نداءات الرحمن لأهل الإيمان 93


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم. آمين.

النداء الذي سمعناه أمس وعرفنا ما فيه وتهيأنا للعمل لما دعانا إليه له خلاصة في الأرقام الخمسة التالية:

[ أولاً: حرمة التشاغل بالمال والولد إذا كان يحملك ذلك على إضاعة بعض الفرائض أو ترك الحقوق والواجبات، كذكر الله تعالى وفعل الخيرات ] لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]. فإذا كان هذا التشاغل يحمل العبد على إضاعة بعض الفرائض أو ترك الحقوق والواجبات يصبح هذا التشاغل حراماً، بل نعطي للمال وقته، وللولد وقته، ولا يحملنا ذلك على ترك شرائع الله وفرائضه وواجباته.

[ ثانياً: حرمة تأخير الحج مع القدرة عليه، والتشاغل عنه بالمال والولد، أو تسويفاً أو مماطلة ] وهذا يفهم من قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون:10]. فمن هذا اللفظ الإلهي استنبطنا وفهمنا حرمة تأخير الحج مع القدرة عليه وتسويفه، أو المماطلة فيه والتشاغل عنه بالمال والولد؛ لأن الإنسان لا يدري هل يعيش سنة أخرى أو لا، والله يقول وقوله الحق: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10]. ونحن لا ندري متى يأتينا الموت. ومن هنا إذا وجب حق من الحقوق فيجب ألا نماطل فيه، وألا نسوفه أو نؤخره، وإنما ننجزه على الفور؛ خشية أن يدركنا الموت ونحن مضيعون أو مفرطون.

[ ثالثاً: وجوب الزكاة وحرمة تأخيرها عن وقتها ] لأن الله قال: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]. وأول ما يدخل في هذا الزكاة، فيحرم تأخيرها عن وقتها، فإذا وجبت في محرم فلا ينبغي أن يؤخرها إلى رمضان أو إلى شعبان مثلاً؛ لأنه قد يموت قبل أن يخرجها، فيتأسف ويتحسر ويقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي [المنافقون:10].

[ رابعاً: الندب إلى فعل الخيرات كالصدقات ونوافل العبادات من صيام وصلاة وغيرهما ] وهذا يدل عليه قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10]. فإذا كنت قادراً على أن تتنفل بالصدقة أو بالصيام أو بالصلاة فعجل، فسيأتي ساعة تشاهد فيها ملك الموت فتقول: يا ليتني فعلت كذا!

[ خامساً: لا تنس ذكر الدار الآخرة فإن الموت اللازم طريقها ] ومن نسي الدار الآخرة ونسي الموت انغمس في الأهواء والشهوات، فلا بد وأن تكون الدار الآخرة دائماً نصب أعيننا، وفي الحديث: ( اذكروا هاذم اللذات ). وهو الموت. فلا تنسه، ومن نسي الموت أقبل على الدنيا، وانغمس في أوحالها، وتمزق فيها. وقد قال تعالى في القرآن الكريم في ذكر صالحي عباده: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46]، أي: ذكر الدار الآخرة، فقد ميز الله بها صالح عباده، وفي قراءة سبعية: ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار الآخرة) [ فاذكر هذا، والله يتولى الصالحين.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

هذا هو [ النداء السابع والثمانون ] من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، والمنادي به الله جل جلاله بواسطة كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا النداء [ في التحذير من فتنة المال والزوجة والولد ] وقد نهانا في النداء السابق عن التشاغل بالمال والولد، فقال تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]. وفي هذا النداء يحذرنا من فتنة المال، سواء كان صامتاً أو ناطقاً، والمال الناطق: الأنعام من الإبل والبقر والغنم، والمال الصامت: الدينار والدرهم والزروع، وما إلى ذلك. وكذلك هذا النداء يحذرنا من فتنة الزوجة ربة البيت، وكذلك يحذرنا من فتنة الولد منها أو من غيرها. فهذه الثلاثة تقع فيها الفتنة، وينجو منها من شاء الله نجاته، ويهلك فيها من شاء الله هلاكه، وحاشا لله أن يشاء هلاك عباده، ولكنهم هم الذين يشاءون، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] [ و] كذلك هذا النداء في [ بيان فضل العفو والصفح والغفران ] فمن عفا وصفح وغفر له أجر عظيم [ و] هو كذلك في [ علاج شح النفس ] فالنفس لها شح، ومن أصيبت نفسه بالشح ولم يقه الله شر هذا الشح فإنه يهلك، والويل له.

[ الآيات (14 - 16) من سورة التغابن ] وهيا بنا نتغنى بالنداء أولاً؛ رجاء أن نحفظه، أو نقارب حفظه.

[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:14-16] ].

ما تتحقق به ولاية الله عز وجل

[ الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم! ] والمستمع المستفيد! [ أن هذا النداء الإلهي يحمل تحذيراً عظيماً ] والله [ من فتنة المال والولد والزوجة أيضاً. إنه من ] أجل [ ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين ناداهم بعنوان الإيمان ] ليعلمهم؛ لأنه يحبهم؛ لأنهم أولياؤه، ولذلك ناداهم قائلاً: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التغابن:14] ] فقولوا: لبيك اللهم ليبك. وولاية الله للعبد تتحقق بأمرين اثنين: الأول: الإيمان الصحيح، والثاني: التقوى الحقة، فمن آمن إيماناً صحيحاً واتقى الله ولم يعصه بترك واجب ولا بفعل حرام فهو ولي الله. وكلنا نرغب أن نكون أولياء لله، ولذلك علينا أن نكون مؤمنين أتقياء.

والولاية ليست محصورة في الموتى، بل المؤمنين والمؤمنات الأحياء هم أولياء الله، فكل مؤمن تقي هو لله ولي حياً كان أو ميتاً .. في الأولين أو الآخرين .. عربياً أو عجمياً، ولا قيمة للنسب في هذا، بل العبرة أن تكون مؤمناً متقياً لله، ولم تغضبه بالتمرد عليه والفسق عن أمره والخروج عن طاعته. فإن فعلت ذلك فأنت ولي الله.

تحذير الله للمؤمنين من فتنة الولد والزوجة

نادى الله المؤمنين بهذا النداء [ لأنهم بإيمانهم أحياء، يسمعون ويجيبون ] ولولا ولايته لهم لم ينادهم، بل كان سيتركهم تأكلهم النار والشر والبلاء كأعدائه الكفار، ولكن بحكم أنهم أولياؤه [ ناداهم ليخبرهم ] وليعلمهم، وليحذرهم وليأمرهم ولينهاهم؛ من أجل أن تكمل ولايتهم، وتعظم درجتهم في الملكوت الأعلى مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فلتتق أنفسكم الله؛ لتكون مع تلك المواكب، والذين تصلون عليهم اليوم إن كانوا من أهل طاعة الله والرسول فهم مع أولئك المواكب قطعاً وبدون شك.

وهو هنا سبحانه وتعالى ينادي عباده المؤمنين ليخبرهم [ محذراً منذراً، فيقول: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14] ] والعدو مشتق ومأخوذ من عدوة الوادي، ويقال: العَدوَة والعِدوة والعُدوة، كالعَشوة والعِشوة والعُشوة، وهي: طرف الوادي، ومنه قوله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى [الأنفال:42]. وعدوك هو الذي لا يتصل بك ولا يلتصق بك، وإنما يقف هناك وأنت هنا، ولا يكون بينكما لقاء؛ لأنه يبغضك ويكرهك، وأنت تبغضه وتكرهه، ولذلك لا تلتقيان، بل هو في طرف الحياة وأنت في الطرف الآخر.

ومعنى قوله تعالى هنا: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14] أن منهم من يقف في طرف وأنت في طرف آخر بعيداً عنه؛ لأنه يريد شقاءك وخسرانك، ولذلك فهو بعيد عنك، وعدو لك. وكل من يريد أذاك وشرك وخسرانك فهو عدوك، فلا ترتبط به، ولا تدعه يرتبط بك، حتى ولو كان ولدك أو امرأتك.

قال: [ ومن فضل الله تعالى أنه قد توجد زوجة صديقة للزوج، ويوجد ولد صديق للوالد، دل على هذا قوله عز وجل: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ [التغابن:14] ] ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا! إن أزواجكم وأولادكم عدو لكم، وإلا لما سعدنا، ولكنه قال: مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ [التغابن:14]، أي: بعض أزواجكم وأولادكم [ لأن من للتبعيض مثل ] النداء السابق [ أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ [المنافقون:10]. لا كل ما رزقناكم ] ولم يقل: أنفقوا ما رزقناكم، واخرجوا من أموالكم، وإنما قال: من بعضها. وكذلك قد يوجد من الأولاد من هو مثلك، ولا فرق بينك وبينه، وقد توجد زوجة أبر منك ومن أمك وأبيك، وقد يكون أيضاً بعضهم أعداء، ولهذا قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [التغابن:14]، أي: من بعض أزواجكم وأولادكم عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. فعش على حذر منهم؛ حتى لا تقع في الهلاك. وهذه نصيحة الله وتوجيهاته لأوليائه المؤمنين المتقين؛ حتى ينجو من المعاطب والمهالك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهكذا يفعل الولي مع وليه.

قال: [ واعلم أن الفرق بين العدو والصديق أن العدو يحملك على ما يضرك ويخسرك، والصديق يحملك على ما ينفعك ويريحك ] ويسعدك ويربحك وينجيك، وعلى ما لا يخسرك.

ما يعرف به عداوة الولد والزوجة

قال: [ ولما كان الأمر ] أي: معرفة هل الولد والزوجة عدوان أو صديقان [ خفياً ومختلطاً قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، أي: إن تطيعوهم في التأخير عن فعل الخيرات، كترك الهجرة ] فتقول له امرأته: لا تتركنا وتهاجر، فإذا أطاعها حرم من الهجرة التي هي من أفضل العبادات [ أو الجهاد ] كذلك [ أو صلاة الجماعة أو التصدق بفضل المال على الفقراء والمحتاجين، وما إلى ذلك من الصالحات المزكية للنفس ] والصالحات كلها فائدتها أنها تزكي النفس، أي: تطهرها، فإذا طهرت النفس قبلها الله في الملكوت الأعلى، وقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]. ويوجد من الأولاد والأزواج - وليس كلهم- من يحول بينك وبين أن تجاهد، بل وقد يمنعونك من صلاة الجماعة، ويحولون بينك وبينها، وأما الصدقة فإنهم يشنعون فيها عليك، ويقولون لك: أولادك سيموتون من الجوع وأنت تتصدق، ويمنعونك من الصدقة، فاحذروا منهم! والقضية مختلطة، فتفطنوا.

أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل

قال: [ ولتذكر هنا سبب نزول هذه الآيات؛ لتزداد وضوحاً في فهم هذا التحذير الإلهي العظيم ] وكثير من الآيات لها أسباب نزلت من أجلها، فالقرآن لم ينزل في يوم واحد، ولا في عام واحد، وإنما نزل في ثلاثة وعشرين سنة، وقد ينزل في يوم آية، وفي يوم سورة، وفي يوم سورتان، حتى اكتمل نزوله كما هو في اللوح المحفوظ بالحرف الواحد. وأول ما نزل من القرآن من السماء إلى الأرض هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]. وقد نزل به جبريل على سيد المرسلين وهو في غار حراء، وكان يجلس في غار حراء لأنه يكره الباطل والربا، والوثنية والشرك والباطل، وكان يريد أن يتحنث بعيداً، فكان يستأنس في هذا الغار، وكان يأخذ معه أيضاً الطعام والشراب، ويبقى في الغار عدة أيام، وكان هذا في أول الهجرة، ففاجأه جبريل في ذلك الغار، وهذا الغار مازال والله موجوداً إلى الآن، والجبل مازال موجوداً، ولم يتبدل ولم يتغير، وهو في جبال مكة، التي تسمى جبال فاران، فنزل: فقال له: ( اقرأ، قال: ما أنا بقارئ )، أي: لا أعرف أقرأ. فيضمه إلى صدره كما تضم الأم الحنون طفلها. ( ثم يرسله، وقال: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ ثلاث مرات، ثم قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5] ). فهذه أول آيات نزلت من ست آلاف ومائتين وأربعين آية. ونحن نفرح بمعرفة خرافات الطليان والأسبان، ولا نفرح بمعرفة أول ما نزل من القرآن، وهذا خير من عشرين ألف ريال. وهذا أمر عجيب والله.

وآخر آية نزلت هي قوله تعالى من سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].

وآخر سورة نزلت بكاملها هي سورة النصر، وهي قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]. ولما نزلت هذه السورة بكى أبو بكر ؛ لأنه عرف أنها إعلان عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا فائدة، فخذوها واعملوا بها: لما نزلت هذه السورة ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة يركع فيها إلا قال: ( سبحانك اللهم وبحمدك! اللهم اغفر لي )؛ لأن الله قال له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:1-3]. فكان يقول في كل ركعة: ( سبحانك اللهم وبحمدك! اللهم اغفر لي ). حتى مات. ونحن لم نتركها في أي ركعة منذ أن بلغتنا، فقولها، فأنتم لستم أغنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وقالت عائشة الصديقة: ( ما تركها الرسول حتى توفاه الله ). فإذا ركعت فقل: سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! ثم قل: سبحانك اللهم وبحمدك! اللهم اغفر لي، مرة أو مرتين أو ثلاثاً. فقلها حتى يتوفاك الله. وأقسم بالله إنها خير من ألف ريال. والذي يقولها ويواظب عليها هي خير له مما طلعت عليه الشمس وغربت. فأنت إذا أعطيت الدنيا كاملة فإنك لا تأخذها معك إلى دار السلام، بل تتركها وراءك كالجيفة، وأما هذه فإنك ترقى بها إلى الملكوت الأعلى.

وقوله: أَفْوَاجًا [النصر:2] أي: جماعات جماعات، ووفوداً وفوداً من شرق الجزيرة ومن غربها، ومن شمالها وجنوبها بعد أن يعرفوا أن راية لا إله إلا الله قد ارتفعت. فإذا رأيت هذا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، أي: قل: سبحانك اللهم وبحمدك! اللهم اغفر لي.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ...)

لتذكر سبب نزول هذه الآيات [ لتزداد وضوحاً في فهم هذا التحذير الإلهي العظيم ] وهو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. فهو تحذير عظيم؛ لأن الذي حذرنا هو الله.

قال: [ إنه روي أن أناساً ] ومن الآداب الرفيعة أنهم لم يسموا هؤلاء الناس، ولم يكونوا يسمون من أذنب ذنباً بين الناس وهو من أولياء الله والصالحين، وكان الرسول يقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ). ولا يذكر المذنب بذنبه أبداً. وأما نحن إذا اجتمعنا فإننا نذكر ما هب ودب، ونقول: هذا يفعل، وهذا يعمل، وهذا كذا، وكأننا خلقنا لنشر الرذائل، والعياذ بالله. وهذا لأن الشيطان استولى على أكثرنا، فانقادوا له، فهو يسوقهم حيث شاء. فاستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم.

وهؤلاء الناس [ كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة ] أي: حالوا بينهم وبين الهجرة [ من مكة إلى المدينة فترة من الزمن ] وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة فريضة من فرائض الإسلام، ولما فتح الله مكة أعلن أبو القاسم: ( لا هجرة بعد الفتح ). وقد كانت الهجرة واجبة؛ لأن من كان في مكة لم يكن يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله بين المشركين، وإذا قالها مزقوه. ومعنى هذا: أنه سيبقى لا يذكر الله ولا يصلي، ولا يعبد الله، وأنه باقٍ هناك من أجل امرأته وأولاده، وهذا لا يجوز. ثم لما أصبحت مكة دار إسلام، والذي يحكمها حاكم مسلم لم يبق حاجة إلى الهجرة؛ لأنه يمكنك أن تعبد الله كما شئت.

قال: [ فلما تغلبوا عليهم ] أي: انتصروا، يعني: على أولادهم وأزواجهم [ وهاجروا ] بعد أن منعوهم، فقد قالوا لهم: لا تتركونا، أو انتظروا قليلاً، وغير ذلك، فمنعوهم وأعاقوهم شهرين .. ثلاثة .. سنة .. سنتين، ثم هاجروا [ وجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين ] وقطعاً أن الذي سبق بيوم قد تعلم ما لم يتعلم الآخر، والذي سبق بسنة أو سنتين تعلم أكثر، وتفقه أكثر، وكانوا يعرفون أن العلم والفقه خير من الدينار والدرهم [ فتأسفوا عن تخلفهم ] لما دخلوا المدينة ووجدوا الذين سبقوهم في الهجرة قد تعلموا تفقهوا، وأصبحوا ربانيين علماء فقهاء، وقالوا: يا ليتنا هاجرنا معهم! [ فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة، فهموا أن يعاقبوهم بنوع من العقاب، كتجويعهم أو ضربهم، أو تثريب وعتاب شديدين ] عليهم، أو بالتهديد، أو ما إلى ذلك، وأرادوا أن يشفوا صدورهم منهم؛ لأنهم حرموهم من العلم والتعلم زمناً [ فأنزل الله تعالى هذه الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن:14]، أي: من بعضهم، لا كلهم؛ إذ منهم من يساعد على طاعة الله ورسوله، ويكون عوناً عليها. والمرأة في هذا كالرجل ] فالمرأة أيضاً قد تتحمل المحنة [ فمن النساء الصالحات من يكون زوجها وولدها عدواً لها ] وذلك إذا لم يكونا صالحين، فـ[ يحاولون صرفها عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ] ويمنعانها من الصلاح والطهر [ وهو في النساء كثير. والواقع شاهد. كم من امرأة يأمرها زوجها بكشف وجهها ] والسلام على الناس [ ويمنعها من التصدق بمالها، ويصرفها عن بر والديها ] ويأمرها بالخروج والشراء، وقد يمنعها من الصيام [ إلى غير ذلك ] والعياذ بالله.

الحث على العفو والصفح عن الأولاد والأزواج الأعداء

قال: [ وَإِنْ تَعْفُوا [التغابن:14] أي: عن أزواجكم أو أولادكم الذين فتنوكم في دينكم، فلا تؤاخذوهم بضرب أو أي عقاب، وَتَصْفَحُوا [التغابن:14] ] أي: [ فتعرضوا عنهم، وتعطوهم صفحة وجوهكم، فلا تسبوا ولا تشتموا، وَتَغْفِرُوا [التغابن:14]، أي: لهم ما حصل منهم من أذى، وهم صرفوكم عن الهجرة زمناً، فاتكم فيه خير كثير من العلم والفقه، وصحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14] ] أي: [ فاغفروا يغفر لكم، وارحموا يرحمكم ] وتكون هذه بتلك، وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. فيصفح عنكم ويغفر ويرحم، فأعطوا تعطوا.

المال والولد فتنة من الله لعباده

قال: [ ثم قال تعالى مخبراً عن حقيقة علمية ثابتة يجهلها العباد، وهي: أن المال والولد فتنة يمتحن الله تعالى بها عباده، أي: يبتليهم ويختبرهم؛ ليعلم الصادق في الطاعة من الكاذب، والبار ] بحق [ من الفاجر، ومن يحب الله ورسوله أو يحب ماله وولده ] فنحن ممتحنون، وكل من عنده أولاد وزوجة ومال ممتحن، فإن آثر رضا الله على رضا زوجته وأولاده نجح، وإن آثر رضا الولد والمال والزوجة على رضا الله خاب وخسر [ فقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ] أي: يمتحنكم الله ويختبركم بهذه الزوجة وهذا الولد، فإن أنت آثرت رضا الله على رضا الزوجة والولد نجحت، وإن آثرت رضا الزوجة والولد على رضا الله خبت وخسرت. والعياذ بالله.

الترغيب في إحسان التصرف في المال والولد

قال: [ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15] أي: فآثروا ما عند الله تعالى على ما عندكم من مال وولد، وأحسنوا التصرف فيهم، فلا تعصوا الله لأجلهم؛ لا بترك واجب، ولا بفعل محرم، واحذروا أن تسيئوا التصرف، فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله ورسوله. واعلموا أن مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ [النحل:96]. فآثروا الباقي على الفاني ] وهذه تربية ربانية، والله هو الذي يربينا، وقد سمى نفسه رباً اشتقاقاً من التربية؛ لأنه يربينا، والذي لا يجلس في حلقات القرآن ويتعلم من الله لا يتربى أبداً، ويعيش كالبهيمة. ومع الأسف حرمنا العدو من تربية الله لنا، وأبعدونا عنها، وحولوا القرآن إلى الموتى، وحولنا المعاصرون منهم إلى المقاهي والملاهي، والأباطيل والترهات؛ حتى لا نجتمع في بيت الله، نتلو آية ونتدبرها، ونتفكر فيها، ونجني ثمارها من الفقه والعلم، وقد فعلوا هذا لنبقى جهلة؛ حتى نفسق ونفجر؛ لتزول النعمة، ويهبط العمل، ونصبح من الخاسرين. فقد كاد لنا هذا الكيد أعداؤنا ورب الكعبة، وهم الثالوث المكون من المجوس واليهود والنصارى.

تقوى الله تعالى حسب الاستطاعة

قال: [ وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] هذا من إحسان الله تعالى إلى عباده المؤمنين، إنه لما أخبرهم أن أموالهم وأولادهم فتنة، وحذرهم أن يؤثروهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم علم تعالى أن بعض المؤمنين ] والصالحين [ سيزهد في المال والولد ] بالمرة إذا سمعوا التحذير، فيحذرون ويخافون [ وأن بعضاً سيعانون أتعاباً ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين، فأمرهم تعالى أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط، وخير الأمور الوسط، فلا يفرط في ماله وولده، ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته، التي هي عبادة الله تعالى التي خلق من أجلها، وعليها مدار نجاته من النار، ودخوله الجنة دار الأبرار ] فقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. فلا تخرجوا من أموالكم، وتطلقوا نسائكم، وتهربوا إلى الجبال، ولكن اتقوا الله في حدود طاقتكم، فأحبوا أموالكم وأولادكم، ولكن ليكن حب الله أكثر من حبهما، وأطيعوا زوجاتكم وأولادكم في المعروف، ولكن أطيعوا الله فيما أوجب عليكم، ودعاكم إليه. والوسطية هي المطلوبة، فلا تتخلوا عن كل شيء؛ لتعبدوا الله، ولو فعل المؤمن هذا لوقفت الحياة.

وكذلك إذا عرفت أنك مفتون بمالك وولدك كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، فاحذر هذه الفتنة، وكن ذا بصيرة ووعي، وأد حقوق الله كاملة، وأعط لولدك أو مالك الوقت الذي يتطلبه. ولكن مع الأسف المفلسون أعطوا كل شيء لأموالهم، فهم في التجارة أربعة وعشرين ساعة، ولا يعرفون المسجد، ولا يدخلونه للصلاة، بل هم طول الليل والنهار مع المال، ولا يقول أحدهم: سبحان الله، ولا الحمد لله، ولا إله إلا الله أبداً.

جزاء السمع والطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله

قال: [ وقوله تعالى: وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا [التغابن:16] ] أي: اسمعوا لأمر الله ورسوله، وأطيعوا لله ورسوله، وكذلك أمير المؤمنين والمربي [ وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن:16]. هذا أمره تعالى لعباده المؤمنين لما خفف عنهم أمر التقوى بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله، والإنفاق في سبيله تعالى، وأعلمهم أن ذلك خير لهم؛ إذ بهذا تتم سعادتهم في الدارين ] الأولى والآخرة.

فضل التخلص من الشح وبيان ما يقي النفس منه

قال: [ وقوله تعالى لهم: وَمَنْ يُوقَ [التغابن:16] ] أي: يحفظ [ شُحَّ نَفْسِهِ [التغابن:16] ] والذي يقي النفس من الشح هو الله. فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. ومن لم يوق شح نفسه فأولئك هم الخاسرون [ أي: ومن يحفظه الله تعالى من شح النفس فقد أفلح بالفوز بالجنة والنجاة من النار. وفي هذا الخبر ] أي: الحديث الآتي [ إشارة صريحة إلى أن وقاية النفس تطلب من الله تعالى، ثم بالإنفاق في سبيل الله تعالى، فسؤال الله تعالى أن يقي العبد شح نفسه الذي فطرت عليه، ثم الإنفاق في سبيل الله بهما يحفظ العبد من شح النفس المهلك ] فالإنسان فطر على شح النفس، وطبيعة الإنسان تحب الدنيا والمال والحياة، وتكره الآخرة، والله هو الذي يقي شر هذا الشح بدعائه وسؤاله تعالى، وبإنفاق العبد في سبيل الله. فمن أراد أن يزول من نفسه شحها فلينفق، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة التوبة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، أي: تطهرهم من الشح. ومعنى الآية: خذ يا رسولنا! من أموال المؤمنين صدقة، وهي الزكاة، تزكي أنفسهم بها، وتطهر نفوسهم من شحها.

وإليكم صورة واضحة من هذا: الذي ينفق ماله كل يوم لا يعقل أبداً أن يسرق، وكذلك الذي كلما حصل على مال أنفقه لله؛ طلباً لحبه ورضاه والله لا يأخذ المال من الربا، ولا يطلبه مما حرم الله. وهذه مسلمة. ولهذا العلاج الوحيد لشح النفس هو الإنفاق، فالذي ينفق في سبيل الله يتغلب على شح نفسه، وينتصر على نفسه، ويذهب شحه، مع دعاء الله وسؤاله والضراعة إليه؛ لأن الله هو الواقي، وهو الذي جعل هذه الغريزة في العبد، وهو الذي يدفعها عنه.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وسلم.