خطب ومحاضرات
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 83
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارضَ عنا كما رضيت عنهم. آمين.
هذه النداءات هي نداءات الله جل جلاله وعظم سلطانه التي وجهها إلى أوليائه، وهم المؤمنون المتقون، ووجهها إليهم رحمة بهم وشفقة عليهم، وحباً في رفعتهم وكمالهم، وقد أنزل مولاهم وسيدهم في كتابه هذه النداءات، وواجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يسمعها، وأن يعرف ما تحمله من هدى، وأن يعمل بهذا الهدى الذي تحمله، وبذلك يكمل ويسعد بعد أن ينجو من خيبة الدنيا وخزيها وعذاب الآخرة.
هذه النداءات تسعون نداءً من سورة البقرة إلى سورة التحريم، وهي موزعة في السور المدنية، وليس في السور المكية منها نداء؛ لأن الإيمان ظهر في المدينة.
وهذه النداءات التسعون اشتملت واحتوت على كل متطلبات الحياة من العقائد والعبادات، والآداب والأخلاق، والسياسة في الحرب والسلم والاقتصاد، وأهل القرآن عنها غافلون، وكأن شيئاً لم ينزل.
حسبنا أن نقول: إن المسلمين قد هجروا القرآن، وسوف يشكوهم رسول الله يوم القيامة إلى الله، ويقول: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. فهم يقرءونه على الموتى، ويحرمون منه الأحياء، ولا يقرءونه عليهم. ووالله إن الميت لا ينتفع بسماع القرآن، فهو لن يقوم يغتسل من الجنابة ويصلي، ولن يقوم معترفاً بحق فلان وفلان عليه ويسدد حقه، وقد صرخنا وبينا بأن هذه حيلة من عدو الإسلام الثالوث الأسود، المكون من المجوس واليهود والنصارى، فقد صرفوا المسلمين عن القرآن فماتوا، فهم لم يستطيعوا أن يمزقوا القرآن، ولا أن ينتزعوه من قلوب الحافظين له، ولذلك احتالوا علينا، وجعلونا نقرأه على الموتى.
وقد قلت غير ما مرة: لم يقل أحد لأخيه: يا فلان! تعال اقرأ عليّ شيئاً من القرآن، ولم يجلس أحد في المجلس وقال: يا فلان! نحن ننتظر صلاة العشاء، فتعال اقرأ عليّ شيئاً من القرآن؛ لأتدبره، فهذا لم يقع، وكذلك العمال الذين في المعمل يصنعون إذا جاءت ساعة الاستراحة لا يقول أحد لأخيه: أسمعني شيئاً من كلام الله؛ لأننا هجرناه، وسيشكونا رسول الله إلى الله، واقرءوا في سورة الفرقان: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. وبعض الإخوان يقول: يقول الشيخ: القرآن لا يقرأ على الموتى، وأقول: إن علمت من طريق مالك أو أبي حنيفة أو الشافعي أو الصحابة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفيت ابنته أم كلثوم جلس بين يديها يقرأ عليها القرآن فانكر علي، أو إن علمت أن أبا بكر الصديق أو عمر أو غيرهما أنه لما ماتت امرأة أحدهم أو ولده جمع القراء يقرءون عليه فقل: الشيخ ينكر. فهذا لم يثبت في الكتاب ولا في السنة.
وقد قلنا: والله الذي لا إله غيره ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميت ولا ميتة، ولا وصى بهذا ولا أمر به، ولا عرفه أصحابه، فلا تبق أنت في شك وحيرة، وتنكر عدم قراءة القرآن على الموتى، وأقول: اقرأ على الأحياء؛ لتبصرهم، ولتنور قلوبهم، ولتعلمهم؛ حتى يفهمون ويعون ويعرفون الحياة ومعناها. ولكننا ما زلنا هابطين.
آخر يشتكي ويقول: يا شيخ: إن التجاني عندنا محترم مبجل، وأتباعه عندك في الدرس فانصحهم. وأقول: إن التجانية والقادرية والرحمانية والعمرانية والعثمانية وهذه الطرق بدع، ورضي الله عن إخواننا من الجن، فقد قالوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:1-4]. إلى أن قالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]. ونحن ما زلنا نحافظ على الطرق، مع أننا ليس لنا إلا طريق واحد، وهو: اللهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. ولا نصلي ركعة إلا ونتملق الله ونحمده، ونثني عليه ونمجده بقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، أي: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك. ثم نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. فهو صراط واحد.
والذين وضعوا هذه الطرق مزقوا الإسلام وشتتوه، ونحن ليس عندنا إلا منهج واحد، وهو قال الله وقال رسوله، فلا طرق ولا أحزاب ولا دويلات ولا مذاهب، بل نحن أمة واحدة، وقد عرف العدو هذا وحفظه وفهمه، فاستعبدنا واستعمرنا من اندونيسيا إلى موريتانيا قرناً كاملاً، وما زلنا سكارى لا نفقه.
اسمع يا سامع! فقد صدر حكم الله، فقد قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فكن ابن من شئت، وانتمي إلى أي قبيلة أو أي أمة شئت، فقد صدر حكم الله ولن ينقض، وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]. فقد أقسم الجبار بأقسام عديدة على هذا الحكم الإلهي، فقد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسى نفسه خبثها ولوثها بما صب عليها من أطنان الذنوب والآثام.
وأكشف النقاب عن حالنا، فأقسم بالله أننا لو كنا متأهلين لننزل في الملكوت الأعلى وسمع أحدنا هذا الحكم أنه قد أفلح وفاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من زكى نفسه، وقد خاب من دساها وكان أهل وعي وبصيرة لسأل عما يزكي به نفسه، وكيف يزكيها ما دام المصير هكذا، ولو قلت له: لا أستطيع أن أعلمك لقال: والله لن تغادر هذا المكان حتى تعلمني كيف أزكي نفسي؛ لأن مصيري موقوف على هذه التزكية، ومعرفة أدواتها، ومكان وجودها، وكيفية الحصول عليها، وكيفية استخدامها، ولذلك من الضروري أن أعرفها. ولكان هذا حال العالم الإسلامي في الشرق والغرب.
وبالله الذي لا إله غيره أنه قد صدر حكم الله على الخليقة كما سمعتم، فلا تشكوا في حكم الله، فقد قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: طيبها وطهرها. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]، أي: خبثها ولوثها. وهنا على الآدمي أن يقرر مصيره بنفسه، وقد وكل الله إليك ذلك، فإن زكيت نفسك فطابت وطهرت قبلت في الملكوت الأعلى مع أهل الطهر والصفاء، وإن خبثتها ولوثتها بأدران الشرك والمعاصي فلن ترفع إلى السماء، ولن تدخل دار السلام. وقد صدر حكم الله في هذا، فاسمعوه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] ولم يزكوا أنفسهم، ولم يطيبوها، ولم يطهروها، ولم يستعملوا أدوات التطهير؛ لأنهم إما مكذبون بهذه الشريعة وإما مستكبرون غير مؤمنين بها، فهؤلاء لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40]. بل عندما ( يعرج بالروح إلى السماء الأولى يستأذن لها فلا يؤذن لها ). وتكون رائحتها ممتنة كريهة كأرواح الشياطين، فيعودون بها إلى القبر في الأرض، ثم إلى عالم الشقاء في أسفل سافلين. وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ [الأعراف:40]، أي: البعير فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، أي: في عين الإبرة. ولا يقدر أحد أن يرد على الله. ونحن حقاً ما عرفنا هذا، ولهذا نريد أن نكون أتباعاً للشيخ الفلاني وللطريقة الفلانية، وكل هذا هراء ولهو وباطل. فاعرف كيف تزكي نفسك يا عبد الله! ويا أمة الله!
والآن إذا اكتفينا وسكتنا فلن يقول أحد: يا شيخ! والله لن تقوم من مقامك حتى تعلمنا وتعرفنا كيف نزكي أنفسنا، ما دام مصيرنا هكذا، وما الذي يدسيها؛ حتى نتجنبه. ويمكن أن يقوم الآن أحد ممن وعوا هذا وعملوا، ولكنك إذا خطبت وتكلمت هكذا من إندونيسيا إلى المغرب وخرجت من الدرس فلن يأتيك أحد يقول لك: من فضلك يا شيخ! علمني كيف أزكي نفسي، إما لأنهم لم يفهموا، أو لأنهم غير مؤمنين بهذا، ولا موقنين بعالم السعادة وعالم الشقاء.
ما تزكو به النفس أو تخبث
والذي يدسي النفس ويخبثها ويلوثها شيئان فقط: الشرك، والمعاصي وكبائر الذنوب، ولا شيء آخر غير هذا. والشرك كالكفر لا فرق بينهما؛ إذ كلاهما التفات إلى غير الله، وكل ذنب أو كبيرة تقع على النفس فإنها تلطخها، وتجعلها منتنة سوداء، فإما أن يتوب ويمسحها ويغسلها، أو تتعفن النفس وتصبح لا تقبل الطهر ولا الصفاء.
فالنفس تزكو بالإيمان الصحيح الموافق لإيمان رسول الله والمؤمنين، وبالعمل الصالح الذي شرعه الله وبينه رسوله، وليس بالبدع والخرافات والضلالات والأوهام وما يحسنه الرجال، بل العبادة التي تنتج طهراً وزكاة للنفس ينبغي أن تكون مما شرعها الله في القرآن، أو على لسان رسوله، ثم يؤديها العبد كما أداها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يزيد فيها ولا ينقص منها، ولا يقدمها ولا يؤخرها، ولا يوقعها في غير الموضع الذي شرع الله أن تقع فيه.
وهذا العلم يحتاج إلى أن يجتمع أهل القرية عليه في بيت ربهم بنسائهم ورجالهم وأطفالهم، وذلك كل ليلة، وفي تواضع وطمأنينة وصفاء ورغبة في الملكوت الأعلى، ويوماً بعد يوم وطول العمر، فنتعلم كيف نزكي أنفسنا، وكيف نبعدها عما يدسيها، وأما أن نعيش في المقاهي والملاهي والأضاحيك والأباطيل والأغاني والمزامير والتهافت على الأكل والشرب وغير ذلك ثم نريد أن نسكن الملكوت الأعلى فهذا ضلال وخطأ وأوهام باطلة، وقد صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. ولن يعقب أحد على الله، كما أخبر بنفسه عن ذلك كما في سورة الرعد، إذا قال تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
والمفروض أن يكون هذا حال أهل كل قرية من قرى العالم الإسلامي عرب وعجم، وأهل كل حي في أحياء المدن وطول العمر، فيتعلمون الهدى والعلم، ويزكون أنفسهم. وبدون هذا لن نفلح، ولن نفوز إلا أن يشاء الله؛ لأننا جهلة لا نعرف كيف نزكي أنفسنا، وكيف نستعمل تلك الأدوات حتى تنتج الحسنات وتطهر النفوس، ولن يوحى إلينا بذلك، ولن يتردد علينا جبريل، فنحن لسنا أنبياء ورسلاً، والرسول يقول: ( إنما العلم بالتعلم ). ويقول: ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ). وقد بعث الله جبريل ليعلمنا كيف نتعلم العلم عندما كان الرسول جالساً مع أمته في تلك الروضة والمسجد الطاهر، فدخل جبريل فجلس إلى رسول الله، ووضع يديه على فخذيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه؛ ليعلمنا كيف نتلقى العلم. ونحن أول ما نجتمع إذا بهذا متكئ، وهذا يتكلم، وهذا يضحك، وكأننا ما عرفنا الله ولا رسوله. وهذه حالنا ألف مليون مسلم. والعلماء والحكام نائمون وجاهلون؛ لأنهم لم يعرفوا. وهذا الواقع شاهد.
ولذلك أذلنا الله، وسلط علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وحتى هولندا العجوز؛ ليرينا أننا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وتحولنا عن ولايته إلى ولاية الشيطان عدوه، فأصبحنا كالمشركين، فهذا قادري، وهذا رحماني، وهذا يدعو: يا سيدي عبد القادر ! وهذا يا رسول الله! وهذا يا فاطمة ! وأصبح الشرك واضحاً، فقد ذبحنا لهم الذبائح، ونذرنا لهم النذور. ثم بعد ذلك انتشر فينا الزنا واللواط، والربا والخيانة، والسرقة والكذب، وخلف الوعد، والسب والشتم والتعيير، ولا إله إلا الله! فآل حال المسلمين إلى الجهل والجهالة، وقد كان المسلم يعيش سبعين سنة لا يسب مؤمناً، ولا يعيره ولا يشتمه، ونحن نتكلم بدون علم، فلو حضرت مجلساً فإنك تسمع: هذا عميل .. هذا كذا .. هذا أمريكي. ولا إله إلا الله! فلا إيمان، ولا بصيرة، ولا علم، ولن نكمل ونسمو ونسعد وقد هجرنا بيوت الله، وهجرنا كتاب الله.
وخلاصة القول: ليس عندنا تجانية ولا رحمانية، ولا قادرية ولا عيساوية، ولا برهانية ولا غير ذلك، وكل هذه بدع محدثة، مزقت العالم الإسلامي، وليس عندنا أيضاً مذاهب، لا حنفي ولا شافعي، ولا مالكي حنبلي، ولا يحل أبداً أن تقول: أنا حنفي، بل قل: أنا مسلم، ولا تقل: أنا حنفي، ثم ترد سنة رسول الله وشرع الله بهذا التزمت والانتحال لهذه النحلة، بل قل: أنا مسلم، وأسلم قلبك ووجهك لله، فإذا بلغك أمر الله أو أمر رسوله فقل: على الرحب والسعة، وسمعاً وطاعة. ولكنهم مزقونا وشتتونا وفرقونا، وما زلنا نائمين.
فمن أراد أن يزكي نفسه فليسأل عن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان، ثم يسأل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان يغتسل، وكيف كان يصوم ويفطر، ويفعل كما كان يفعل، ويزكي نفسه، مع إبعادها عن الملوثات والمخبثات، من كلمة سوء إلى نظرة محرمة .. إلى كلام باطل .. إلى لقمة محرمة، وبذلك تبقى النفس في طهر وصفاء، فإذا دقت الساعة وجاء ملك الموت وأعوانه فإنهم والله ليحتفلون بهذه النفس في السماء، وتزف كما تزف العروس ليلة الزفاف، ويرحب بها أهل الملكوت الأعلى؛ لطهرها وصفائها، وأما النفس الملوثة المخبثة والتي عليها أوضار الذنوب والآثام فلن يقبلها أحد.
الطريق إلى تزكية النفس
وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2]. يعرفون لسانه ولغته يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]. والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة؛ لأن كلمات الرسول لا تخطئ، ولو اجتمعت البشرية كلها بفلاسفتها ورجال السياسة والقانون والهراء والباطل على أن ينقضوا كلمة واحدة من كلام رسول الله الصحيح فوالله إنهم لن يستطيعوا، ولن يقدروا.
ومثلاً: يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . ولن يقدر علماء النفس في الدنيا أن ينقضوا هذا الحكم، ويقولون: بل قد يتشبه بالعاهرة ولن يكون عاهراً، أو يتشبه باليهودي ولن يكون يهودياً، أو يتشبه بالصالح ولن يكون صالحاً. ولن يقدروا ولن يستطيعوا أن ينقضوا قاعدة وضعها رسول الله.
وقد فعل بنا الثالوث اليهود والمجوس والنصارى ما فعل، ونحن ما زلنا مطأطئين رءوسنا، ولا نفكر في الخلاص ولا الخروج أبداً إلا بالثورات والانقلابات والتزمتات. وليس هذا هو الطريق، بل هذا طريق زيادة الفتنة. والطريق الصحيح: أن نؤمن، وأن نجتمع في بيوت الرب، ونرفع أيدينا إليه، ونستمطر رحماته، أن يبعث لنا من يوجهنا ويربينا.
ووالله إذا اطرح أهل البلد بين يدي ربهم ما تركهم، ولأرسل إليهم من يعلمهم. فعليهم فقط أن يجتمعوا في بيت الله طالبين هداه، يريدون أن يحبوه ويحبهم، ويتعرفون إليه حتى يعرفوه؛ حتى يكملوا ويسعدوا. ولن نستطيع هذا إذا كانت الدكاكين والمقاهي والملاهي مفتوحة. واليهود والنصارى إذا فرغوا من العمل ذهبوا إلى الترويح والترفيه على نفوسهم في السينما والمراقص والمقاصف. ونحن لسنا هنا ولا هناك. والعياذ بالله من حالنا.
فعلينا إذا فرغنا من العمل أن نذهب إلى بيوت الرب نستمطر رحماته، ونطلب هداه وإحسانه وبره، ونتعلم الهدى، ونتعلم الكتاب والحكمة؛ لنكمل ونسعد. ولكنهم صرفونا وأبعدونا، وحالوا بيننا وبين ذلك، وأصبحنا إذا جاء العالم هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، ولا إله إلا الله! ولم نعد حتى نتفق على حكم واحد، ولا تقولوا: هذا الشيخ قد خرف، فقد قضينا أكثر من ستين سنة في هذه الدعوة، ووالله ما نقول إلا على علم وبصيرة. فلا تفهم غير هذا.
النفس البشرية كالنفس الجنية، وعالم الإنس وعالم الجن تعبدهم الله في الأرض. والنفس تزكو بشيئين وأداتين وعقارين: الأول: الإيمان الصحيح، والثاني: العمل الصالح، فاطلب الإيمان والعمل الصالح، واستعمل ذلك في تزكية نفسك، فإنك والله لتزكون وتطيب وتطهر.
والذي يدسي النفس ويخبثها ويلوثها شيئان فقط: الشرك، والمعاصي وكبائر الذنوب، ولا شيء آخر غير هذا. والشرك كالكفر لا فرق بينهما؛ إذ كلاهما التفات إلى غير الله، وكل ذنب أو كبيرة تقع على النفس فإنها تلطخها، وتجعلها منتنة سوداء، فإما أن يتوب ويمسحها ويغسلها، أو تتعفن النفس وتصبح لا تقبل الطهر ولا الصفاء.
فالنفس تزكو بالإيمان الصحيح الموافق لإيمان رسول الله والمؤمنين، وبالعمل الصالح الذي شرعه الله وبينه رسوله، وليس بالبدع والخرافات والضلالات والأوهام وما يحسنه الرجال، بل العبادة التي تنتج طهراً وزكاة للنفس ينبغي أن تكون مما شرعها الله في القرآن، أو على لسان رسوله، ثم يؤديها العبد كما أداها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يزيد فيها ولا ينقص منها، ولا يقدمها ولا يؤخرها، ولا يوقعها في غير الموضع الذي شرع الله أن تقع فيه.
وهذا العلم يحتاج إلى أن يجتمع أهل القرية عليه في بيت ربهم بنسائهم ورجالهم وأطفالهم، وذلك كل ليلة، وفي تواضع وطمأنينة وصفاء ورغبة في الملكوت الأعلى، ويوماً بعد يوم وطول العمر، فنتعلم كيف نزكي أنفسنا، وكيف نبعدها عما يدسيها، وأما أن نعيش في المقاهي والملاهي والأضاحيك والأباطيل والأغاني والمزامير والتهافت على الأكل والشرب وغير ذلك ثم نريد أن نسكن الملكوت الأعلى فهذا ضلال وخطأ وأوهام باطلة، وقد صدر حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. ولن يعقب أحد على الله، كما أخبر بنفسه عن ذلك كما في سورة الرعد، إذا قال تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
والمفروض أن يكون هذا حال أهل كل قرية من قرى العالم الإسلامي عرب وعجم، وأهل كل حي في أحياء المدن وطول العمر، فيتعلمون الهدى والعلم، ويزكون أنفسهم. وبدون هذا لن نفلح، ولن نفوز إلا أن يشاء الله؛ لأننا جهلة لا نعرف كيف نزكي أنفسنا، وكيف نستعمل تلك الأدوات حتى تنتج الحسنات وتطهر النفوس، ولن يوحى إلينا بذلك، ولن يتردد علينا جبريل، فنحن لسنا أنبياء ورسلاً، والرسول يقول: ( إنما العلم بالتعلم ). ويقول: ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ). وقد بعث الله جبريل ليعلمنا كيف نتعلم العلم عندما كان الرسول جالساً مع أمته في تلك الروضة والمسجد الطاهر، فدخل جبريل فجلس إلى رسول الله، ووضع يديه على فخذيه، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه؛ ليعلمنا كيف نتلقى العلم. ونحن أول ما نجتمع إذا بهذا متكئ، وهذا يتكلم، وهذا يضحك، وكأننا ما عرفنا الله ولا رسوله. وهذه حالنا ألف مليون مسلم. والعلماء والحكام نائمون وجاهلون؛ لأنهم لم يعرفوا. وهذا الواقع شاهد.
ولذلك أذلنا الله، وسلط علينا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وحتى هولندا العجوز؛ ليرينا أننا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وتحولنا عن ولايته إلى ولاية الشيطان عدوه، فأصبحنا كالمشركين، فهذا قادري، وهذا رحماني، وهذا يدعو: يا سيدي عبد القادر ! وهذا يا رسول الله! وهذا يا فاطمة ! وأصبح الشرك واضحاً، فقد ذبحنا لهم الذبائح، ونذرنا لهم النذور. ثم بعد ذلك انتشر فينا الزنا واللواط، والربا والخيانة، والسرقة والكذب، وخلف الوعد، والسب والشتم والتعيير، ولا إله إلا الله! فآل حال المسلمين إلى الجهل والجهالة، وقد كان المسلم يعيش سبعين سنة لا يسب مؤمناً، ولا يعيره ولا يشتمه، ونحن نتكلم بدون علم، فلو حضرت مجلساً فإنك تسمع: هذا عميل .. هذا كذا .. هذا أمريكي. ولا إله إلا الله! فلا إيمان، ولا بصيرة، ولا علم، ولن نكمل ونسمو ونسعد وقد هجرنا بيوت الله، وهجرنا كتاب الله.
وخلاصة القول: ليس عندنا تجانية ولا رحمانية، ولا قادرية ولا عيساوية، ولا برهانية ولا غير ذلك، وكل هذه بدع محدثة، مزقت العالم الإسلامي، وليس عندنا أيضاً مذاهب، لا حنفي ولا شافعي، ولا مالكي حنبلي، ولا يحل أبداً أن تقول: أنا حنفي، بل قل: أنا مسلم، ولا تقل: أنا حنفي، ثم ترد سنة رسول الله وشرع الله بهذا التزمت والانتحال لهذه النحلة، بل قل: أنا مسلم، وأسلم قلبك ووجهك لله، فإذا بلغك أمر الله أو أمر رسوله فقل: على الرحب والسعة، وسمعاً وطاعة. ولكنهم مزقونا وشتتونا وفرقونا، وما زلنا نائمين.
فمن أراد أن يزكي نفسه فليسأل عن إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان، ثم يسأل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان يغتسل، وكيف كان يصوم ويفطر، ويفعل كما كان يفعل، ويزكي نفسه، مع إبعادها عن الملوثات والمخبثات، من كلمة سوء إلى نظرة محرمة .. إلى كلام باطل .. إلى لقمة محرمة، وبذلك تبقى النفس في طهر وصفاء، فإذا دقت الساعة وجاء ملك الموت وأعوانه فإنهم والله ليحتفلون بهذه النفس في السماء، وتزف كما تزف العروس ليلة الزفاف، ويرحب بها أهل الملكوت الأعلى؛ لطهرها وصفائها، وأما النفس الملوثة المخبثة والتي عليها أوضار الذنوب والآثام فلن يقبلها أحد.
استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 72 | 4031 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 49 | 3686 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 68 | 3673 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 47 | 3651 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 41 | 3503 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 91 | 3477 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 51 | 3472 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 50 | 3465 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 60 | 3422 استماع |
نداءات الرحمن لأهل الإيمان 75 | 3373 استماع |