حقوق الجار


الحلقة مفرغة

كان للمماليك دور بارز في الدفاع عن مقدسات الأمة وأراضيها، ودحر الصليبيين من أجزاء من مصر وكثير من بلاد الشام، قبل أن تكون لهم دولة، ثم دحر التتار عن بلاد الشام وغيرها بعد قيام دولتهم إبان اجتياح التتار لبغداد ولبلاد الشام، الأمر الذي يؤكد أن الله تعالى ناصر دينه ومعز أوليائه من حيث لا يحتسبون.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدي رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

إن من نعم الله، التي يجب على العبد أن يقوم بشكرها: أن يتيح له الفرص النفيسة بهذه اللقاءات الكريمة مع إخوة في الله، وفي بيت من بيوت الله، يتذاكرون آيةً من كتاب الله أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأعلم أن في مدينة عنيزة من المشايخ وطلبة العلم من يحيون المساجد بالذكر والمذاكرة والعلم والمدارسة، وإنه لمن نعم الله عليَّ أن يتيح لي هذا اللقاء في هذا المسجد هذه الليلة.

وسأتكلم عن موضوع أعتقد أن الجميع قد سمعوا به، وكل الدعاة قد تناولوه، والسنة مليئة بأخباره، ألا وهو موضوع الوصية بالجار. وقد قرن الله حق الجار بأعلى وأعظم حقٍ لله سبحانه وتعالى وهو توحيده، فقال سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36] إلى آخر الآية.

فحق الجار مذكور في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللجار حقوق كثيرة ممكن أن نسميها: حقوقاً قضائية، أو نسميها: حقوقاً مدنية، أي: إلزامية للجار على جاره، وهذه الحقوق يذكرها الفقهاء وخاصةً الحنابلة في باب الصلح وحكم الجوار.

كلنا يعلم أن الأسلوب العام في الإطار الإسلامي بل والإنساني أن الوصية تكون من منطلق الشفقة والرحمة، ولذا لا تجد إنساناً يوصي إنساناً بخير إلا وهو مشفق عليه، رحيم به، وقد جاء في كتاب الله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [الأحقاف:15] .. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فأوصاه بذلك.

معنى الوصية

وإذا جئنا إلى فقه أسرار اللغة العربية التي هي لغة القرآن، يقول علماء فقه اللغة: كلمات اللغة العربية أسر وقبائل، فكلما كانت المادة قريبة من المادة في بنائها فمعناها متقارب، وإذا اختلف حرف في هذه المادة عن تلك المادة كان المعنى المشترك بين اللفظين قريباً، وبقدر قرب الحرف من الآخر تكون الصلة والقرابة.

فهنا مثلاً وصية وصلة، فتجد كلمة (وصية) أصلها: وصي، و(صلة) أصلها: وصَلَ، فالواو والصاد في المادتين، والخلاف في لام الكلمة، والياء واللام كلاهما من مخرج متقارب، تقول: إل وإي، فمخرجهما متعلق باللسان، وليسا من الحروف المتباعدة.

إذاً: الوصية والصلة بينهما قرابة نسب وصلة رحم، فكل وصية فهي صلة، فعندما يوصي الإنسان غيره فكأنه وصله بما أوصاه به، وأنت إذا أوصيت إنساناً بشيء فكأنك وصلته بتلك الوصية.

ويقال: خبن الثوب، وغبن في البيع، (خبن وغَبَن) الباء والنون موجودان فيهما، والغين في الغبن، والخاء في الخبن مختلفان، وكلاهما من أحرف الحلق، والخبن للثوب بمعنى: النقص، مثل أن تأخذ القميص وتقصر طوله، والغبن في البيع هو: نقص في الثمن، فمعنى النقص موجود في الكلمتين، ولكن لماذا جاءت الخاء في الثوب (خبن)، والغين في البيع (غبن)؟

يقول علماء فقه اللغة: انظر إلى الحرفين المتغايرين، فهما من أحرف أدنى الحلق، لكن الغين أخفى من الخاء، والغبن في البيع أخفى من الخبن في الثوب؛ لأن خبن الثوب ظاهر تلمسه بيدك، والغبن في البيع أمر معنوي نسبي.

فنرجع إلى تعريف الوصية، فهي صلة، والصلة فيها ارتباط، فكأن الموصي يربط الموصى إليه بنفسه، ومن هنا نعلم معنى الوصية للجار ومكانتها، فحينما تقول: يا فلان! أوصيك بفلان، أي: أنك توصى به وتكرمه وتصله بنصيحتك وشفاعتك عند الغير، ويقال: أوصى لفلان ببيت أو بمال أو غير ذلك، أي: وصله بما أعطاه.

أركان الوصية بالجار واهتمام الشرع بها

وأركان الوصية: الموصي والموصى إليه والموصى به.

فالوصية بالجار ما مقدارها؟ وما مصدرها؟

جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار) ، فالموصي هنا هو جبريل عليه السلام، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، والذي وصفه الله بمكارم الأخلاق، وهو لا يحتاج إلى وصية، فهو فاهم ومدرك، ومكارم أخلاقه تحمله على حسن المعاملة، ومع ذلك يوصيه جبريل بالجار.

ونعلم أن الوصية تكون محددة، كما في آية الوصية بالأولاد: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15]، وقوله: إذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:180] فالوصية بالخير مطلوبة.

وما هو أسلوب وسياق الوصية التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى رسول الله؟

جاء في الأدب المفرد للبخاري أن رجلاً من الأنصار قال: (خرجت مع أخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت فإذا هو قائم يقاوم رجلاً -يقاوم على وزن يفاعل، أي: هذا قائم وهذا قائم معه، وهو نظيره- فظننت أن له حاجة -أي: هذا الرجل- فجلست، فأطالا القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، ثم ذهب الرجل، وقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لقد رثيت لك من طول قيامك مع هذا الرجل، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا، قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وهذا القيام الطويل هل هو بكلمة (أوصيك بالجار)، أو أنه كان يعدد عليه جوانب الوصية فيما ينبغي للجار؟

لا نستطيع أن نحكم بشيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا صيغة الوصية، لكن يهمنا من هذا السياق أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أطال القيام مع جبريل، حتى أن الأنصاري جلس ورثى لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الجهد كله ليتلقى الوصية بالجار، وأعتقد أن هذا السياق يعطينا مدى مكانة الوصية، ومدى اهتمام الشريعة بها.

معنى حديث: (ما زال جبريل يوصيني بالجار)

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني).

كلمة: (لا زال) تدل على التكرار، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا نوعية الوصية فكيف نحققها؟ فهذه الوصية وصية إحسان للجار، فكيف نطبق هذه الوصية العامة الشاملة حتى نحقق وصية جبريل لرسول الله عليهما الصلاة والسلام؟

هذه الوصية مطلقة، والإطلاق يدل على العموم والشمول، فننظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، ونطبقها على أحاديث الوصية للجار، والأحاديث التي وردت في حق الجار كثيرة متنوعة، ولقد وصلت إلى أربعين حديثاً تتعلق بحقوق الجار.

وما هي مقاصد الشريعة التي يمكن أن نحققها ونطبقها في حق الجار؟ يقول العقلاء أو الفلاسفة: مطامع العقلاء في الغيب، أي: أن كل إنسان في حياته -بصرف النظر عن دينه- يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع يستفيد منه، وإما لدفع ضر يسلم منه، ولذا يقول الشاعر الجاهلي:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع

يعني: إذا لم تنفع صديقك وأهلك فضر عدوك وخصمك، أما من لا ينفع أهله ولا يضر خصمه؛ فليس فيه خير، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المشركين وبين قبح فعلهم بعبادة الأوثان، وذكر أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر فقال: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ [الأنبياء:66]، وإبراهيم عليه السلام قال لقومه: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73] واحتج إبراهيم على قومه في عبادتهم الأصنام فقال: لماذا تدعونهم، وهم لا يسمعونكم حينما تدعونهم؟! أي: هل تعبدونهم لجلب نفع أو تعبدونهم خوفاً من أن يضروكم؟! فإذا كانوا لا ينفعونكم فلم تعبدونهم؟! وإذا كانوا لا يضرونكم فلم تخافون منهم؟!

فالنفع والضر هما مطلب الإنسان، ولذا فإن المولى سبحانه لما خاطب قريشاً وألزمهم بحق العبادة قال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3]، وما هو مقتضى هذه العبادة التي أوجبها الله عليهم؟ قال: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4] ، (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) هذا هو النفع الذي جلبه إليهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) هذا هو الضر الذي دفعه عنهم.

إذاً: مجموع المطالب العقلية منحصرة في هذين الأمرين، وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ، فـ(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، أي: إنما يدفع العنت والمشقة عنكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي: يجلب لكم النفع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت خيراً يقربكم إلى الله إلا بينته لكم، ودللتكم عليه، ولا تركت شراً يباعدكم عن الله إلا بينته لكم، وحذرتكم منه، ونهيتكم عنه) .

إذاً: مطالب العقلاء منحصرة في جلب النفع ودفع الضر، وجاءت الشريعة الإسلامية بتحقيق هذين المبدأين، وجاءت بزيادة مبدأ ثالث جديد جاء به الإسلام، ألا وهو الحث على مكارم الأخلاق.

واعلم أن جميع التشريعات في الشريعة الإسلامية تدور حول هذه المبادئ الثلاثة: إما جلب نفع للعبد في الدنيا أو الآخرة، وإما دفع ضر عنه في الدنيا أو الآخرة، وإما السمو به إلى مكارم الأخلاق وإلى الكمال الإنساني.

ولكي نعلم بحقوق الجار، ولكي نطبق ذلك على هذه المبادئ، فنبحث عن حق الجار لجاره في جلب النفع إليه، ودفع الضر عنه، ومعاملته بمكارم الأخلاق.

أنواع الجيران وحد الجوار

والجيران أنواع، وقد ذكرهم الله في كتابه فقال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، فمن هو الجار ذو القربى؟

ذو القربى من كان من القرابة، فهل هو قرب المكان قرباً حسياً أو هو القريب النسب مثل: ابن عمك، وابن خالك وخالتك وعمتك؟

القربى هنا قربى النسب، فيجتمع له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القربى، وحق الإسلام.

والجار الجنب قالوا: هو الأجنبي (الصاحب بالجنب) هي: الزوجة، وقيل: (الصاحب بالجنب) يشمل الزوجة وغيرها، فالزوجة صاحبة بالجنب، وقيل: (الصاحب بالجنب) الصديق الذي يصاحبك، هو الرفيق في السفر.

أنواع الجوار:

جار قريب في النسب، وجار بعيد نسباً، والقرب والبعد في الجوار إلى أي حد؟

ذكر البخاري في الأدب المفرد وغيره عن الزهري أنه قال: حد الجار أربعون داراً أمامك، وأربعون داراً وراءك، وأربعون داراً عن يمينك، وأربعون داراً عن يسارك، وقد روي هذا التحديد في حديث وهو:

أن رجلاً جاء يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاره؛ فقال: (يا رسول الله! إني نزلت حرة بني فلان -منطقة أو جهة- وإن أقربهم لي جواراً أشدهم عليّ إيذاء، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر وعمر إلى المسجد، وأمرهما أن يقفا على الأبواب ويناديان: ألا إن أربعين داراً جار، لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه).

فإذا كان تحديد الجوار أربعين داراً، وكلها داخل في الوصية بالجار، فهذه الأربعون تتفرع، فأقصى بيت من الأربعين يراعي حقوق أربعين بيتاً أخرى بجواره، وآخر الأربعين الثانية يراعي حرمة أربعين بيتاً أخرى، وهكذا، فماذا تكون النتيجة؟

تتموج حقوق الجوار وتنتشر كتموج موجات الأثير حتى تعم العالم كله، ولا يبقى شبر على وجه الأرض إلا ودخل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، وهذا إذا وسعنا نطاق الجوار في المدن، فالمدينة النبوية جوارها مثلاً عنيزة أو البلدة الفلانية، ولو راعينا حرمة الجوار بين الأفراد وبين القرى وبين المدن وبين الأقطار في الدنيا، لحصل خير كبير، فكل دولة تراعي حقوق جارتها، وكل قرية تراعي حقوق جارتها، فلا يوجد في وجه الأرض شبر إلا ودخل في هذه الوصية؛ فالجوار يشمل الجميع، وإذا توسعت دائرة الجوار شملت العالم.

وإذا جئنا إلى فقه أسرار اللغة العربية التي هي لغة القرآن، يقول علماء فقه اللغة: كلمات اللغة العربية أسر وقبائل، فكلما كانت المادة قريبة من المادة في بنائها فمعناها متقارب، وإذا اختلف حرف في هذه المادة عن تلك المادة كان المعنى المشترك بين اللفظين قريباً، وبقدر قرب الحرف من الآخر تكون الصلة والقرابة.

فهنا مثلاً وصية وصلة، فتجد كلمة (وصية) أصلها: وصي، و(صلة) أصلها: وصَلَ، فالواو والصاد في المادتين، والخلاف في لام الكلمة، والياء واللام كلاهما من مخرج متقارب، تقول: إل وإي، فمخرجهما متعلق باللسان، وليسا من الحروف المتباعدة.

إذاً: الوصية والصلة بينهما قرابة نسب وصلة رحم، فكل وصية فهي صلة، فعندما يوصي الإنسان غيره فكأنه وصله بما أوصاه به، وأنت إذا أوصيت إنساناً بشيء فكأنك وصلته بتلك الوصية.

ويقال: خبن الثوب، وغبن في البيع، (خبن وغَبَن) الباء والنون موجودان فيهما، والغين في الغبن، والخاء في الخبن مختلفان، وكلاهما من أحرف الحلق، والخبن للثوب بمعنى: النقص، مثل أن تأخذ القميص وتقصر طوله، والغبن في البيع هو: نقص في الثمن، فمعنى النقص موجود في الكلمتين، ولكن لماذا جاءت الخاء في الثوب (خبن)، والغين في البيع (غبن)؟

يقول علماء فقه اللغة: انظر إلى الحرفين المتغايرين، فهما من أحرف أدنى الحلق، لكن الغين أخفى من الخاء، والغبن في البيع أخفى من الخبن في الثوب؛ لأن خبن الثوب ظاهر تلمسه بيدك، والغبن في البيع أمر معنوي نسبي.

فنرجع إلى تعريف الوصية، فهي صلة، والصلة فيها ارتباط، فكأن الموصي يربط الموصى إليه بنفسه، ومن هنا نعلم معنى الوصية للجار ومكانتها، فحينما تقول: يا فلان! أوصيك بفلان، أي: أنك توصى به وتكرمه وتصله بنصيحتك وشفاعتك عند الغير، ويقال: أوصى لفلان ببيت أو بمال أو غير ذلك، أي: وصله بما أعطاه.

وأركان الوصية: الموصي والموصى إليه والموصى به.

فالوصية بالجار ما مقدارها؟ وما مصدرها؟

جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار) ، فالموصي هنا هو جبريل عليه السلام، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، والذي وصفه الله بمكارم الأخلاق، وهو لا يحتاج إلى وصية، فهو فاهم ومدرك، ومكارم أخلاقه تحمله على حسن المعاملة، ومع ذلك يوصيه جبريل بالجار.

ونعلم أن الوصية تكون محددة، كما في آية الوصية بالأولاد: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15]، وقوله: إذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ [البقرة:180] فالوصية بالخير مطلوبة.

وما هو أسلوب وسياق الوصية التي جاء بها جبريل عليه السلام إلى رسول الله؟

جاء في الأدب المفرد للبخاري أن رجلاً من الأنصار قال: (خرجت مع أخي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجئت فإذا هو قائم يقاوم رجلاً -يقاوم على وزن يفاعل، أي: هذا قائم وهذا قائم معه، وهو نظيره- فظننت أن له حاجة -أي: هذا الرجل- فجلست، فأطالا القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، ثم ذهب الرجل، وقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لقد رثيت لك من طول قيامك مع هذا الرجل، فقال: أرأيته؟ قلت: نعم، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا، قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وهذا القيام الطويل هل هو بكلمة (أوصيك بالجار)، أو أنه كان يعدد عليه جوانب الوصية فيما ينبغي للجار؟

لا نستطيع أن نحكم بشيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا صيغة الوصية، لكن يهمنا من هذا السياق أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أطال القيام مع جبريل، حتى أن الأنصاري جلس ورثى لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الجهد كله ليتلقى الوصية بالجار، وأعتقد أن هذا السياق يعطينا مدى مكانة الوصية، ومدى اهتمام الشريعة بها.

وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما زال جبريل يوصيني).

كلمة: (لا زال) تدل على التكرار، وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا نوعية الوصية فكيف نحققها؟ فهذه الوصية وصية إحسان للجار، فكيف نطبق هذه الوصية العامة الشاملة حتى نحقق وصية جبريل لرسول الله عليهما الصلاة والسلام؟

هذه الوصية مطلقة، والإطلاق يدل على العموم والشمول، فننظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، ونطبقها على أحاديث الوصية للجار، والأحاديث التي وردت في حق الجار كثيرة متنوعة، ولقد وصلت إلى أربعين حديثاً تتعلق بحقوق الجار.

وما هي مقاصد الشريعة التي يمكن أن نحققها ونطبقها في حق الجار؟ يقول العقلاء أو الفلاسفة: مطامع العقلاء في الغيب، أي: أن كل إنسان في حياته -بصرف النظر عن دينه- يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع يستفيد منه، وإما لدفع ضر يسلم منه، ولذا يقول الشاعر الجاهلي:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع

يعني: إذا لم تنفع صديقك وأهلك فضر عدوك وخصمك، أما من لا ينفع أهله ولا يضر خصمه؛ فليس فيه خير، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المشركين وبين قبح فعلهم بعبادة الأوثان، وذكر أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر فقال: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ [الأنبياء:66]، وإبراهيم عليه السلام قال لقومه: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73] واحتج إبراهيم على قومه في عبادتهم الأصنام فقال: لماذا تدعونهم، وهم لا يسمعونكم حينما تدعونهم؟! أي: هل تعبدونهم لجلب نفع أو تعبدونهم خوفاً من أن يضروكم؟! فإذا كانوا لا ينفعونكم فلم تعبدونهم؟! وإذا كانوا لا يضرونكم فلم تخافون منهم؟!

فالنفع والضر هما مطلب الإنسان، ولذا فإن المولى سبحانه لما خاطب قريشاً وألزمهم بحق العبادة قال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3]، وما هو مقتضى هذه العبادة التي أوجبها الله عليهم؟ قال: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4] ، (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) هذا هو النفع الذي جلبه إليهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) هذا هو الضر الذي دفعه عنهم.

إذاً: مجموع المطالب العقلية منحصرة في هذين الأمرين، وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ، فـ(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، أي: إنما يدفع العنت والمشقة عنكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي: يجلب لكم النفع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت خيراً يقربكم إلى الله إلا بينته لكم، ودللتكم عليه، ولا تركت شراً يباعدكم عن الله إلا بينته لكم، وحذرتكم منه، ونهيتكم عنه) .

إذاً: مطالب العقلاء منحصرة في جلب النفع ودفع الضر، وجاءت الشريعة الإسلامية بتحقيق هذين المبدأين، وجاءت بزيادة مبدأ ثالث جديد جاء به الإسلام، ألا وهو الحث على مكارم الأخلاق.

واعلم أن جميع التشريعات في الشريعة الإسلامية تدور حول هذه المبادئ الثلاثة: إما جلب نفع للعبد في الدنيا أو الآخرة، وإما دفع ضر عنه في الدنيا أو الآخرة، وإما السمو به إلى مكارم الأخلاق وإلى الكمال الإنساني.

ولكي نعلم بحقوق الجار، ولكي نطبق ذلك على هذه المبادئ، فنبحث عن حق الجار لجاره في جلب النفع إليه، ودفع الضر عنه، ومعاملته بمكارم الأخلاق.