حكم تعدد الجماعات الحزبية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا سؤال لشيخنا العلامة الشيخ/ ناصر :

السؤال: ما هو حكم الشرع في تعدد الجماعات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية، مع أنها مختلفة فيما بينها، في مناهجها، وأساليبها، ودعواتها، وعقائدها، والأسس التي قامت عليها، وخاصة أن جماعة الحق واحدة كما دل الحديث على ذلك؟

الجواب: لنا كلمات كثيرة وعديدة حول الجواب عن هذا السؤال، ولذلك نوجز الكلام فيه ونقول:

لا يخفى على كل مسلم عارف بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، أن التحزب والتكتل في جماعات مختلفة الأفكار أولاً، والمناهج والأساليب ثانياً، ليس من الإسلام في شيء، بل ذلك مما نهى عنه ربنا عز وجل في أكثر من آية في القرآن الكريم، منها قوله عز وجل: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] وربنا عز وجل يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119] . فاستثنى الله تبارك وتعالى من هذا الاقتباس -الذي لا بد منه كونياً وليس شرعياً- الطائفة المرحومة حين قال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:119].

ولا شك ولا ريب أن أي جماعة تريد بحرص وإخلاص لله عز وجل أن تكون من الأمة المرحومة المستثناة من هذا الخلاف الكوني، فلا سبيل للوصول إلى ذلك وتحقيقه عملياً في المجتمع الإسلامي إلا بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم.

سلوك الطريق المستقيم طريق الفرقة الناجية

ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح، فقد جاء في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم (أنه خط ذات يوم على الأرض خطاً مستقيماً، وخط حوله خطوطاً قصيرة عن جانبي الخط المستقيم، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال: هذا صراط الله، وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) ولا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة.

ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقاً من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكاً الطريق المستقيم، وألا يأخذ يميناً ويساراً، وليس هناك حزبٌ ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى، الذي حدثنا عنه القرآن الكريم: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] فإذاً كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن.

ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفةً صحيحة، ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق؛ لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئاً قليلاً، فلا يكون التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام.

اتباع الصحابة من علامات الفرقة الناجية

لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سُئل عنها فقال: (هي ما أنا عليه وأصحابي) فإذاً هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم، أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هامين جداً جداً:

الأول: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر: ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا -أولاً- هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، وثانياً: هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقاً عملياً، فلا يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه.

ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى: سنة قولية، وفعلية، وتقريرية، فالسنة القولية تعريفها هو: ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام، والسنة الفعلية: ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلاً، أما السنة التقريرية فهي: ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه، هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله وإنما من إقراره.

لا سبيل إلى فهم الإسلام إلا بمعرفة سير الصحابة

ومن هنا ينبعث في نفسي أن أُلفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة، أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط، بل لا بد -أيضاً- من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة.

وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جداً يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة، وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها، والآن يحضرني مثال آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من أكثر من طريق واحد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة، قال النعمان بن بشير : كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه).

هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تطبيقاً منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف، ومما لا شك ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه وهم يصلون مقتدين به وتنفيذاً لأمره بتسوية الصفوف وتراص الصفوف؛ ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلو أن هذه التسوية لهذا التراص -رص الأقدام ورص المناكب- لم يكن مشروعاً لكان تكلفاً، ولو كان تكلفاً لنهاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ لأن هناك حديثاً صحيحاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلف).

وإن قيل: إنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: باب الإمكان واسع جداً، لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين ذكرت أحدهما آنفاً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه.

السبب الثاني وهو الأهم: أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة، فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فما قلناه آنفاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل- فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى، فيقال: إذا كان ربنا عز وجل -كما أشرنا إليه آنفاً اقتباساً من القرآن- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف، إذاً لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه، وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع.

من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديماً في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية، حيث إن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال: إنه اطلع فأقره.

بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين: أضرب لكم مثلاً أو أكثر، جاء في صحيح البخاري: (أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها، يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: هي لـه نافلة ولهم فريضة).

استدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل، فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذاً بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة، فتكون لـه نافلة ولهم فريضة. والجواب عليهم أن نقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذاً كان يعيد هذه الصلاة تنفلاً، فربنا عز وجل يعلم السر وأخفى، فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء لبيان عدم شرعيته.

ومثال آخر ونكتفي به -وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة التي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء-: جاء في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وغيرها من كتب السنة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة، أصبنا فيها امرأة من المشركين) أي: قتلناها، ولا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر لـه محل آخر، فالنهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين، والقرينة على ذلك قوله: (والصبيان) فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة، فعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه: أصبنا في تلك الغزوة امرأة من المشركين، يعني: أنها كانت من المقاتلة قال: (وكان زوجها غائباً، فلما رجع وأخبر الخبر، حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبع آثار الصحابة).

ومعلوم أن العرب كانت تستعمل هذه المعرفة، فبتـتبع الآثار وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فالأثر دلهم على أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان؛ لأن الأثر انقطع هناك، لكن أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار، بينما صاحبه رأى أقدام المشركين، فخشي ليس على نفسه بل على نبيه، فقال: (لا تحزن إن الله معنا).

وهنا لا بد من التذكير بأن ما يذكر في بعض كتب الحديث وفي كتب السير، أن الذي صرف كفار قريش بعد أن هداهم تتبعهم للأثر إلى أن المطلوبين هما في الغار، زعموا بأنهم رأوا الحمامة قد عششت وباضت، وأن العنكبوت -أيضاً- نسج خيوطه، وقالوا: لا يمكن أن يكون في الغار أحد، فانصرفوا، هذا لم يصح على طريقة أهل الحديث، ثم هناك رواية قوية بأن الله عز وجل أمر ملكاً بأن يغطي بجناحه فم الغار ولذلك لم يروه.

فالشاهد أن ذلك المشرك تتبع آثار الجيش الغازي لتلك القرية، حتى وصل إلى مكان كان قد أدركهم فيه المساء، فنزلوا في وادٍ، وحسب النظام العسكري النبوي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان من الأنصار، أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، فقالا: نحن يا رسول الله! فقال لهما: كونا على فم الشعب، فانطلقا، والمشرك يراقبهما يريد أن يستغل الفرصة للوفاء بنذره ويأخذ بثأر زوجه، ولما وصلا إلى المكان الذي هو موضع حراسة الجيش النائم اتفقا على أن يتناوبا الحراسة، فأحدهما يحرس نصف الليل بينما الآخر ينام، ثم يتبادلان، ثم بدا للحارس الذي قام منتصباً أن يجمع بين عبادتين في وقت واحد: عبادة الحراسة، وعبادة الصلاة في الليل الهادئ، فقام يصلي، وهنا اغتنم المشرك الفرصة، حيث كان مختبئاَ وراء صخرة، فرماه بحربة فوضعها في ساقه، فما كان منه إلا أن رماها أرضاً والدماء تسيل منه، ولما رأى المشرك أن هدفه ما زال منتصباً رماه بالحربة الثانية فوضعها في ساقه، وهكذا ثلاث حراب ويصيب الهدف، ومن دقة تعبيره يقول: وضعها، والوضع عادة يكون باليد، لكن هذا من دقة الإصابة للهدف فكأنه يضع الحربة وضعاً بيده، ومع ذلك كان الصحابي الجليل مستمراً في صلاته لا يقطعها والدماء تسيل منه، حتى صلى ركعتين، ثم إما أنه أيقض صاحبه وإما أنه استيقظ، فلما رأى ما في صاحبه من الدماء هاله الأمر، وسأله عن السبب فقال: والذي نفسي بيده لقد كنت في سورة أقرؤها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً وضعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراسته لكانت نفسي فيها).

أي: تذكر وهو يصلي بأنه في وظيفة أمره الرسول أن يقوم بها، وهي حراسة الجيش النائم، وقد راق لـه الاستمرار في هذه الصلاة؛ لحلاوة المناجاة بين يدي الله عز وجل، ولولا أنه خشي أنه إن استمر في الصلاة، واستمر المشرك في رميه أن يكون هلاكه في هذه الصلاة فربما يهاجم العدو المسلمين، ولذلك هو قنع من الصلاة بركعتين، ولم يقنع بذلك خوفاً من الهلاك، وإنما خوفاً من هلاك الصحابة، فيما إذا هو مات وغدر بهم العدو.

إلى هنا تنتهي القصة، والشاهد منها: أن بعض الأئمة يحتجون بأن الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنه لو كان ناقضاً لما استمر هذا الرجل في الصلاة، فيرد المخالف ويقول: هذا تصرف شخصي منه، فيقول المردود عليهم: نعم، لكن هذا هو من أصحاب الرسول عليه السلام، فيجيب المخالف ويقول: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك.

نحن نجيب بجوابين اثنين، ولكن هنا شيء أقوى في أحد الجوابين مما سبق، وذلك أن هذا موظف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيصاب بهذه الجراحات وهو في حالة من العبادة والصفاء النفسي، فهل يمكن أن يخفى هذا على قائد الجيش لو كان قائداً عادياً؟ فكيف وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! مستبعد جداً جداً جداً أن يخفى وضع هذا الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: الراجح أنه عليه السلام اطلع على واقع هذا الحدث، وبناءً على ذلك لو كان خروج الدم ناقضاً لبين ذلك، لما هو معلوم من أصول الفقه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استمر المخالف في المكابرة وقال: إنه لا يوجد نص أن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع، نقول لـه: حسبك أن رب الرسول اطلع، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذا لم ينزل شرع يبين أن خروج الدم ناقض الوضوء، كانت القصة حجة لمن يحتج بها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء.

الشاهد من هذا ومن ذاك: أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً لا سبيل إليه إلا بمعرفة سيرة الصحابة، وتطبيقهم لهذا الإسلام العظيم الذي تلقوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم، إما بقوله، وإما بفعله، وإما بتقريره، لذلك نعتقد جزماً أن كل جماعة لا تقوم قائمتها على هذا الأساس من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، دراسة واسعة جداً محيطة بكل أحكام الإسلام كبيرها وصغيرها، أصولها وفروعها، فليست هذه الجماعة من الفرقة الناجية، ومن التي تسير على الصراط المستقيم، الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح.

وإذا فرضنا أن هناك جماعات متفرقة في البلاد الإسلامية على هذا المنهج، فهذه ليست أحزاباً، وإنما هي جماعة واحدة، ومنهجها منهج واحد، وطريقها طريق واحد، فتفرقهم في البلاد ليس تفرقاً فكرياً عقدياً منهجياً، وإنما هو تفرق بتفرقهم في البلاد، بخلاف الجماعات والأحزاب التي تكون في بلد واحد، ومع ذلك فكل حزب بما لديهم فرحون، هذه الأحزاب لا نعتقد أنها على الصراط المستقيم، بل نجزم بأنها على تلك الطرق التي على رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه، ولعل في هذا جواب لما سبق.

ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج والطريق السليم في غير ما حديث صحيح، فقد جاء في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم (أنه خط ذات يوم على الأرض خطاً مستقيماً، وخط حوله خطوطاً قصيرة عن جانبي الخط المستقيم، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ومر بإصبعه على الخط المستقيم وقال: هذا صراط الله، وهذه طرق عن جوانب الخط المستقيم، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) ولا شك أن هذه الطرق القصيرة هي التي تمثل الأحزاب والجماعات العديدة.

ولذلك فالواجب على كل مسلم حريص على أن يكون حقاً من الفرقة الناجية أن ينطلق سالكاً الطريق المستقيم، وألا يأخذ يميناً ويساراً، وليس هناك حزبٌ ناجح إلا حزب الله تبارك وتعالى، الذي حدثنا عنه القرآن الكريم: أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] فإذاً كل حزب ليس هو حزب الله فإنما هو من حزب الشيطان وليس من حزب الرحمن.

ولا شك ولا ريب أن السلوك على الصراط المستقيم يتطلب معرفة هذا الصراط المستقيم معرفةً صحيحة، ولا يكون ذلك بمجرد التكتل والتحزب الأعمى على كلمة هي كلمة الإسلام الحق؛ لكنهم لا يفقهون من الإسلام إلا شيئاً قليلاً، فلا يكون التحزب الصحيح الفالح إلا بمعرفة هذا الإسلام كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلب محمد عليه الصلاة والسلام.

لهذا كان من علامة الفرقة الناجية التي صرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها حينما سُئل عنها فقال: (هي ما أنا عليه وأصحابي) فإذاً هذا الحديث يشعر الباحث الحريص على معرفة صراط الله المستقيم، أنه يجب أن يكون على علم بأمرين اثنين هامين جداً جداً:

الأول: ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر: ما كان عليه أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ ذلك لأن الصحابة الكرام هم الذين نقلوا إلينا -أولاً- هديه صلى الله عليه وآله وسلم وسنته، وثانياً: هم الذين أحسنوا تطبيق هذه السنة تطبيقاً عملياً، فلا يمكننا أن نعرف معرفة صحيحة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بطريق أصحابه.

ومعلوم لدى أهل العلم أن السنة تنقسم إلى: سنة قولية، وفعلية، وتقريرية، فالسنة القولية تعريفها هو: ما نقله الصحابي من قوله عليه السلام، والسنة الفعلية: ما نقلوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم فعلاً، أما السنة التقريرية فهي: ما نقلوه عن بعضهم وليس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن رسول الله رأى ذلك الفعل وسكت عنه، هذا السكوت ليس من قوله عليه السلام وليس من فعله وإنما من إقراره.

ومن هنا ينبعث في نفسي أن أُلفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة، أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط، بل لا بد -أيضاً- من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة.

وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جداً يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة، وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها، والآن يحضرني مثال آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من أكثر من طريق واحد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة، قال النعمان بن بشير : كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه).

هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تطبيقاً منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف، ومما لا شك ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه وهم يصلون مقتدين به وتنفيذاً لأمره بتسوية الصفوف وتراص الصفوف؛ ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلو أن هذه التسوية لهذا التراص -رص الأقدام ورص المناكب- لم يكن مشروعاً لكان تكلفاً، ولو كان تكلفاً لنهاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ لأن هناك حديثاً صحيحاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلف).

وإن قيل: إنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: باب الإمكان واسع جداً، لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين ذكرت أحدهما آنفاً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه.

السبب الثاني وهو الأهم: أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة، فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فما قلناه آنفاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل- فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى، فيقال: إذا كان ربنا عز وجل -كما أشرنا إليه آنفاً اقتباساً من القرآن- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف، إذاً لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه، وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع.

من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديماً في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية، حيث إن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال: إنه اطلع فأقره.

بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين: أضرب لكم مثلاً أو أكثر، جاء في صحيح البخاري: (أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها، يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: هي لـه نافلة ولهم فريضة).

استدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل، فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذاً بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة، فتكون لـه نافلة ولهم فريضة. والجواب عليهم أن نقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذاً كان يعيد هذه الصلاة تنفلاً، فربنا عز وجل يعلم السر وأخفى، فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء لبيان عدم شرعيته.

ومثال آخر ونكتفي به -وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة التي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء-: جاء في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وغيرها من كتب السنة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة، أصبنا فيها امرأة من المشركين) أي: قتلناها، ولا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر لـه محل آخر، فالنهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين، والقرينة على ذلك قوله: (والصبيان) فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة، فعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه: أصبنا في تلك الغزوة امرأة من المشركين، يعني: أنها كانت من المقاتلة قال: (وكان زوجها غائباً، فلما رجع وأخبر الخبر، حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبع آثار الصحابة).

ومعلوم أن العرب كانت تستعمل هذه المعرفة، فبتـتبع الآثار وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فالأثر دلهم على أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان؛ لأن الأثر انقطع هناك، لكن أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار، بينما صاحبه رأى أقدام المشركين، فخشي ليس على نفسه بل على نبيه، فقال: (لا تحزن إن الله معنا).

وهنا لا بد من التذكير بأن ما يذكر في بعض كتب الحديث وفي كتب السير، أن الذي صرف كفار قريش بعد أن هداهم تتبعهم للأثر إلى أن المطلوبين هما في الغار، زعموا بأنهم رأوا الحمامة قد عششت وباضت، وأن العنكبوت -أيضاً- نسج خيوطه، وقالوا: لا يمكن أن يكون في الغار أحد، فانصرفوا، هذا لم يصح على طريقة أهل الحديث، ثم هناك رواية قوية بأن الله عز وجل أمر ملكاً بأن يغطي بجناحه فم الغار ولذلك لم يروه.

فالشاهد أن ذلك المشرك تتبع آثار الجيش الغازي لتلك القرية، حتى وصل إلى مكان كان قد أدركهم فيه المساء، فنزلوا في وادٍ، وحسب النظام العسكري النبوي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان من الأنصار، أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، فقالا: نحن يا رسول الله! فقال لهما: كونا على فم الشعب، فانطلقا، والمشرك يراقبهما يريد أن يستغل الفرصة للوفاء بنذره ويأخذ بثأر زوجه، ولما وصلا إلى المكان الذي هو موضع حراسة الجيش النائم اتفقا على أن يتناوبا الحراسة، فأحدهما يحرس نصف الليل بينما الآخر ينام، ثم يتبادلان، ثم بدا للحارس الذي قام منتصباً أن يجمع بين عبادتين في وقت واحد: عبادة الحراسة، وعبادة الصلاة في الليل الهادئ، فقام يصلي، وهنا اغتنم المشرك الفرصة، حيث كان مختبئاَ وراء صخرة، فرماه بحربة فوضعها في ساقه، فما كان منه إلا أن رماها أرضاً والدماء تسيل منه، ولما رأى المشرك أن هدفه ما زال منتصباً رماه بالحربة الثانية فوضعها في ساقه، وهكذا ثلاث حراب ويصيب الهدف، ومن دقة تعبيره يقول: وضعها، والوضع عادة يكون باليد، لكن هذا من دقة الإصابة للهدف فكأنه يضع الحربة وضعاً بيده، ومع ذلك كان الصحابي الجليل مستمراً في صلاته لا يقطعها والدماء تسيل منه، حتى صلى ركعتين، ثم إما أنه أيقض صاحبه وإما أنه استيقظ، فلما رأى ما في صاحبه من الدماء هاله الأمر، وسأله عن السبب فقال: والذي نفسي بيده لقد كنت في سورة أقرؤها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً وضعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراسته لكانت نفسي فيها).

أي: تذكر وهو يصلي بأنه في وظيفة أمره الرسول أن يقوم بها، وهي حراسة الجيش النائم، وقد راق لـه الاستمرار في هذه الصلاة؛ لحلاوة المناجاة بين يدي الله عز وجل، ولولا أنه خشي أنه إن استمر في الصلاة، واستمر المشرك في رميه أن يكون هلاكه في هذه الصلاة فربما يهاجم العدو المسلمين، ولذلك هو قنع من الصلاة بركعتين، ولم يقنع بذلك خوفاً من الهلاك، وإنما خوفاً من هلاك الصحابة، فيما إذا هو مات وغدر بهم العدو.

إلى هنا تنتهي القصة، والشاهد منها: أن بعض الأئمة يحتجون بأن الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنه لو كان ناقضاً لما استمر هذا الرجل في الصلاة، فيرد المخالف ويقول: هذا تصرف شخصي منه، فيقول المردود عليهم: نعم، لكن هذا هو من أصحاب الرسول عليه السلام، فيجيب المخالف ويقول: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك.

نحن نجيب بجوابين اثنين، ولكن هنا شيء أقوى في أحد الجوابين مما سبق، وذلك أن هذا موظف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيصاب بهذه الجراحات وهو في حالة من العبادة والصفاء النفسي، فهل يمكن أن يخفى هذا على قائد الجيش لو كان قائداً عادياً؟ فكيف وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! مستبعد جداً جداً جداً أن يخفى وضع هذا الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذاً: الراجح أنه عليه السلام اطلع على واقع هذا الحدث، وبناءً على ذلك لو كان خروج الدم ناقضاً لبين ذلك، لما هو معلوم من أصول الفقه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استمر المخالف في المكابرة وقال: إنه لا يوجد نص أن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع، نقول لـه: حسبك أن رب الرسول اطلع، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذا لم ينزل شرع يبين أن خروج الدم ناقض الوضوء، كانت القصة حجة لمن يحتج بها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء.

الشاهد من هذا ومن ذاك: أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً لا سبيل إليه إلا بمعرفة سيرة الصحابة، وتطبيقهم لهذا الإسلام العظيم الذي تلقوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم، إما بقوله، وإما بفعله، وإما بتقريره، لذلك نعتقد جزماً أن كل جماعة لا تقوم قائمتها على هذا الأساس من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، دراسة واسعة جداً محيطة بكل أحكام الإسلام كبيرها وصغيرها، أصولها وفروعها، فليست هذه الجماعة من الفرقة الناجية، ومن التي تسير على الصراط المستقيم، الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح.

وإذا فرضنا أن هناك جماعات متفرقة في البلاد الإسلامية على هذا المنهج، فهذه ليست أحزاباً، وإنما هي جماعة واحدة، ومنهجها منهج واحد، وطريقها طريق واحد، فتفرقهم في البلاد ليس تفرقاً فكرياً عقدياً منهجياً، وإنما هو تفرق بتفرقهم في البلاد، بخلاف الجماعات والأحزاب التي تكون في بلد واحد، ومع ذلك فكل حزب بما لديهم فرحون، هذه الأحزاب لا نعتقد أنها على الصراط المستقيم، بل نجزم بأنها على تلك الطرق التي على رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه، ولعل في هذا جواب لما سبق.

السؤال: قرأنا على صفحات مجلة الفرقان التي تصدرها جمعية إحياء التراث الإسلامي في دولة الكويت، وهي مجلة ناطقة باسم الحركة السلفية، وهم -كما أعلم وسمعت منهم وكما تعلمون- يحبونك في الله، بل أنت أستاذهم وشيخهم، وهم يقولون هذا بكل عمق ويقين، لكن عندما قرأنا المقالات التي نشرها أخونا في الله عز وجل عبد الرحمن عبد الخالق بعنوان: حوار مع أستاذنا وشيخنا الألباني، فاتصلت بالشيخ عبد الرحمن بالهاتف من جدة، وبنفس الوقت اتصلت بشيخي وأستاذي أبي مالك محمد شقرة، وقلت للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق : إذا وصلك رد على ما نشرت من هذا الحوار في مجلة الفرقان من الشيخ محمد شقرة هل أنت مستعد أن تنشره على نفس صفحات الفرقان؟ فقال: نعم. كيف لا نعطي الحرية وغيرنا من غير الإسلاميين يعطي الحرية في ذلك، ثم قال: لكن إذا جاء منه رد على المذكرة التي خرجت من عندي بيد بعض الإخوان ووصلت إلى يد الأخ أبي مالك، فنحن لا ننشرها في مجلة الفرقان ؛ لأنني ما كتبتها للنشر.

وهذه المذكرة ربما بلغكم عنها وتعرفونها أكثر مني، وأبو مالك يعرفها؛ فإن لم تبلغكم فـأبو مالك يبلغها لكم، فنحن نحبكم في الله.

ثم أقول لكم بكل صراحة: إن إخوانكم من علماء السعودية يدعون لكم، وقد قابلت منهم سماحة الوالد الشيخ ابن باز الذي ما تحرج في كثير من محاضراته عندما يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها) فيعدكم سماحته من المجددين في الدين في إحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحبكم في الله، وأرجو أن يكون هذا من باب عاجل بشرى المؤمن، ولا نزكيك على الله، بل نحسبك منهم.

الشيخ: جزاه الله خيراً، ونسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا بما يقولون، وأن يجعلنا خيراً مما يظنون، وأن يغفر لنا ما لا يعلمون.

السؤال: بعض الإخوان من أهل العلم في المملكة ينتظرون ردكم على ما كتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في حواره بعنوان: حوار مع الشيخ الألباني، فهل ننتظر منكم الرد؛ لأن الإسلام علمنا أدباً ألا نأخذ بحكم أو برأي إلا بعد أن نسمع رأي الطرف الآخر الذي له صلة بهذا الموضوع؟

الجواب: في الواقع الحوار أنا قرأته، ولم أجد في نفسي دافعاً للرد على أخينا عبد الرحمن عبد الخالق ؛ لأن المسألة التي عرّض لها فيما يتعلق بشخصي ليست خلافية جوهرية، ولكن الشيء المهم جداً جداً هو ما نسبه إلى أخينا الشيخ محمد شقرة من أنه أنكر فرضية الجهاد، ونحو ذلك من العبارات التي يصعب علي الآن أن أستحضرها، مثل: معنى قوله: أنه جاء بسلفية جديدة، أو ما شابه ذلك، ثم أشار بأنه قد أكون أنا موافقاً لـه على ذلك، فنحن نرى بأن أخانا عبد الرحمن -نسأل الله أن يهدينا وإياه إلى الحق مما اختلف فيه الناس- قد اشتط به القلم، ليس في النشرة التي هو يقول: إنه ما عدها لتنشر في مجلة، وإنما في نفس المقال الذي نشره في المجلة، فقد نسب إلى أخينا محمد شقرة ما صرح هو بخلافه في كتابه الذي سماه بـالسلفية هي السلفية .

لذلك فأنا أرى أن الخلاف الذي ينبغي أن يزال وألا يكون، هو الخلاف بين شخصين كلاهما يعمل في الدعوة السلفية وعلى الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وهما أخونا عبد الرحمن وأخونا محمد شقرة، وقد علمت -والظاهر أنك لم تعلم بهذا الخبر- بأن محمد شقرة اتصل بأخينا عبد الرحمن، وعتِب عليه فيما ذكره، ليس في النشرة فقط بل وفي المجلة، وعلى ما نقل أخونا الشيخ محمد شقرة أن أخانا عبد الرحمن عبد الخالق اعتذر بأنه كتب المقالة على عجل، فالآن إذا كان الأمر كما حدثك أخونا عبد الرحمن عبد الخالق، أنه مستعد أن ينشر ما يصله من الرد على ما نشره هو في المجلة، فأنا في اعتقادي أن الرد حاضر لدى الأخ محمد .

ولذلك فالقضية من هذه الحيثية منتهية كما علمت، فعليك أن تراجع أخانا أبا مالك وتأخذ منه الرد وترسله إلى عبد الرحمن، أو أن أخانا محمد شقرة يرسله بالطريقة التي هو يرضاها، وأسأل الله عز وجل أن يلهمنا حسن الأسلوب في الرد والعدل مع المخالفين لنا في الرأي، ونحن لا ننكر أن الخلاف أمر طبيعي؛ لأن هذا النوع من الخلاف أو نوعاً من أنواع الخلاف قد كان موجودا ًفي عهد السلف الصالح بين الصحابة، فضلاً عمن بعدهم من الأئمة، ولكن ما عهدنا من أحدهم أن يفتري على أخيه المسلم، وأن يقول عليه ما لم يقل.

وفي اعتقادي بعد أن قرأنا ما في الفرقان، وقرأنا ما في كتاب محمد شقرة، وجدنا هناك تنافراً تاماً، حيث عقد فصلاً خاصاً بفرضية الجهاد، ولكنه دندن حول ما دندنت أنا آنفاً، من أنه لا بد من أخذ العدة للجهاد، وأن يكون الجهاد تحت راية إسلامية وأمير مطاع، وهذا لا يعني أنه أنكر الجهاد، وإنما أقر بالجهاد، ولكن الجهاد ليس فوضى، وليس ثورة نفسية وعواطف جامحة، ينطلق من ورائها أفراد كثيرون من المسلمين، ثم لا يريدون إلا الهلاك دون أن يفيدوا لهذا شيئاً مذكوراً.

فإذاً: بارك الله فيك، جوابك عند الأستاذ/ محمد شقرة إن شاء الله.

السائل: التفصيل التام عن الموضوع موجود في شريطكم الذي تحدثتم فيه، وكان في وجود شيخنا أبي مالك .

الشيخ: هناك شيء آخر، نحن اقترحنا على أخينا عبد الرحمن عبد الخالق أن يزورنا، وأن ينزل ضيفاً عندي في داري المتواضعة؛ لكي نتباحث عن قرب؛ لأنه في الحقيقة الرد كتابة يأخذ وقتاً طويلاً ومسافات طويلة جداً، بينما في جلسة واحدة قد يقول قائل كلمة فيقال لـه: هذا خطأ، وأنا ما أردت كذا، وما قصدت كذا، وإنما أردت كذا، فيمكن الحل وجاهياً، لذلك نحن نرجو أن نحظى بزيارة من أخينا عبد الرحمن، لاسيما أنه مضى علينا عشر سنوات أو أكثر ولم نره.

السائل: علمتمونا -فضيلة الشيخ- الدقة في المسائل العلمية، وأنتم ذكرتم الآن -ولعلي وهمت- أن الشيخ محمد شقرة هو الذي اتصل بالشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

الشيخ: المقصود أنه حدث اتصال بينهما، أما من الذي بدأ الاتصال؟ أنا أعرف أن أخانا أبا مالك كان حريصاً على الاتصال بـعبد الرحمن عبد الخالق، وأعلم أنه طلبه أكثر من مرة، فقيل لـه: كان مسافراً إلى الإمارات وبعد ذلك اتصل عبد الرحمن عبد الخالق بـأبي مالك وجرى النقاش.

السائل: أخبرني أستاذي الشيخ أبو مالك أنه هو الذي بدأ بالاتصال بـعبد الرحمن، وهذا ما جعلني أؤكد أن النية طيبة عند الشيخ، وأن الشيخ عبد الرحمن لم يفهم تماماً وتسرع في فهم مقصوده.

الشيخ: وهذا ما صرح به على حسب ما نقل أخونا أبو مالك، وعلى كل حال -إن شاء الله- لا يكون إلا خيراً.

السائل: نطلب من الأخ الفاضل الشيخ نظام سكجها أن يوصل رد الشيخ أبي مالك على الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ؛ لأن الشيخ أبا مالك الآن مسافر في العقبة، واتصلت به حتى آخذه فلم أجده.

السائل: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وطلبة العلم والدعاة إلى الله في الكويت وفي المملكة العربية السعودية بلغوني هذه الأمانة، وهي أن ألقي عليك هذه الأسئلة التي أجبت عنها، فجزاك الله كل خير، وعندي شعور أن الله تعالى شرح صدري لما تحدثت به سماحة الشيخ، وما عهدنا منك إلا سلامة النية وحبك لإخوانك ولعلماء المسلمين، ولا نزكي على الله أحداً، ومما زادنا يقيناً في هذا الأمر عندما سمعنا آخر حديثك وأنت تخاطب تلاميذك بإخواني، وهذا من تواضعك، فكم يفرح ويفخر هؤلاء الإخوة أمثال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وغيره عندما يسمعون أن سماحة الشيخ الألباني يقول: بلغ سلامي للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق .

في هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الرابع من شوال، ونحن أمام سماحة الوالد الشيخ الألباني، نسأل الله عز وجل أن يبارك في عمره، وأن يديم نفعه للإسلام والمسلمين.. اللهم آمين اللهم آمين.

الشيخ: جزاك الله خيراً، وعسى الله أن يهديك.




استمع المزيد من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - عنوان الحلقة اسٌتمع
السياسة الشرعية 3285 استماع
التعامل مع الجن 3276 استماع
فرصة استئناف الحياة الإسلامية 3170 استماع
مسائل أبى الحسن الدعوية (1) 3109 استماع
السنة والبدعة والشبهات 3084 استماع
لباس البنطال فى الصلاة 3077 استماع
فقة الصلاة وتحنيط الطيور 2930 استماع
المرأة التي أبكت الشيخ الألباني 2919 استماع
كيفية تلقي العقيدة 2902 استماع
أسئلة الإمارات 2897 استماع