مقتطفات من السيرة النبوية [2،1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

نعود بعد توقفنا السابق إلى كتابنا الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، ونحن على شرطنا الذي طالما ذكرناه وذكرناكم به مراراً وتكراراً، وهو ألا نسمعكم من أحاديث هذا الكتاب إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على طريقة علماء الحديث، من حيث ثبوت السند، وثقة الرواة والرجال، وكان درسنا الأخير وصل إلى الحديث التاسع والعشرين من كتاب: الترغيب في عيش السلف.. التاسع والعشرين بالنسبة للطبعة المنيرية، فقال المصنف رحمه الله:

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ).

الشاهد من هذا الحديث المناسب لهذا الباب الذي نحن فيه إنما هو طرفه الثاني، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ) يعني: إلا شيء من خبز يابس من الشعير كما علمتم من الأحاديث السابقة، وهذا الحديث سواءً بطرفه الثاني أو الأول إنما هو كناية، بل دليل واضح على شدة ما ابتلي به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل دعوته دعوة الحق، دعوة التوحيد التي جاهد المشركين في سبيلها أكثر من عشرين سنة، ولاقى في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب والجوع، وهذا ما يصف به نفسه عليه الصلاة والسلام بقوله أنه أوذي أذى لم يؤذ أحد بمثله، وأخيف أيضاً إخافة لم يخف مثله سواه عليه الصلاة والسلام، وكذلك لقي من الجوع ما لا يكاد يتصور؛ وذلك أنه مضى عليه صلوات الله وسلامه عليه ثلاثون يوماً بليلها ونهارها، ولا يجد من الطعام إلا ما يحمله بلال خادمه ومؤذنه تحت إبطه، وهذا كناية عن أن هذا الشيء الذي يحمله من الطعام هو شيء قليل؛ لأنه ما الذي يستطيع أن يحمله الإنسان في هذه المدة الطويلة تحت الإبط إلا أن يكون كسرات من خبز، أو تمرات من تمر تلك البلاد.

فإذاً: يجب علينا أن نأخذ من هذا الحديث ومن أمثاله من أحاديث سبقت، وأخرى تأتي: أسوة لنا برسولنا صلى الله عليه وسلم، فنصبر في سبيل الدعوة، ولا نتكلف التعب، والنصب، والمشقة؛ لأن ذلك ليس أمراً مرغوباً في الشرع، ولكن علينا إذا أصبنا في سبيل دعوتنا بشيء من ذلك التعب والنصب أن نصبر على الجوع، والعطش، والأذى، والأمر كما قال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فليست الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم محصورة بالاقتداء بصلاته وصيامه وسائر عباداته فحسب، وإنما الأسوة به صلوات الله وسلامه عليه تشمل كل نواحي الحياة.. فهي تشمل الأسوة به في عبادته، وكذلك في خلقه، وأيضاً في صبره وفي تحمله المشاق في سبيل دعوته، كل ذلك مما يجب علينا أن نتخذ فيه نبينا صلوات الله وسلامه عليه أسوة حسنة لنا.

هذا الحديث صحيح، ويقول الحافظ المؤلف: رواه الترمذي، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، قال المؤلف: ومعنى هذا الحديث حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من مكة ومعه بلال، إنما كان ما مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه.

الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً قال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً -يعني: شيئاً من الفراش من تحتك تدفع به أثر الحصير في جسدك، يكون لك شيء طري من تحتك- فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها).

وفي هذا الحديث كناية عن أن الذي يكون في سفر، وعلى عجل، فينزل تحت شجرة ولا يؤسس ولا يبني تحتها؛ لأنه عما قريب راحل، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه حينما شبه نفسه في هذه الحياة الدنيا، في هذه العاجلة الفانية، كالرجل المسافر ينزل تحت الشجرة يستظل بها، فهو سرعان ما يرحل عنها ويدعها، ففيه حض على ألا يتكلب وألا يتمسك المسلم بهذه الدنيا وبحطامها وزخرفها وزينتها، اللهم إلا بمقدار ما يساعده على القيام بحق العبادة لله عز وجل، هذه العبادة التي من أجلها خلقنا كما قال ربنا عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] .

هذا الحديث أيضاً صحيح، وقال المصنف في تخريجه: رواه ابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني ولفظه: هذا اللفظ طويل وفي سنده ضعف، ولذلك على الشرط السابق اجتنبته.

الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً، وهو قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: (يا رسول الله! لو اتخذت فراشاً أوفر من هذا، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب سافر في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها) رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي .

ومثلما تقدم قوله: وعنه -يعني: ابن عباس- قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره...) والإزار هو: الثوب الذي يغطي أسفل البدن، والرداء هو الذي يغطي أعلى البدن، وهذا أيضاً مما يصف فيه الراوي الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لما دخل عليه لم يكن عليه من الثياب إلا الإزار الذي يغطي به عورته عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك يصف البيت والغرفة التي كان فيها، والفراش الذي كان جالساً عليه.. قال: [فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرض في ناحية في الغرفة] هذا كل الزاد الذي يوجد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هو إلا الحصير، والقبضة من الشعير، وقليل من القرض الذي كانوا يدبغون به الإهاب، أي: الجلود قبل دبغها.. قال: [وقرض في ناحية في الغرفة، وإذا إهاب معلق -كأن هذا القرض هيئ لدبغ هذا الإهاب- وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا ابن الخطاب؟! فقال: يا نبي الله! وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى من الشعير والقرض، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك -لماذا لا أبكي وأنت سيد البشر، وأنت في هذا الفقر، وأولئك الكفار ملوك كسرى وقيصر يعيشون في النعيم، في الحرير وفي الأنهار- قال: يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟).

هكذا الحديث ينتهي هنا في هذا الكتاب، ولكن يجب أن يستدرك عليه زيادة ابن ماجة، (قلت: بلى) هذه الزيادة لم ترد في الكتاب هنا في هذه النسخة، فتستدرك عند من كانت عنده نسخة كنسختي، قال: (يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى) رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم .

عندي هنا استدراك على هذا التخريج، قلت: وفي استدراكه على مسلم وهم، وفي عزو المصنف لـابن ماجة تقصير، فقد أخرجه مسلم في الجزء الرابع في الصفحة الثامنة والثمانين بعد المائة، إلى التاسعة والثمانين بعد المائة في قصة اعتزاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءه بلفظ ابن ماجة وإسناده... إلى آخر التعليق.

فالمصنف عزاه فقط لـابن ماجة ثم للحاكم، وذكر أن الحاكم صححه على شرط مسلم .

وهنا وهم من جهة الحاكم، وتقصير من جهة المؤلف، فالوهم من جهة الحاكم لأنه خرّج هذا الحديث في كتابه المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، وإنما يخرج في كتابه المذكور ما لم يأت في صحيح البخاري أو صحيح مسلم، ويكون الحديث على شرطهما أو شرط أحدهما، ففي هذه الحالة يورد الحديث ويقول: صحيحٌ على شرط البخاري، أو صحيح على شرط مسلم، فهذا الحديث استدركه الحاكم وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم، وفاته أن الإمام مسلم رواه في صحيحه، كما رواه الحاكم في مستدركه، ومن هنا يتبين تقصير المصنف؛ حيث اقتصر في تخريج الحديث على عزوه لـابن ماجة والحاكم، وكان الأحق أن يعزى لـصحيح مسلم، ولكن بُعد المخرج عن مظنة الإنسان أبعد المصنف عن أن يستحضر عزوه لـصحيح مسلم ؛ لأن مسلماً إنما روى هذه القطعة بمناسبة اعتزاله عليه الصلاة والسلام لنسائه، في قصة معروفة أخرجها مسلم بكاملها.

وفي تضاعيفها لما بلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، جاء إليه ليواسيه عليه الصلاة والسلام، أو يساعده على ما هو فيه، فلما دخل عليه رأى ما جاء في هذه الرواية، وفي هذه القصة بتمامها جاء هذا المقدار منها في صحيح مسلم، فلم يتنبه لذلك الحاكم، ثم المؤلف، وهذا يقع لكل مؤلف؛ لأن العصمة لله وحده سبحانه وتعالى.

السؤال: هناك من يرى في الأيام الحاضرة، أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالعبادات ملزمة للمسلم أن يعتقد بها، في حين أنهم لا يرون ذلك بالنسبة للأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا، ويرون أن العقل البشري يمكن له أن يحكم عليها بالصحة والبطلان، تبعاً لتطور الفكر ومكتشفات العلم، ويؤيدون ما يذهبون إليه بحادثة تأبير النخل، وحادثة تمركز جيش المسلمين في غزوة بدر عند الماء، كما أنهم يقولون في الصحابة: إنهم رجال، ونحن رجال، وإنهم خاضعون للنقد في سلوكهم وأقوالهم شأن أي من الرجال، فالرجاء بيان الرأي في ذلك مع الشكر.

الجواب: هذا السؤال كما لاحظتم يتضمن سؤالين: أولهما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام وأقواله، والتفريق المزعوم بين ما له علاقة بالدين والعبادة، وما له علاقة بغير ذلك.

والسؤال الثاني الذي يتعلق بالصحابة، ولست أدري ماذا أراد السائل من الربط بين السؤال الأول والآخر، إلا أن يكون يعني حكاية عن أولئك الناس: أن هذه الأحاديث التي ترد عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرفوعة إليه، وفيها إشكال أو فيها مخالفة للعلم -زعموا-، كحديث الذباب مثلاً: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه .) ....إلخ، فلعل السائل يعني بالسؤال الثاني: أن مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها في سؤاله الأول، والتي ليست من أمور الدين في شيء -بزعمهم- إنما رواها هؤلاء الصحابة، وهؤلاء الصحابة إنما هم بشر مثلنا، فيجوز عليهم الخطأ، فكأن قصد السائل فيما يشرحه عن أولئك الناس في هذا الزمان أنهم يقولون: إن ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالدين والعبادة المحضة، فنحن له خاضعون ومستسلمون، أما ما جاءنا عنه من غير ذلك مما له علاقة بالكون، والفلك، والبحار، والجبال، وغير ذلك من أمور الطبيعة، فنحن لسنا مكلفين ولا متعبدين بالخضوع لها والاستسلام لها؛ لأمرين اثنين:

الأمر الأول: أننا إذا سلمنا بصحة هذه الأحاديث ونسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول بشر ويجري عليه ما يجري على البشر؛ إلا فيما يتعلق بالدين، وهذه الأمور في زعمهم ليس لها علاقة بالدين، فإذا جاءت مخالفة لما ثبت في العلم التجريبي؛ فحينئذٍ نحكم بأن ذلك من أخطاء الرسول عليه الصلاة والسلام في الأمور الدنيوية، ومثال ذلك ما جاء في السؤال: حديث تأبير النخل، أو يقولون: إن الذي روى الحديث ونسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هو صحابي أو من دونه، فهو ليس بمعصوم فيكون قد أخطأ، فدلنا على كون هذا الحديث خطأً العلم التجريبي زعموا.

وهو يقول: لا شك ولا نحابي نحن في دين الله أحداً، ولا نمشي فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام بعواطفنا، وإنما بعقولنا وعلمنا المستقى من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله، ونحن نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً في كل شيء، لكنه معصوم في كل شيء أن يقرَّ على شيء من هذه الأشياء وهو مخطئ في ذلك، فهنا شيئان يجب التمييز بينهما: الشيء الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يخطئ، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من الأدلة على ذلك؛ لأن القرآن يقول: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة:43] من الذي لا يفهم من هذا أنه كان الأولى ألا يأذن لهم؟ فيكون هذا خطأ، كذلك قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] إلى آخر الآيات، فهذه الآيات فيها أشياء كثيرة جداً.

أخيراً: يأتي حديث تأبير النخل، حيث قال لهم: (لو تركتم النخل بدون تأبير -أي: بدون التطعيم الذي كانوا يعرفونه بالتجربة- لكان خرج خيراً مما تفعلونه) وشاء الله عز وجل أن يطبق في هذه الحادثة بعينها سنته عز وجل في النخل، فجاء النخل شيصاً، أي: عبارة عن بذرة وقشرة ليس فيها لب، ناشف، فجاءوا إليه يقولون: الأمر كذا وكذا، فقال: (إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من أمر الله عز وجل فأتوا منه ما استطعتم، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم) انتهى الحديث.

فنحن نلاحظ أن قضية تأبير النخل قضية مهنية دنيوية محضة، لا ضير على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا عيب، ولا نقص ألا يكون مؤبراً، ولا مزارعاً، ولا حداداً، ولا نجاراً... إلخ، لماذا؟ لأن هذه أمور دنيوية، لكن فيما يتعلق بالدين، والدين ليس فقط عبادات كما يزعم هؤلاء الذين يحكي عنهم السائل، فالدين فيه أمور تتعلق بالعبادات، وفيه أمور تتعلق بالمغيبات، وفيه أمور تتعلق بنظم يسمونها اليوم في الاصطلاح الجديد بالاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتربوية.. إلى غير ذلك مما هو معلوم، فالإسلام جاء كاملاً وشاملاً لكل ما يحتاجه البشر من نظم.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38].

ولذلك إذا جاء حديث ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه من أمور الدنيا، وليس من أمور الدين، ومثاله حديث الذباب الذي ذكرناه آنفاً، ومثال ذلك: (الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا السام) أي: الموت، وهذا منه شيء كثير وكثير جداً، بعد أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يجوز أن نجعل هذا النوع من أمور الدنيا التي لنا الخيرة فيها، ولنا أن نأخذ بها أو لا نأخذ، أو نصوبها أو نخطئها، والسبب في ذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: ما ذكرته آنفاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام إن أخطأ -وقليلاً ما يخطئ- فلا يقر على خطئه، فإذا جاء الحديث وقد تلقاه الصحابة، وتلقاه من بعدهم، وهكذا جيل عن جيل، حتى وصلتنا هذه الأحاديث على أنها حق وصدق من حيث الرواية، ومن حيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام تكلم بها، وأقره الله تبارك وتعالى عليها، فلا يمكن والحالة هذه أن نقول: إن هذه من أمور الدينا، هذا من ناحية.

أنا أقول: عجباً من هؤلاء الناس! لو أن إنساناً عادياً ليس له من خلقه ومن كماله ما هو جزء من مليون جزء من كمال الرسول عليه الصلاة والسلام، لو قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم ليخرجه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء) ماذا نقول عن هذا الإنسان؟ نقول كما قيل في بعض القضايا، أو في بعض العلماء، لما قيل لبعض الظرفاء والأدباء: فلان كذا وكذا في العلم، وفي حفظه للحديث، فذهب ليزوره، فلما خرج من عنده سألوه: كيف رأيته؟ قال: إما أنه أحفظ الناس، أو أكذب الناس، لماذا؟

لأنه سمع منه أشياء، وعلى الرغم من أنه يكاد يكون مقراً له من حيث الحفظ والرواية، ولكنه أسمعه أشياء ما سمعها في حياته كلها. إذاً إما أنه من أحفظ الناس أو أكذب الناس.

كذلك يمكن أن نقول: إذا تحدث إنسان عادي في هذا الأمر الغريب، فقال: إن هذه الحشرة الصغيرة في أحد جناحيها داء، وفي الآخر دواء، ماذا نقول عنه؟

إما أنه دجال، وإما أنه أوتي من العلم ما لم يؤت الناس، لا مناص من أحد شيئين: إما أن يقال: يمكن أن يكون هذا باجتهاد من عنده، وهو لم يتعلم أي علم؛ لا طب، ولا جراحة، ولا تشريح، ولا أي شيء، مع هذا هل يقال: قال هذا برأيه؟ لا. هذا صنيع الدجالين.

لذلك أنا أقول: هؤلاء الناس بسطاء العقول، فهم ينسبون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يتحدث عن أمور غيبية دقيقة ودقيقة جداً، حتى هذا العلم الذي يفخرون به اليوم لم يدندن حول هذه الحقيقة بعد ولا استطاع، على الرغم من أن بعض المتحمسين يقولون: ثبت حديث الذباب علمياً، ونحن نقول: ثبت شيء منه، لكن التفصيل الذي تضمنه الحديث لم يتحدث عنه هذا العلم التجريبي التشريحي حتى الآن، ولعله يمكن أن يصل إليه يوماً ما؛ ذلك لأن العلم اليوم يقول: إن الذبابة تحمل في جناحيها وفي بدنها نوعاً من الجراثيم، وأظن أنهم يسمونها بالبكتيريا، وهذه الجراثيم تفتك وتقتل الجراثيم الضارة، هذا كل ما قاله الطب، وهذا فعلاً لم يكن معلوماً من قبل، لكن الحديث يأتي بتفصيل دقيق، يقول: الجرثوم القاتل في أحد جناحيه، والجرثوم القاتل للجرثوم القاتل في الجناح الآخر، هذا الطب لا يعرفه أبداً، مصداقاً لقوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] .

إذاً: كيف نقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا هو برأي من عنده؟! هذا لو قاله إنسان عني أنا، فسأقول: إنه يطعن فيّ؛ لأنه ينسب إلي أنني أقول رجماً بالغيب، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بمثل هذا الكلام!

إذاً: ما دام أن الحديث صح فوجب الإيمان به، ووجب إدخاله في الدين، والدين ليس فقط عبادةً، وصلاةً، وحجاً، وإنما كل شيء جاء عن الله ورسوله، ورسوله قد أُقِّر على ما قاله ولو باجتهاد من عند نفسه فهو دين.

كذلك من خلال حديث آخر، والأحاديث في هذا كثيرة جداً: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت) هل يقول هذا إنسان اجتهاداً من عند نفسه؟ الجواب: لا يقول هذا إلا الدجالون، الذين يريدون أن يسيطروا على عقول الناس، وأن يبتزوا منهم أموالهم بالباطل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن ذلك، فهو إذاً يقول ما سمع من الله تبارك وتعالى.

لذلك فالأحاديث التي تصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد جاءت مقررة ولم تنسخ، ولا بخبر أن يقول: هذا رأي من عندي. كما سمعتم في تأبير النخل؛ فحكمها حكم الصلاة والزكاة، وكل الأحاديث التي لها علاقة بشريعة الله تبارك وتعالى.

وهذه الأحاديث رواها أولئك الصحابة، والتابعون، والآخرون الذين جاءوا من بعدهم، الذين رووا لنا القسم الأول من الدين، والذي يريد هؤلاء الناس أن يجعلوه هو الدين كله، فنحن نقول لهؤلاء المحدثين المبتدعين في الدين كما قال سلفنا الأول للمبتدعين السابقين، حينما جاءوا ببدعة التفريق بين الحديث الذي له علاقة بالأحكام، وكان الراوي ثقة يحتج بهذا الحديث، وبين هذا الحديث أو مثل هذا الحديث الذي يأتي وليس له علاقة بالأحكام، وإنما له علاقة بالعقيدة، وله علاقة بالغيب، قال هؤلاء المبتدعة القدامى: لا نأخذ هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر فرد عليهم علماء السنة -سلفنا الصالح- وقالوا: الذين رووا لنا أحاديث العبادات هم الذين رووا لنا أحاديث العقائد، فلماذا نقول: هذا الثقة في هذا الحديث ثقة، وفي ذاك الحديث ليس بثقة، وهو هو؟ بل قد يكون هناك ثقتان كلاهما رويا حديثاً في العبادات فيحتج به، ورويا حديثاً آخر في العقائد والغيبيات فلا يحتج به!! هذا التفريق كان قديماً، ثم قضى عليه علماء السلف بجهودهم العلمية، ثم أبدت هذه البدعة قرنها في العصر الحاضر بطريقة أخرى، وبطريقة علمية، -زعموا- فكانوا يقولون: إن العقل لا يقبل الحديث في العقائد إلا ما يكون متواتراً، وهم يقولون أيضاً: العقل لا يقبل حديثاً جاء في أمور تتعلق بالعلوم الطبية، أو التجريبية، أو نحو ذلك، والعلم لم يحققها بعد، نحن نقول: أأنتم أعلم أم الله تبارك تعالى؟ والله عز وجل قد أوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى من أمور فيها تكليف لنا من الناحية العملية من جهة، وتكليف لنا من الناحية الفكرية والاعتقادية من جهة أخرى؛ ليبلونا أنؤمن أم نكفر؟ نحن نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المؤمنين بكل ما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام برواية الرواة الثقات.

كذلك جاء في آخر السؤال وذكر كمثال مع حديث تأبير النخل حديث المنزل: (أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: لا، إنما هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: فأنا أرى أن تنزل في مكان كذا) هذه القصة على شهرتها في كتب السيرة، فهي قصة غير ثابتة من الناحية الحديثية؛ ولذلك فلا يصح اتخاذها مثالاً لذاك الانحراف على انحرافه، وقد بينت بعض هذه القصة في كتابي الذي طبع منذ عهد قريب بعنوان: دفاع عن الحديث الشريف

وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.

السؤال: يسأل السائل عن حديث يبدو منه أنه يخالف تقريرنا السابق في جواز إطلاق لفظة: (سيد) كما أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام على سعد بن معاذ، وهناك حديث آخر يبدو أنه ينافي هذا؟

الجواب: هو ليس كذلك عند إمعان النظر فيه، وذلك الحديث يقول: إن جماعة أتوا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، فأجابهم بقوله عليه الصلاة والسلام: (السيد الله) فواضح أنه لم يرض منهم هذا الإطلاق للفظة السيادة على من هو سيد البشر جميعاً عليه الصلاة والسلام، مع ذلك فالظاهر من الحديث أنه لم يرتض منهم قولهم له: أنت سيدنا، بينما في حديث آخر فيما يشبه هذه القصة، قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال لهم: (قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم هذا، ولا يستجرينكم الشيطان)، الحديث الذي قبل هذا يُفَسَّر على ضوء هذا، لما قال لهم: (السيد الله) كأنه عليه الصلاة والسلام أحس أن هؤلاء يقدسونه بهذه اللفظة تقديساً، ويرفعونه فوق المنزلة التي وضعه الله فيها، وهذا غير جائز شرعاً، كما جاء في الحديث صراحةً: (لا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله فيها)، فكأنه عليه الصلاة والسلام سمع من الطائفة الأولى هذه اللفظة مكسية بشيء من القداسة، التي يُخشى منها أن توصلهم إلى الشرك، أو على الأقل إلى شيء من الشرك، ولذلك سد عليهم الباب، وقال لهم مبيناً أن السيادة الحقيقة إنما هي لله تبارك وتعالى، فقال لهم: (السيد الله) لكن هذا لا يعني: أنه لا يجوز للمسلم أن يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه سيدنا، كيف وهو الذي أخبرنا في غير ما حديث أنه سيد الناس يوم القيامة! وآدم فمن دونه تحت لوائه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، لكن يريد منا أننا إذا أطلقنا هذه اللفظة عليه وهو أهل لها، ألا نطعمها ولا نمزجها بشيء من الغلو فيه، مما حذرنا منه الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، من ذلك الحديث المتفق عليه عند الشيخين: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، فهذا ما يخشاه عليه الصلاة والسلام حين يسمع من بعض الناس مثل تلك اللفظة، والناس ليسوا كلهم سواء في هذا المحذور، فإذا أحس الرسول عليه الصلاة والسلام من بعضهم شيئاً من هذا المحذور؛ قطع بينهم وبين هذا اللفظ، وألفتهم إلى ربهم عز وجل الذي هو له السيادة المطلقة، لهذا قال لهم: (السيد الله).

بينما الجماعة الأخرى عاملهم معاملة أخرى، فقد لفت نظرهم إلى ما قد يخشى من هذا الاستعمال، ولذلك قال لهم: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان)، بين هنا الرسول عليه الصلاة والسلام المحذور الذي قد يقع من مدحه عليه الصلاة والسلام ولو بشيء هو متلبس فيه، وهو صفة تامة له، فكأنه يقول لهم: قولوا: يا سيدنا، ولكن احذروا أن تجركم هذه الكلمة إلى أن تقولوا فيه عليه الصلاة والسلام ما لا يجوز فسبحان الله! إن النبي عليه الصلاة والسلام كما قال الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فالذي خشيه الرسول على أمته وقعت فيه الأمة إلا القليل منهم، وهم الذين يحرصون دائماً على التمسك بالسنة، وترك العواطف التي تجمح بصاحبها ولا تعرف حدوداً لها، فالعواطف هنا تفسد على الإنسان عقيدته وفكره، لذلك تجد بعض الناس اليوم يُسأل مثل هذا السؤال: هل الأفضل أن نقول في التشهد: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، أو أن نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد .. إلى آخر الصلوات؟

والذي يدفع الناس إلى مثل هذا السؤال وهو سؤال مبتدع، ولم يخطر في بال السلف الصالح إطلاقاً، والسبب أنه لم يوجد موجبه، فلم يكن في الصحابة من يرى أن هناك هدياً أحسن وأهدى من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقد يقول قائل: ولا أحد يقول ذلك اليوم، نقول: بل هناك أناس في واقع حياتهم يقولون: إن هناك أهدى من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لا يتجرءون على أن يتلفظوا بذلك؛ لأنه ضلال مبين ومكشوف، لماذا؟

لأنك تقول لأحدهم: يا أخي! لا تفعل كذا، فيقول: لماذا؟ فتقول له: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، فإن قال: فكيف أثبت ما فعله الرسول؟ نقول: إما أن تثبت أن الرسول فعل، أو تثبت أن الرسول أمر أو حض، وإلا فارجع عن كلمتك، وإلا فمعنى كلامك: أن هداك خير من هدى الرسول، وهديك خير من هدي الرسول، وهذا هو الكفر بعينه.

فلم يكن في السلف من يقول في الصلاة: اللهم صلِّ على سيدنا؛ لأنهم تلقوا الأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا، وهم لا يخالفون الأمر بفلسفتهم وآرائهم الخاصة، بخلافنا نحن اليوم.

أنا أقول دائماً وأبداً: لو فتح باب إلحاق مثل هذه الألفاظ بآراء الناس لتغيرت الشريعة، ولأصابها ما أصاب شريعة التوراة والإنجيل، لكن وقف الناس -وهذا من فضل الله علينا وعليهم جميعاً- عند بعض الألفاظ، وإلا لو اعتقدوا برأيهم وقدموه لخرجوا بالكلية عن الشريعة، فلما نزل قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] قالوا: (يا رسول الله! هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ..) إلى آخر الصلاة المعروفة.. فهل يتصور عالم -الجاهل ما لنا وله- يسمع هذا الأمر من الرسول مباشرة يقول لهم: (قولوا اللهم صلِّ على محمد) وإذا به بينه وبين ربه في التشهد يقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم .... إلخ، أما الصحابة، أما التابعون، أما أتباعهم، فهذا نعتبره مستحيلاً عليهم، أما المتأخرون فحدث ولا حرج.

وكنت أقول: مثل هذا يجر بعض الناس إلى زيادات أخرى، ولكنهم لا يفعلونها، فمثلاً: التحيات لله، لماذا لا يقولون: لله سبحانه وتعالى؟ والله أحق بالتبجيل والتعظيم، لماذا لا يقولون: التحيات لله عز وجل؟ لماذا لا يقولون: التحيات لله مولانا وسيدنا وهو السيد الأصل؟

فكنت أطرح هذا الإشكال لأردهم عن تلك الزيادة للفظة (سيدنا)، وإذا بي أنتبه من بعض المصلين عندنا في المسجد إلى أن أحدهم يأتي بزيادات في التشهد ما سمعتها طيلة حياتي؛ لأنه لا توجد عنده ضوابط، ولا يوجد عنده قيد أن خير الهدى هدى محمد، وأن تعليمه كامل وليس بقاصر، فليس عنده هذه الفكرة.

وقد يكون -كما أشعر- عنده شيء من الدراسة الفقهية المتوارثة اليوم، لكنه ما سمع في حياته بأن خير الهدى هدى محمد معناه: ألا تزيد على ما جاء في السنة ولو حرفاً واحداً.

لقد أعجبني -ورويت هذا من قبل- ما وقفت عليه حديثاً، حيث وجدت لأول مرة في حياتي وفي حجتي الأخيرة إلى البيت الحرام نسخة من كتاب: معجم الطبراني الأوسط، فانكببت على دراسته، فوجدت فيه فوائد بعضها ما وجدتها في ألوف المخطوطات التي قرأتها من كبير وصغير طبعاً، فقلت لصاحبي: اسمع هذا النص، فقد أنساه ولا تنساه.

فما هو النص؟

يقول الطبراني بإسناده الصحيح: عن عبد الله بن مسعود أنه كان في مجلس يعلم أحد الناس صفة التشهد الذي نعرفه اليوم جميعاً، فلما جاء عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ماذا قال المتعلم؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فماذا أجابه ابن مسعود؟ أجابه بأسلوب لطيف جداً -ونحن -كما قلت لكم في غير ما مناسبة- بحاجة إلى أن نتعلم هذه الأساليب.. فقال: [إنه لكذلك]، الرجل ماذا زاد؟ زاد جملة: (وحده لا شريك له) فقال ابن مسعود : [إنه لكذلك، ولكننا ننتهي إلى ما علمنا] .

ووجدت عبارة أخرى -سبحان الله كلهم من مدرسة واحدة- وهي أن أحد تلامذة ابن مسعود سمع رجلاً يزيد زيادة أخرى في التشهد، فأكد له هذا المعنى على طريقة ابن مسعود، وقال له أيضاً-: [ننتهي إلى ما علِّمنا]، فنحن المسلمين اليوم بحاجة إلى هذا الأدب؛ حتى نكون خاضعين فعلاً، ومستسلمين حقاً لله رب العالمين، فالتعليم في الصلاة كان: اللهم صلِّ على محمد، ثم الذين يزيدون هذه اللفظة لا يشعرون أن هذه الصلاة بما فيها من دعاء إلى الله ليصلي على الرسول كما صلى على إبراهيم، ويبارك عليه كما بارك على إبراهيم، فهذا يساوي هذه الفضيلة التي يريدها -إذا صح التعبير- المدخل لهذه اللفظة في الصلاة الإبراهيمية، أي: أن هذا الدعاء كله شرف وسيادة للرسول عليه الصلاة والسلام، والدعاء بالسيادة له في ذلك، فلماذا هذه اللفظة؟

وهذه الزيادة على الصلاة الإبراهيمية تشبه زيادة أخرى يقولها الناس اليوم إجابة للمؤذن، حيث يقولون: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة. فلفظة: (الدرجة الرفيعة) ليس لها أصل، وذكرها هنا مع كونها ليس لها أصل في الحديث هو من تحصيل الحاصل؛ لأنه جاء في الحديث الآخر: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة) إذاً: حين تقول: آت محمداً الوسيلة والفضيلة، ما هي؟ هي الدرجة الرفيعة في الجنة، فإذاً هذا حشوٌ في الكلام مع مخالفة النص، ولا تفهموا مني بطبيعة الحال أنه لو كان هناك زيادة فيها معنى حسن جميل أننا نستحسن الزيادة على تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس بعد تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام تعليم لأي إنسان.

وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.