مفتوحتان، تقول له امرأته: ما بك يا طلحة ؟! انظر إلى ما قالت له: (هل بدر منا شيء فنعجبك؟!) يعني: حصل مني شيء أسترضيك، طول الليل سهران ولا تستطيع النوم، هل فعلنا بك شيئاً؟ فقال لها: (نعم حبيبة المرء المسلم أنت! -أنت لا أحد مثلك- لكن جاءني مال ولا أدري كيف أفعل به).

انظر! جاءه مال ولا يدري أين يصرفه، هل تعرف ماذا قالت له؟ قالت له: (أنفق على أرحامك وفرقه فيهم) أرسله لأقاربك ووزعه عليهم.

قال الراوي: (فأنفق ثلاثمائة ألف) ثلاثمائة ألف فرقها في أقاربه ...

فانظر إلى المرأة وهي تقول: (ربح البيع يا أبا الدحداح !) فخرج أبو الدحداح من كل ماله.

وهذه تقول: (أنفق على أرحامك) فأنفق ثلاثمائة ألف، فهذا هو الذي كان يميز جيل الصحابة.

وفي الصحيحين من حديث أنس أن عبد الله كانوا ينسبونه إلى غير أبيه -هو عبد الله بن حذافة - أبوه اسمه حذافة ، فكانوا يقولون له: أبوك ليس حذافة ؛ لأن أمك في الجاهلية فعلت وفعلت وجاءت بك من حرام، فـعبد الله لم يتحمل هذه الكلمة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسألوني في مقامي هذا شيئاً إلا أخبرتكم، فقام عبد الله بن حذافة وقال: يا رسول الله! من أبي؟ -أمام الناس جميعاً حتى يسمعوا رده- قال: أبوك حذافة ) فـعبد الله بن حذافة بعد أن ذهب إلى البيت ماذا قالت له أمه؟ قالت: يا عبد الله ! ما رأيت أعق منك! أوأمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارفه أهل الجاهلية، فتفضحها على رءوس الأشهاد؟!) افترض أنني كنت في الجاهلية فعلت شيئاً وأن أباك ليس حذافة ، فتكون بسؤالك قد فضحتني!!


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع