شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبل أن نبدأ بالقراءة أحب أن أنبه إلى أن هذا عنوان لمسألة جديدة وهي مسألة العلو والفوقية والاستواء، جمعها الشيخ الصابوني في موضع واحد، وذلك لاقتران هذه الأمور بعضها ببعض، فالاستواء يدل على العلو والفوقية، وكذلك العلو والفوقية تضمنت معنى الاستواء، بمعنى: أن أدلة الاستواء تدل على العلو والفوقية، وكذلك أدلة العلو والفوقية تؤيد أدلة الاستواء.. فهو هنا يقرر العلو والفوقية والاستواء لما بينهما من الاقتران، ولذلك الذين أولوا الاستواء اضطروا إلى تأويل الفوقية والعلو، وكذلك العكس أيضاً، فالذين أولوا العلو والفوقية اضطروا إلى تأويل الاستواء، وإن كانت مسألة الاستواء هي أول ما بدأ المعطلة فيها، بمعنى: أن تعطيل الاستواء كان قبل الكلام في العلو والفوقية، خاصة عند المتكلمين الذين ورثوا الجهمية والمعتزلة، فإنهم تجرءوا على تأويل الاستواء قبل جرأتهم على إنكار العلو والفوقية لله عز وجل، أي: بذاته سبحانه، وكذلك الجهمية كانت الشرارة الأولى لإنكار العلو عندهم بدأت بإنكار الاستواء، فهي متلازمة؛ لأن من أثبت العلو والفوقية جاز أن يثبت في مبدئه الاستواء ما دام ثبت فيه النص، وكذلك العكس من أثبت الاستواء لله عز وجل كما يليق بجلاله لزمه بالضرورة إثبات العلو والفوقية لله تعالى بذاته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سبع سماوات على عرشه كما نطق به كتابه في قوله عز وجل في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وقوله في سورة يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3]، وقوله في سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2]، وقوله في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:59]، وقوله في سورة السجدة: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4]، وقوله في سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ].

هنا قرر المصنف أدلة الاستواء أولاً؛ لأنها أدلة قاطعة في إثبات الاستواء لله عز وجل بذاته على ما يليق بجلاله، ثم إنها مستلزمة للدلالة على العلو، وكذلك سيبدأ الآن بعد قليل في المقطع التالي في إثبات أدلة العلو؛ لأنها عاضدة لأدلة الاستواء؛ فأدلة العلو تعضد أدلة الاستواء، بينما أدلة الاستواء تستلزم إثبات العلو.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لـهامان : ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37]، وإنما قال ذلك لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء، ألا ترى إلى قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:37] يعني: في قوله: إن في السماء إلهاً.

وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته ].

أيضاً في كلام فرعون الذي ذكره الله عز وجل وفي محاولته الرقي في السماء فيه دلالة على أن مسألة العلو مسألة فطرية، وأن فرعون نظراً لأنه في الباطن مستيقن ببعض الأمور الفطرية بما فيها علو الله عز وجل، ففرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً، فلو لم يكن عنده شيء من المعرفة الفطرية بأن الله في السماء مع ورود ذلك على لسان موسى لما كلّف نفسه وأخذ هذا الأمر بجد، لكن عنده نزعة فطرية للاعتراف بأنه إن كان هناك إله لموسى فإنه سيكون في السماء، هذه تدل عليها الآية، والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به، ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله ].

في هذه العبارات شيء من الترادف وشيء من الخلاف أيضاً؛ لأن هذه العبارات في الحقيقة عبارات موجزة في سطرين لكنها ترمز إلى قواعد، فقوله: (يثبتون من ذلك ما أثبته الله لنفسه)، يعني بذلك: أن الأصل في كل ما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، ليس للناس في ذلك دخل، وليس لعقول الناس تدخل في هذا الأمر، هذه القاعدة الأولى.

القاعدة الثانية: قال: (ويؤمنون به)، يعني بذلك: يؤمنون بأن ما جاء عن الله حق على حقيقته؛ لأن كلمة الإثبات كانت تكفي عن هذا المعنى، لكن نظراً لأن قصد الشيخ أن السلف يؤمنون بأن ما ثبت عن الله له حقيقة، هذا معنى يؤمنون به؛ لأنه يشير ضمناً إلى طائفة من الناس الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه، لكن لا يؤمنون بالحقيقة، وإنما يثبتونها شكلاً أو ظاهراً كأصحاب التخييل وأصحاب التمثيل وأصحاب التفويض وأصحاب التوقف.. يثبتون ما أثبته الله لنفسه، لكن لا يثبتون الحقيقة، ولا يثبتون لله الأسماء والصفات والأفعال التي ثبتت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقتها، وهذه ميزة مذهب السلف، فهذا معنى قوله: ويؤمنون به، أي: أنه حق على حقيقته.

ثم قال: (ويصدّقون الرب جل وعلا في خبره)، هذا تأكيد لما سبق.

ثم قال: (ويطلقون ما أطلقه الله سبحانه وتعالى)، قصده أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، هذا معنى الإطلاق.. يطلقون: بمعنى يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه.

ثم ذكر القاعدة الأخرى وهي: (ويمرّونه على ظاهره) يعني بذلك: أنهم يعتقدون أن كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق على ظاهره، الذي هو إثبات ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، هذا هو الظاهر: إثبات الصفة على ما يليق بجلال الله عز وجل، هذا معنى الظاهر، أي: أن الظاهر إثبات الحقيقة، وهذه ترادف قوله: (ويؤمنون به)، وليس المقصود بالظاهر الإيمان بمجرد الألفاظ والحروف كما يقول المفوضة والمتوقفة.. وغيرهم، إنما المقصود: يؤمنون به على ظاهره، بمعنى: أن ظاهره إثبات الحقيقة، وأن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقائق، هذا هو الظاهر الذي خاطبنا الله به.

أنواع العلم بأسماء الله وصفاته وبيان معناها وذكر الأدلة

قوله: (ويكلون علمه إلى الله) وعلم أسماء الله وصفاته على نوعين:

النوع الأول: إثبات الحقائق كما يليق بجلال الله، فهذا لابد أن يعتقد ولا يفوّض.

النوع الثاني وهو الذي قصده الصابوني هنا في قوله: (ويكلون علمه): وهو الكيفيات، ليس المقصود بالعلم الحقيقة هنا، المقصود بالعلم هنا الكيفية، فالسلف يكلون حقيقة أسماء الله وصفاته وأفعاله إلى الله عز وجل، والمراد كيفياتها، أما حقيقتها التي هي معانيها الثابتة فليست محل إشكال ولا توقف؛ لأن الله خاطبنا بها بلسان عربي مبين، والله عز وجل خاطبنا بها لنعتقدها له سبحانه، ولنعتقد له الكمال من خلالها.

فمن هنا لابد أن يفهم في هذه العبارة وما يشبهها على ألسنة السلف -وهي كثيرة- أن قولهم: (ويكلون علمه إلى الله) ليس المقصود تفويض الأمر بلا إثبات، وليس المقصود التوقف بلا إثبات، وليس المقصود التأويل، إنما المقصود الكيفيات، فالكيفيات لا يعلمها إلا الله عز وجل، فتكون من باب الأمور الغيبية التي يوكل علمها إلى الله.

قال رحمه الله تعالى: [ ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7] كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك، ورضي منهم فأثنى عليهم به.

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي حدثنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظ من أصله العتيق حدثنا أبو يحيى بن كبيسة الوراق حدثنا محمد بن الأشرس الوراق أبو كنانة حدثنا أبو المغيرة الحنفي حدثنا قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.

وحدثنا أبو الحسن بن إسحاق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأَمر به أن يُخرج من مجلسه ].

هذه الكلمات تمثل قواعد أيضاً عند السلف، ولا تزال هي القواعد التي يرد بها على المؤولة؛ لأنها محكمة من كل وجه، وهي عصارة فهم السلف لمقتضى النصوص، فهذا التقعيد للإثبات هو خلاصة مقتضى نصوص الشرع الواردة في الكتاب والسنة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وذكرت على عدة وجوه كلها متشابهة ومتقابلة، فالكلام الذي نسب إلى أم سلمة سواء ثبت عنها أو لم يثبت هو قواعد صحيحة ذهبية ميّزت منهج السلف عن غيرهم في هذا الأمر في صفة الاستواء وفي غيرها، فهذه قاعدة تقال في جميع الصفات، فيقال: الاستواء غير مجهول، ويقال: النزول غير مجهول، ويقال: المجيء غير مجهول، ويقال: الغضب لله عز وجل غير مجهول، وهو كما يليق بجلاله..، وهكذا بقية الصفات، والكيف غير معقول.. فالاستواء أو غيره من الصفات يقال: إنه غير مجهول، بمعنى أنه عُلم بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً، وثانياً: عُلم بأنه حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فهو غير مجهول لدى المخاطبين لا سيما أن المخاطب المؤمن إذا سمع كلام الله عز وجل في صفاته أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله أثبتها لأول وهلة على الحقيقة، ثم زال عنه التشبيه باستشعار القاعدة الأخرى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فلابد من استشعار هذا المعنى دائماً، وإثبات الصفة لله عز وجل على الحقيقة؛ لأنا خوطبنا بحقائق نعلمها، لكن الكيفيات المعلومة في المخلوقات منفية عن الله عز وجل، فتثبت الصفات لله عز وجل مع نفي التشبيه والمماثلة.

إذاً: فالاستواء غير مجهول، بمعنى: أن له حقيقة، هذه الحقيقة هي بالنسبة للمخلوقات لها معنى ناقص، وبالنسبة لله عز وجل لها معنى كامل، فاستواء الله عز وجل يناسب كماله وهو غير مجهول.

وكذلك الكيف غير معقول، بمعنى: أن العقول لا تدرك الكيفيات، وليس بأنه غير معقول لا تؤمن به العقول، بل هنا غير معقول، بمعنى: لا تدركه العقول على جهة الكيفية، وبعض الناس فهمهم غلط، وكثير من المؤولة استندوا إلى هذه المسألة وجعلوها وسيلة للتأويل إلى هذه العبارة، خاصة متأخرة الأشاعرة والماتريدية، ففسروا كلمة (الكيف غير معقول) بأن معنى ذلك أن ظواهر أسماء الله وصفاته غير معقولة، وغير معروفة الحقيقة، أو لا يؤمن بحقائقها، فلجئوا إلى التأويل، أما السلف فمقصودهم بغير معقول: أي لا تدرك العقول الكيفيات، ولا تحيط بأسماء الله وصفاته وأفعاله عز وجل.

وكذلك (الإقرار به إيمان)، بمعنى: لا يتم الإيمان إلا به، والجحود به كفر.

ومثلها القاعدة السابقة: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول..) إلى آخره، وفي بعض الروايات: (الاستواء معلوم) بدل (غير مجهول)، وهو بمعنى غير مجهول، ورواية: (الاستواء معلوم) وردت عن بعض السلف، ونسبت إلى مالك .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس يعني يسأله عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيته وجد من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء، وأطرق القوم، فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سري عن مالك فقال: الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه، وإني لأخاف أن تكون ضالاً، ثم أَمر به فأُخرج ].

الإمام مالك رحمه الله غضبه وانفعاله كان تعظيماً لله عز وجل، فلم يكن يتصور أن مسلماً يسأل مثل هذا السؤال في حق صفات الله عز وجل؛ لأن المسلمين قبل ورود شبهات الجهمية والفلاسفة والزنادقة كانوا يعظّمون الله عز وجل ولا يرد في ذهن أحدهم السؤال عما يتعلق بكيفيات أسماء الله وصفاته، ويستعظمون هذا السؤال أشد الاستعظام، ويستنكرونه ويستهولونه، ولا يجرؤ أحد عليه، بل حتى ولا أن يفكّر فيه في خاطره، فالإمام مالك حينما سمع هذا الكلام عرف أن الناس انتهكوا حرمات الله عز وجل، فغضب غيرة على حق الله عز وجل وخوفاً من الله، واستعظاماً لهذا السؤال وتعظيماً لله عز وجل وهيبة من بطشه، فلذلك حصل له ما حصل.

وهكذا ينبغي أن يكون المسلم دائماً معظماً لله عز وجل، فلا يسمح لشبهات الشياطين وأتباع الشياطين بأن ترد على عقيدته، أو أن ترد في مجالسه مثل هذه الأمور التي فيها عدم تعظيم لله عز وجل وعدم أدب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته.. وذكر نحوه.

وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء، وقيل له: كيف استوى على عرشه؟ فقال: أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كُشف لنا، وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه، ولم يخبرنا كيف استوى.

وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى بائناً منه خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض ].

الإمام ابن المبارك رحمه الله من أئمة السنة وأئمة الهدى الذين شهدت لهم الأمة بالفضل والإمامة في الدين والرسوخ في العقيدة، وقوة الدفاع عنها، وقد تكلم بكلمات لم تكن معهودة عند السلف قبله بشكل ظاهر، مثل قوله: (بائناً منه خلقه)، ولذلك سئل أيضاً في مقام آخر فقيل له: بحد؟ قال: (نعم، بحد)، وهذا الكلام تكلم فيه أمثال عبد الله بن المبارك في ذلك الوقت عندما عمّت البلوى بشبهات الجهمية، وصاروا يتكلمون صراحة أمام عامة الناس وفي المشاهد والمجالس والمساجد وغيرها بهذا الأمر المنكر، ويصفون الله عز وجل بأنه غير بائن من خلقه، وأنه غير مستوٍ على عرشه، وأنه ليس فوق السماوات، وأنه ليس فوق العرش، يصرّحون بذلك، فكان لابد من حماية عقائد الأمة من هذه الشبهات التي أُعلنت وفشت، ومن هذه البدعة التي ظهرت وانتشرت، ولو لم تظهر وتنتشر لما تكلم الإمام ابن المبارك بمثل هذه الكلمات التي لم تعهد في تقرير العقيدة إلا فيما بعد حينما عمّت البلوى؛ فلذلك قال: (نعرف ربنا فوق سبع سماوات)؛ بناءً على أن ذلك ثبت في القرآن والسنة، وأن ذلك على ما يليق بجلاله، ثم قال: (على العرش استوى بائناً منه خلقه)، يعني: أنه ليس هو خلقه، ولا مخالطاً بخلقه، ولا حالاً في خلقه، ولا متحداً بهم.. ولا نحو ذلك مما يقول به الفلاسفة أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ولا مما يقول به الجهمية الذين يقولون بأن الله عز وجل وجوده وجود مطلق أو وجود ذهني فقط، وأنه لا يمكن أن يحدد له مكان، بمعنى: لا نثبت له العلو، فحينما شاعت هذه المقولة اضطر الإمام ابن المبارك أن يقول: (بائناً منه خلقه)، معنى بائن: أنه ليس هو هم ولا مخالط لهم ولا ممازج ولا حال.. إلى آخره، بائن: يعني: أن الخلق غير الله والله غير الخلق، بينونة مطلقة، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يكون غير بائن من خلقه.

ثم إنه قال أيضاً في عبارة أخرى ربما سترد قال: بحد، يقصد بحد أن وجود الله عز وجل غير وجود المخلوق، وقوله: (بحد) هذا الكلام جديد بمعنى: أنه لم يعهد انتشاره على ألسنة السلف قبل عبد الله بن المبارك إلا كلمات معدودات قال بها بعض أهل العلم، لكن عبد الله بن المبارك لإمامته اشتهرت هذه الكلمة عنه وطارت بها الركبان، وعرفت في جميع أقاليم المسلمين في وقتها، وصارت من الآثار التي تروى بالإسناد؛ لأنها كانت هي الرد الحازم الجازم القوي العقلي المبني على الكتاب والسنة على الجهمية في ذلك الوقت، فاضطر لأن يقول بهذا الكلام لمقاومة البدعة، وكثيراً ما يضطر المسلمون في شتى العصور إلى استحداث بعض المناهج أو بعض المصطلحات المستنبطة من الكتاب والسنة لمقاومة مناهج ومصطلحات جديدة هدامة ضد العقيدة أو ضد أصول الإسلام، كما هو حاصل في عصرنا.

ولذلك أنا أحب أن أنبه إخواني طلاب العلم الذين يعتبون على بعض المجتهدين في الرد على أهل الأهواء استعمالهم لبعض المناهج والقواعد والوسائل والأساليب المستنبطة من الكتاب والسنة في رد أهواء وشبهات القوم من المعاصرين، أقول: لا ينبغي استنكار هذه الأساليب ما دامت مبنية على أسس صحيحة وعلى قواعد السلف ومناهجهم الأصلية، حتى وإن كانت المصطلحات لم يستعملها الأولون ما دامت على مقتضى النصوص والقواعد.

فلابد من مقاومة الاتجاهات والآراء والمناهج الحديثة بما يناسب مدارك الناس ومفاهيمهم بما يلغي ويحمي الأمة من أوضار هذه المناهج والأساليب والمصطلحات الحديثة، فلا ضير على طالب العلم أن يقاوم هذه المناهج بمصطلحاتها ما دام لها مسار في الكتاب والسنة ومناهج السلف، ولها مسار من اللغة.

كلام ابن خزيمة فيمن أنكر علو الله عز وجل

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ في كتاب (التاريخ) الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه (معرفة الحديث) اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما، يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) رواه البخاري ].

في مثل كلام ابن خزيمة رحمه الله نجد أن السلف أحياناً يلجئون إلى مثل هذه الأساليب القوية الرادعة، لكن ذلك عندهم على شروط وضوابط، يعني: هذا الكلام قد يقول بعض الناس: إنه كلام فيه قوة وفيه قسوة، لكن الصحيح أنه مقتضى الضرورة والحال في ذلك الوقت؛ ففي عهد ابن خزيمة رحمه الله ظهرت بعض نبتات الجهمية والمعتزلة وقويت، ثم إنه كان في وقته بداية ميل للمتكلمين إلى أصول الجهمية؛ فمتكلمة الأشاعرة والماتريدية في عهد ابن خزيمة بدأت مناهجهم تميل إلى مسالك الجهمية والمعتزلة في صفات الله عز وجل، فاضطر إلى مثل هذه العبارات القوية؛ لأن فيها حماية لعقائد الأمة، لاسيما وهو إمام من الأئمة الكبار، فإذا صدر عنهم مثل هذا الكلام -وهم ممن تعتد الأمة بإمامتهم وتعتبرهم قدوة كـابن خزيمة في وقته فإنه كان يعتبر إمام المسلمين-، فإن صدور مثل هذا الكلام يعتبر بمثابة البيان الرادع القوي الذي يخوف به أهل الأهواء والبدع، ثم إنه يبين لأهل الغيرة من أهل الحل والعقد أن الأمر يحتاج إلى إجراء يحمي عقيدة الأمة، ثم إنه أيضاً يحصن العوام وأمثال العوام من عقائد الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم بمثل هذه الكلمات القوية الرادعة.

ولذلك يصدر هذا الكلام عن إمام لكن لا يمكن أن يصدر مثله عن طويلب علم مبتدئ؛ لأن هذا في الغالب يكون فيه تجاوز للحد من قبل من لم يكن له إمامة في الدين، ولذلك نجد أن الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة كانت تمثل مثل هذه الأقوال القوية للسلف في حق رءوس الأهواء وكبارهم، فمثلاً: لما استفحل أمر معبد الجهني في القدر وقفت منه الأمة موقفاً حازماً بولاتها وعلمائها وعوامها، ثم لما ورث غيلان هذه البدعة القدرية وصار يدعو إليها علناً قسا معه السلف قسوة أدت إلى قتله لكف شره، مع أنهم لم يقولوا بكفره، لكن حكموا عليه بمثل حكم ابن خزيمة هنا، فصار حكمهم من أقوى المحصنات للأمة الرادعة لأهل الأهواء من ناحية والحامية لعامة المسلمين من العوام وطلاب العلم من ناحية أخرى؛ لأن الناس إذا سمعوا مثل هذا الكلام عن الأئمة عرفوا أن الأمر شنيع؛ فإذا قيل: إن غيلان قتل من أجل بدعته لا يجرؤ عامي ولا طالب علم أن يفكر باستساغة هذه البدعة مرة أخرى.

ثم لما ظهر الجعد بن درهم كذلك وأعلن القول بالتعطيل وحاوره العلماء ولم يجدوا منه استجابة للرجوع إلى الحق حكموا بقتله؛ كفاً لشره وفساده، وكان حكمهم -قبل أن ينفذ عليه الحد الشرعي- فيه واضح، ثم قالوا ذلك في الجهم بن صفوان ، ثم قالوا ذلك في عدد من كبار المعتزلة والجهمية، وكما قال الشافعي في حق حفص الفرد ، وكما قال غيره في ابن الراوندي وغيره في المريسي ثم لما صار وقت ابن خزيمة بدأت الجهمية والمعتزلة وأفراخ المتكلمين الأوائل تخرج أعناقها ببدعتها، فاضطر ابن خزيمة لمثل هذا الكلام، سواء امتثل كلامه أو لم يمتثل، فهو بمثابة الروادع القوية، ومن هنا نفسر قسوة ابن خزيمة رحمه الله على أهل البدع في ذلك الوقت؛ لأنه كان لابد من مثل هذا الإجراء والعبارات القاسية التي يكون بها الردع وتكون بها الحماية، وكذلك أي إمام تكون له إمامة وقبول عند الأمة قد يحمي الأمة بمثل هذه العبارات وبمثل هذه المواقف القوية، لكن ليس مثل هذا لكل من طلب العلم أو لكل من تصدى لبدعة، فقد ينتكس عليه منهجه، وقد يستفز الخصوم بمثل هذه العبارات إذا استعملها وهو غير مطاع، ولكن يأخذ الأمور على أصولها الشرعية بهدوء وحكمة.

كلام الشافعي واستدلاله بحديث الجارية على علو الله عز وجل

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء لكفارة، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء، تعني: أنك رسول الله الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية، وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر، لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه وفوق سبع سماواته على عرشه كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة سلفهم وخلفهم؛ إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به.

وقد أخبرنا الحاكم أبو عبد الله رحمه الله قال: أنبأنا الإمام أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: إذا رأيتموني أقول قولاً وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب.

قال الحاكم رحمه الله: سمعت أبا الوليد غير مرة يقول: حدثت عن الزعفراني أن الشافعي رحمه الله روى يوماً حديثاً فقال السائل: يا أبا عبد الله ! تقول به؟ قال: تراني في بيعة أو كنيسة؟! ترى علي زي الكفار؟! هو ذا تراني في مسجد المسلمين علي زي المسلمين مستقبل قبلتهم، أروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا أقول به؟! ].

خلاصة هذا الكلام كله هو في مسألة تقرير العلو، وأن مما استدل به على تقرير العلو ما جاء في سؤال الجارية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فاعتبر هذا دليل الإيمان، وهذا فيه إثبات علو الله عز وجل علواً ذاتياً وعلواً معنوياً، فالله عز وجل هو العلي بكل معاني العلو: علو القدر وعلو القهر وعلو الذات وعلو الصفات وعلو الأسماء وعلو الأفعال.. وجميع أنواع العلو.

موجز كلام السلف في أدلة العلو المحكمة والصريحة

الخلاصة: أنه هنا أراد أن يقرر العلو مقترناً بالاستواء والاستواء مقترناً بالعلو وهما متشابهان، وقد ذكر الأئمة أدلة العلو الصريحة ونوجزها الآن؛ لأنه هنا انتهى من مسألة الاستدلال على العلو والعرش، وسيدخل في موضوع جديد نجعله للدرس القادم، لكن أحب أن أوجز كلام السلف في أدلة العلو التي هي محكمة وقوية وذكرها أكثر من واحد من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، وابن القيم في رده على الجهمية في الصواعق.. وفي غيره، وكذلك لخص هذا الرد ابن أبي العز في (شرح العقيدة الطحاوية)، فتتلخص أدلة إثبات العلو والاستواء -خاصة العلو الذاتي لله عز وجل- بما يلي:

أولاً: التصريح بالفوقية لله عز وجل، فقد ورد التصريح بأن الله فوق عباده، كقوله عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقوله سبحانه وتعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فهذا تصريح بالفوقية لله عز وجل، وأصحاب التأويل يقولون: إن الفوقية تشعر بالجهة، فيقال لهم: ما الجهة التي تهربون منها؟ سيقولون: الفوق والعلو، فهربوا من إثبات الحق ووقعوا فيما وقعت فيه الفلاسفة الملاحدة الذين ينكرون أن يكون لله وجود ذاتي.

وكذلك من أقوى أدلة العلو: ثبوت النزول، سواء نزول الباري عز وجل أو نزول الأشياء منه، فقد أنزل الله القرآن وتنزل الملائكة من عنده، والنزول ثابت بنصوص قطعية، خاصة أحاديث النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وخاصة النزول الذي ثبت له في الثلث الأخير من كل ليلة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة) ونزوله عز وجل عشية يوم عرفة أو يوم عرفة يباهي بالحجاج ملائكته، فهذا النزول ثبت في مقتضى النص الصحيح الصريح الذي لا يمكن دفعه، ولكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن النزول لا يلزم منه إخلاء العرش، ولا يلزم منه ما يلزم عند المخلوقات من نوع الحركة ونوع الانتقال، وإلا فالله عز وجل لابد أن يثبت له ما أثبته لنفسه.

فالنزول دليل على إثبات العلو والفوقية، وهو يتضمن معنى الاستواء.

ومن ذلك أيضاً: صعود الأشياء إليه، قال عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وكذلك رفع الأشياء إليه وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وكقوله عز وجل في حق عيسى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] فالرفع لا يكون إلا إلى أعلى، ولا يكون إلا لموجود له وجود ذاتي، وإلا فما معنى الرفع لو كان الوجود لله عز وجل -تعالى عما يزعمون- مجرد وجود ذهني مطلق، كما تقول الجهمية وتابعهم الأشاعرة ومن سلك سبيلهم؛ فإنهم قالوا: إن وجود الله عز وجل مجرد وجود عقلي أو مجرد وجود اعتباري أو علو اعتباري فقط، كما قالوا: إن العلو علو القدر، ولاشك أن لله عز وجل علو القدر على وجه الكمال، وكذلك علو الذات، ولو كان مجرد علو القدر لما كان هناك معنى لكل هذه النصوص التي تصرح بالفوقية والنزول والمجيء والصعود والرفع، لا يكون لها معنى وإنما تكون مجرد ألفاظ لا معنى لها.

وكذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء إلى الله عز وجل، وتوجه القلوب الفطري إلى الله عز وجل توجه يجده حتى الكافر، بل حتى الحيوان نجده يشخص ببصره إلى العلو وإلى الفوقية، وهذا أمر فطري.

أيضاً: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وغير الجارية بكلمة: أين الله؟ هذا دليل قاطع على أن الله عز وجل له وجود لا يليق إلا أن يكون بالفوق والعلو، وأن وجود الله عز وجل مباين ومفاصل لوجود مخلوقاته، وأنه مستوٍ على عرشه، إضافة إلى أدلة الاستواء.. وغير ذلك، كل هذه الأمور أدلة صريحة قطعية تثبت لله العلو الذاتي بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله مع علو القدر والقهر وعلو الاعتبار وعلو المعنى، وهذا لا شك فيه.

فالسلف حينما يثبتون شيئاً يثبتون لوازمه بالضرورة، فهذه أدلة قاطعة على العلو الذاتي لله عز وجل لا مفك منها، لكن أهل التأويل لا يستطيعون أن يأخذوا بها؛ لأنهم إذا أخذوا بها انهدمت قواعدهم كلها ورجعوا إلى قول أهل السنة، ولو أخذوا بأدلة العلو لزم أن يقولوا بالاستواء، وإذا قالوا بالاستواء لزمهم أن يقولوا بالمجيء والنزول ثم بقية صفات الله عز وجل، وكذلك العكس.

إذاً: أهل البدع والتأويل لو أثبتوا أي صفة لزمهم إثبات الباقي، فإن أثبتوا الاستواء لزمهم إثبات العلو والفوقية، وإن أثبتوا العلو والفوقية لزمهم الاستواء، وإذا أثبتوا الجميع لزمهم إثبات المجيء والنزول على ما يليق بجلال الله عز وجل وبقية الصفات، لكن لتسلم قواعدهم الباطلة عمموا الحكم، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) نفوا شيئاً من الصفات فاضطرهم هذا النفي إلى نفي غيرها، ثم إلى نفي الباقي، ثم إلى قصر الإثبات على أشياء رمزية فقط أو على صفات معدودة كما عند الأشاعرة، والبقية نفوها، ولم يكن نفيها دفعة واحدة؛ وإنما النفي جر إلى النفي، وأول ما بدأت شرارة التأويل عند الأشاعرة والماتريدية والكلابية في مسألة كلام الله عز وجل، فاضطروا في نفي كلام الله أن ينفوا بقية أفعال الله، واستواؤه من أفعاله؛ ونظراً لأنه لابد أن يلزم من إثبات العلو إثبات الاستواء فمن هنا أيضاً نفوا العلو.. وهكذا، حتى استقر مذهبهم على ألا يثبتوا لله إلا ما تثبته عقولهم القاصرة التي ما عرفت نفسها ولا حقيقة ما عليه الإنسان، نسأل الله العافية، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قوله: (ويكلون علمه إلى الله) وعلم أسماء الله وصفاته على نوعين:

النوع الأول: إثبات الحقائق كما يليق بجلال الله، فهذا لابد أن يعتقد ولا يفوّض.

النوع الثاني وهو الذي قصده الصابوني هنا في قوله: (ويكلون علمه): وهو الكيفيات، ليس المقصود بالعلم الحقيقة هنا، المقصود بالعلم هنا الكيفية، فالسلف يكلون حقيقة أسماء الله وصفاته وأفعاله إلى الله عز وجل، والمراد كيفياتها، أما حقيقتها التي هي معانيها الثابتة فليست محل إشكال ولا توقف؛ لأن الله خاطبنا بها بلسان عربي مبين، والله عز وجل خاطبنا بها لنعتقدها له سبحانه، ولنعتقد له الكمال من خلالها.

فمن هنا لابد أن يفهم في هذه العبارة وما يشبهها على ألسنة السلف -وهي كثيرة- أن قولهم: (ويكلون علمه إلى الله) ليس المقصود تفويض الأمر بلا إثبات، وليس المقصود التوقف بلا إثبات، وليس المقصود التأويل، إنما المقصود الكيفيات، فالكيفيات لا يعلمها إلا الله عز وجل، فتكون من باب الأمور الغيبية التي يوكل علمها إلى الله.

قال رحمه الله تعالى: [ ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7] كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك، ورضي منهم فأثنى عليهم به.

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي حدثنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظ من أصله العتيق حدثنا أبو يحيى بن كبيسة الوراق حدثنا محمد بن الأشرس الوراق أبو كنانة حدثنا أبو المغيرة الحنفي حدثنا قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر.

وحدثنا أبو الحسن بن إسحاق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأَمر به أن يُخرج من مجلسه ].

هذه الكلمات تمثل قواعد أيضاً عند السلف، ولا تزال هي القواعد التي يرد بها على المؤولة؛ لأنها محكمة من كل وجه، وهي عصارة فهم السلف لمقتضى النصوص، فهذا التقعيد للإثبات هو خلاصة مقتضى نصوص الشرع الواردة في الكتاب والسنة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وذكرت على عدة وجوه كلها متشابهة ومتقابلة، فالكلام الذي نسب إلى أم سلمة سواء ثبت عنها أو لم يثبت هو قواعد صحيحة ذهبية ميّزت منهج السلف عن غيرهم في هذا الأمر في صفة الاستواء وفي غيرها، فهذه قاعدة تقال في جميع الصفات، فيقال: الاستواء غير مجهول، ويقال: النزول غير مجهول، ويقال: المجيء غير مجهول، ويقال: الغضب لله عز وجل غير مجهول، وهو كما يليق بجلاله..، وهكذا بقية الصفات، والكيف غير معقول.. فالاستواء أو غيره من الصفات يقال: إنه غير مجهول، بمعنى أنه عُلم بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً، وثانياً: عُلم بأنه حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فهو غير مجهول لدى المخاطبين لا سيما أن المخاطب المؤمن إذا سمع كلام الله عز وجل في صفاته أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله أثبتها لأول وهلة على الحقيقة، ثم زال عنه التشبيه باستشعار القاعدة الأخرى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فلابد من استشعار هذا المعنى دائماً، وإثبات الصفة لله عز وجل على الحقيقة؛ لأنا خوطبنا بحقائق نعلمها، لكن الكيفيات المعلومة في المخلوقات منفية عن الله عز وجل، فتثبت الصفات لله عز وجل مع نفي التشبيه والمماثلة.

إذاً: فالاستواء غير مجهول، بمعنى: أن له حقيقة، هذه الحقيقة هي بالنسبة للمخلوقات لها معنى ناقص، وبالنسبة لله عز وجل لها معنى كامل، فاستواء الله عز وجل يناسب كماله وهو غير مجهول.

وكذلك الكيف غير معقول، بمعنى: أن العقول لا تدرك الكيفيات، وليس بأنه غير معقول لا تؤمن به العقول، بل هنا غير معقول، بمعنى: لا تدركه العقول على جهة الكيفية، وبعض الناس فهمهم غلط، وكثير من المؤولة استندوا إلى هذه المسألة وجعلوها وسيلة للتأويل إلى هذه العبارة، خاصة متأخرة الأشاعرة والماتريدية، ففسروا كلمة (الكيف غير معقول) بأن معنى ذلك أن ظواهر أسماء الله وصفاته غير معقولة، وغير معروفة الحقيقة، أو لا يؤمن بحقائقها، فلجئوا إلى التأويل، أما السلف فمقصودهم بغير معقول: أي لا تدرك العقول الكيفيات، ولا تحيط بأسماء الله وصفاته وأفعاله عز وجل.

وكذلك (الإقرار به إيمان)، بمعنى: لا يتم الإيمان إلا به، والجحود به كفر.

ومثلها القاعدة السابقة: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول..) إلى آخره، وفي بعض الروايات: (الاستواء معلوم) بدل (غير مجهول)، وهو بمعنى غير مجهول، ورواية: (الاستواء معلوم) وردت عن بعض السلف، ونسبت إلى مالك .

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس يعني يسأله عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيته وجد من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء، وأطرق القوم، فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه، ثم سري عن مالك فقال: الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه، وإني لأخاف أن تكون ضالاً، ثم أَمر به فأُخرج ].

الإمام مالك رحمه الله غضبه وانفعاله كان تعظيماً لله عز وجل، فلم يكن يتصور أن مسلماً يسأل مثل هذا السؤال في حق صفات الله عز وجل؛ لأن المسلمين قبل ورود شبهات الجهمية والفلاسفة والزنادقة كانوا يعظّمون الله عز وجل ولا يرد في ذهن أحدهم السؤال عما يتعلق بكيفيات أسماء الله وصفاته، ويستعظمون هذا السؤال أشد الاستعظام، ويستنكرونه ويستهولونه، ولا يجرؤ أحد عليه، بل حتى ولا أن يفكّر فيه في خاطره، فالإمام مالك حينما سمع هذا الكلام عرف أن الناس انتهكوا حرمات الله عز وجل، فغضب غيرة على حق الله عز وجل وخوفاً من الله، واستعظاماً لهذا السؤال وتعظيماً لله عز وجل وهيبة من بطشه، فلذلك حصل له ما حصل.

وهكذا ينبغي أن يكون المسلم دائماً معظماً لله عز وجل، فلا يسمح لشبهات الشياطين وأتباع الشياطين بأن ترد على عقيدته، أو أن ترد في مجالسه مثل هذه الأمور التي فيها عدم تعظيم لله عز وجل وعدم أدب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته.. وذكر نحوه.

وسئل أبو علي الحسين بن الفضل البجلي عن الاستواء، وقيل له: كيف استوى على عرشه؟ فقال: أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كُشف لنا، وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه، ولم يخبرنا كيف استوى.

وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى بائناً منه خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض ].

الإمام ابن المبارك رحمه الله من أئمة السنة وأئمة الهدى الذين شهدت لهم الأمة بالفضل والإمامة في الدين والرسوخ في العقيدة، وقوة الدفاع عنها، وقد تكلم بكلمات لم تكن معهودة عند السلف قبله بشكل ظاهر، مثل قوله: (بائناً منه خلقه)، ولذلك سئل أيضاً في مقام آخر فقيل له: بحد؟ قال: (نعم، بحد)، وهذا الكلام تكلم فيه أمثال عبد الله بن المبارك في ذلك الوقت عندما عمّت البلوى بشبهات الجهمية، وصاروا يتكلمون صراحة أمام عامة الناس وفي المشاهد والمجالس والمساجد وغيرها بهذا الأمر المنكر، ويصفون الله عز وجل بأنه غير بائن من خلقه، وأنه غير مستوٍ على عرشه، وأنه ليس فوق السماوات، وأنه ليس فوق العرش، يصرّحون بذلك، فكان لابد من حماية عقائد الأمة من هذه الشبهات التي أُعلنت وفشت، ومن هذه البدعة التي ظهرت وانتشرت، ولو لم تظهر وتنتشر لما تكلم الإمام ابن المبارك بمثل هذه الكلمات التي لم تعهد في تقرير العقيدة إلا فيما بعد حينما عمّت البلوى؛ فلذلك قال: (نعرف ربنا فوق سبع سماوات)؛ بناءً على أن ذلك ثبت في القرآن والسنة، وأن ذلك على ما يليق بجلاله، ثم قال: (على العرش استوى بائناً منه خلقه)، يعني: أنه ليس هو خلقه، ولا مخالطاً بخلقه، ولا حالاً في خلقه، ولا متحداً بهم.. ولا نحو ذلك مما يقول به الفلاسفة أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، ولا مما يقول به الجهمية الذين يقولون بأن الله عز وجل وجوده وجود مطلق أو وجود ذهني فقط، وأنه لا يمكن أن يحدد له مكان، بمعنى: لا نثبت له العلو، فحينما شاعت هذه المقولة اضطر الإمام ابن المبارك أن يقول: (بائناً منه خلقه)، معنى بائن: أنه ليس هو هم ولا مخالط لهم ولا ممازج ولا حال.. إلى آخره، بائن: يعني: أن الخلق غير الله والله غير الخلق، بينونة مطلقة، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يكون غير بائن من خلقه.

ثم إنه قال أيضاً في عبارة أخرى ربما سترد قال: بحد، يقصد بحد أن وجود الله عز وجل غير وجود المخلوق، وقوله: (بحد) هذا الكلام جديد بمعنى: أنه لم يعهد انتشاره على ألسنة السلف قبل عبد الله بن المبارك إلا كلمات معدودات قال بها بعض أهل العلم، لكن عبد الله بن المبارك لإمامته اشتهرت هذه الكلمة عنه وطارت بها الركبان، وعرفت في جميع أقاليم المسلمين في وقتها، وصارت من الآثار التي تروى بالإسناد؛ لأنها كانت هي الرد الحازم الجازم القوي العقلي المبني على الكتاب والسنة على الجهمية في ذلك الوقت، فاضطر لأن يقول بهذا الكلام لمقاومة البدعة، وكثيراً ما يضطر المسلمون في شتى العصور إلى استحداث بعض المناهج أو بعض المصطلحات المستنبطة من الكتاب والسنة لمقاومة مناهج ومصطلحات جديدة هدامة ضد العقيدة أو ضد أصول الإسلام، كما هو حاصل في عصرنا.

ولذلك أنا أحب أن أنبه إخواني طلاب العلم الذين يعتبون على بعض المجتهدين في الرد على أهل الأهواء استعمالهم لبعض المناهج والقواعد والوسائل والأساليب المستنبطة من الكتاب والسنة في رد أهواء وشبهات القوم من المعاصرين، أقول: لا ينبغي استنكار هذه الأساليب ما دامت مبنية على أسس صحيحة وعلى قواعد السلف ومناهجهم الأصلية، حتى وإن كانت المصطلحات لم يستعملها الأولون ما دامت على مقتضى النصوص والقواعد.

فلابد من مقاومة الاتجاهات والآراء والمناهج الحديثة بما يناسب مدارك الناس ومفاهيمهم بما يلغي ويحمي الأمة من أوضار هذه المناهج والأساليب والمصطلحات الحديثة، فلا ضير على طالب العلم أن يقاوم هذه المناهج بمصطلحاتها ما دام لها مسار في الكتاب والسنة ومناهج السلف، ولها مسار من اللغة.