نداءات الرحمن لأهل الإيمان 78


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا في دراسة كتاب نداءات الرحمن لأهل الإيمان. جعلنا الله منهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. آمين.

والكتاب يحوي تسعين نداءً، والمنادي هو الله جل جلاله، وعظم سلطانه، والمنادون هم عباده المؤمنين خاصة، وقد ناداهم لأنه وليهم وربهم، ولأنه أرحم بهم من أنفسهم، ولذا ما نادانا إلا ليأمرنا بما فيه كمالنا وسعادتنا، أو لينهانا عما فيه شقاؤنا وخسراننا، أو ليبشرنا بما تنشرح له صدورنا، وتطيب قلوبنا، ويحفزنا على الإكثار من الصالحات، أو ليحذرنا مما هو مخيف لنا من شقاء الدنيا والآخرة، أو ليعلمنا ما به نكمل ونسمو ونرتفع في آدابنا وأخلاقنا، وهذا شأن الولي مع أوليائه. وهو لا ينادينا لا لشيء، وحاشاه تعالى عن العبث، وهو العليم الحكيم.

وهذه النداءات قد احتوت على كل متطلبات الحياة، فما من عبد مؤمن يجيب نداءات ربه فيمتثل أمره ويجتنب نهيه إلا وكمل وسعد. والحمد لله فقد جمعت هذه النداءات في هذا الكتيب الصغير، وهي من نداءات الله في كتابه العزيز القرآن العظيم.

والمفروض أن كل مؤمن ومؤمنة بين يديه هذا الكتاب؛ لأن فيه نداءات سيدنا ومولانا، وخالقنا ومالكنا، ومن بيده سعادتنا وشقاؤنا، ونحن نعرض ولا نسمع، وهذا لا يصح من عاقل.

إذاً: اعملوا على نشر هذا الكتاب ليكون في بيت كل مؤمن ومؤمنة، وضعوه في الفنادق على كل سرير، وقبل أن ينام النزيل أو النازل يسمع نداء من نداءات ربه، ويجيب من ناداه، فإن أمره فعل، وإن نهاه ترك، وإن بشره استبشر، وإن حذره حذر، وإن علمه علم، وليس هناك نداء خارجاً عن هذا؛ لأن القرآن كتاب الله، وقد أنزله لإسعاد المؤمنين وإكرامهم. وهكذا نبكي ونصرخ وننادي، وكأننا في أمة ميتة.

وهذه النداءات قد حواها القرآن الكريم، فليقبل المؤمنون على هذه النداءات، ويحفظون ويفهمون ما دعاهم الله إليه، فيعلمون ويعملون، فيكملون ويسعدون في الدنيا والآخرة.

هذا هو [ النداء الرابع والسبعون ] ومضمونه وفحواه ومحتواه [ في وجوب تقوى الله عز وجل، والإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان الجزاء على ذلك ] التقوى وذلك الإيمان. فمضمون هذا النداء وما حواه وما اشتمل عليه:

أولاً: وجوب تقوى الله عز وجل؛ لأن الذي لا يتحلى بها يتحطم، ويخسر خسراناً أبدياً، فمن رحمة الله بعباده المؤمنين: أن يأمرهم بتقواه، التي هي فعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، وبذلك يتحقق له الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.

وثانياً: في وجوب الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

وثالثاً: في بيان الجزاء على التقوى والإيمان. واسمعوا النداء، وهو في الآية الثامنة والعشرين من سورة الحديد:

قال: [ الآية (28) من سورة الحديد

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28] ] وهيا نتغنى كأهل البيت في بيتهم بهذا النداء؛ رجاء أن نحفظه، ثم نفهم معناه، ثم نسأل الله أن يوفقنا للعمل بما فيه؛ لأننا خلقنا للعمل.

قال تعالى في هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. وليس بعد هذا من العطاء عطاء، وهذا العطاء:

أولاً: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، أي: نصيبين من الرحمة.

ثانياً: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا [الحديد:28]، أي: في قلوبكم تعيشون عليه في ظلام الحياة.

ثالثاً: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. وليس بعد هذا العطاء عطاء.

وكل هذا مقابل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28] فيكون الجزاء. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].

وإليك صورة واضحة: صاحب هذا النور لا يزني لا يسرق، ولا يكذب ولا يكفر، ولا يفجر ولا يقتل، ولا يؤذي مؤمناً، ولا كائناً من الحيوانات؛ لأن له نوراً يمشي به، ومن فقد هذا النور والله هو الذي يزني ويكذب، ويسرق ويعق الوالدين، ويكفر المؤمنين ويسبهم، ويأكل أموالهم وينغمس في كل أنواع الباطل؛ لأنه يمشي في الظلام، والظلام ضد النور، والماشي في الظلام لا يتجنب أي هوة، بل يقع فيها، ويمكن أن يدوس حية، أو يجلس على أفعى، أو ينغمس في بؤرة الكذابين والشر؛ لأنه يمشي في الظلام، وصاحب النور طول حياته لا يتلوث في مشيه، ولا يتسخ، ولا يتلطخ بالموبقات والجرائم؛ لأن له نوراً يمشي به، والله هو الذي أعطاه هذا النور، فهو قد حصل عليه بإيمانه بالله ورسوله، واتقاءه لله، وخوفه من الله، وطاعته لله ورسوله فقط.

[ الشرح ] والآن مع شرح هذا النداء الحاوي للعلوم والمعارف الإلهية: [ اعلم أيها القارئ الكريم! ] وهذا القارئ الكريم هو الذي في بيته هذا الكتاب، وهو عند رأسه على سريره، فلا ينام حتى يسمع ربه يناديه، ويفهم مراد سيده من ندائه، ويعزم على أن يعمل؛ لأنه بشر عاقل وقوي وقادر على أن يفعل ويترك، فهو ليس حيواناً ولا مجنوناً.

التوجيه الأول لمعنى هذا النداء: أنه موجه إلى مؤمني أهل الكتاب

على هذا القارئ الكريم أن يعلم [ أن هذا النداء الإلهي موجه ] من الله جل جلاله ابتداء [ إلى مؤمني أهل الكتاب من يهود ونصارى، المدعين للإيمان الزاعمين أنهم مؤمنون بالله ولقائه ] يوم القيامة. فهو موجه من الله خالق كل شيء، ورب كل شيء، وهو الذي رفع السماء وزينها بكواكبها، وبسط الأرض وأوجد فيها مقوماتها، وهو خالقنا، وواهبنا عقولنا، ورازقنا طعامنا وشرابنا، والذي لولاه ما وجدنا ولا كنا، وهو رب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو منزل هذا الكتاب القرآن العظيم.

قال: [ ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأنهم زعموا أنهم مؤمنون ] وحسبهم إيمانهم [ وليسوا في حاجة إلى إيمان جديد يأتي من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم تعالى بتقواه؛ إذ المؤمن بالله حق الإيمان يتقي الله، أي: يخافه ويرهبه، فيطيعه في أوامره بفعلها، وفي نواهيه بتركها ] وهذا هو معنى آمن، فإذا كان لا يخاف الله فليس مؤمناً والله، ولو عرف الله وآمن به لطلب رضاه، ولامتثل أمره، واجتنب نهيه. فقولهم هذا دعوى باطلة، ردها الله عليهم.

قال: [ ثم أمرهم بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم به كافرون ] والعياذ بالله [ جاحدون غير معترفين بنبوته، ورسالته العامة للناس كافة، فلذا أمرهم بالإيمان به نبيناً ورسولاً.

ثم وعدهم إن هم آمنوا حق الإيمان، فحملهم ذلك على طاعة الله ورسوله في الأمر والنهي، وعدهم بأنه يؤتيهم - أي: يعطيهم- كفلين - أي: نصيبين- من رحمته ومثوبته لعباده المؤمنين، وذلك أن نصيباً وحظاً من أجل إيمانهم بالأنبياء السابقين كموسى وعيسى عليهم السلام، وغيرهما كإبراهيم ونوح وإسحاق ويعقوب ويوسف وداود عليهم السلام، ويجعل لهم نوراً يمشون به في الدنيا، وهو الهداية الإسلامية، إذ الإسلام صراط مستقيم، سالكه ] والمار عليه [ لا يضل ولا يشقى، ويمشون ] به [ في الآخرة ] أيضاً [ على الصراط إلى الجنة دار السلام ] أي: أن لهم نورين، نور في الدنيا يعرفون به الحق من الباطل، والخير من الشر، والهداية من الضلال، ويوم القيامة هذا النور يمشون به على الصراط إلى الجنة، ومن فقد هذا النور يوم القيامة هلك، وسقط في عالم الشقاء والعالم الأبعد.

قال: [ وهو معنى قوله تعالى في النداء: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28]. وشيء آخر هو: أنه يغفر لهم ذنوبهم الماضية التي قبل الدخول في الإسلام، والحاضرة التي من الجائز أن يغشى المؤمن ذنباً من الذنوب، وبالتوبة والاستغفار يغفر له، وإن لم يتب منه فإنه يغفر له يوم القيامة، أو يؤاخذ به فيعذب في النار، ويخرج منها بإيمانه وصالح أعماله.

وقوله تعالى في ختام النداء: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]، فهو إذاً: سينجز لكم ما وعدكم من مغفرة ذنوبكم الماضية والحاضرة، ويرحمكم في الدنيا والآخرة؛ لأنه تعالى غفور لذنوب عباده إن تابوا إليه، رحيم بهم لا يعذبهم بدون ذنب اقترفوه، ولا سوء عملوه ].

الدليل على صحة التوجيه الأول لمعنى النداء في أنه موجه إلى مؤمني أهل الكتاب

قال: [ ويشهد لصحته: أن الكتابي ] وهو اليهودي أو النصراني [ إذا آمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ودخل في الإسلام يعطى أجره مضاعفاً، وهو معنى كفلين ، أي: حظين ونصيبين ] أي: مرتين [ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح ] من الأحاديث كـالبخاري ومسلم والموطأ: [ ( ثلاثة ) ] أنفار من الناس [ ( يؤتون أجرهم مرتين) ] أي: يعطون أجرهم مرتين. اللهم اجعلنا منهم. وهم [ (رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي)] أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم ( فله أجران ) ] أجر إيمانه بالنبي السابق، وأجر إيمانه بالنبي اللاحق محمد صلى الله عليه وسلم. هذا أحد الثلاثة [ ( وعبد مملوك ) ] وهذا كان أيام وجود العبيد، وأما اليوم فلا يوجد عبيد، وإنما يوجد عبيد للشيطان، وأما عبيد للبشر فلا يوجدون اليوم. وهذا العبد المملوك يعطى أجره مرتين إذا [ ( أدى حق الله ) ] كاملاً [ ( وحق مواليه ) ] أي: من يملكونه من الناس [ ( فله أجران ) ] أجر مقابل ما أدى من حقوق الله، كالصلاة والطهر والذكر والعبادة، وتجنب المعاصي في الليل والنهار، فيعطى على هذا أجر، ويعطى أجر ثانٍ لكونه مملوكاً، وذلك إذا أدى حق من يملكونه، فلم يخنهم، ولم يكذبهم، ولم يفرط في أعمالهم، ولم يغشهم، وغير ذلك، بل أدى حقوقهم كما هي، فهذا بوعد الله الصادق على لسان رسوله الحبيب صلى الله عليه وسلم يعطى أجره مرتين. والثالث: [ ( ورجل أدب أمته ) ] أي: مولاته وخادمته ومملوكته [ ( فأحسن تأديبها، ثم أعتقها لوجه الله وتزوجها، فله أجران ) ] فهؤلاء الثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، وهم: أولاً: الكتابي إذا آمن بالأنبياء السابقين وآمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. والآية شاهد على هذا.

وثانياً: عبد مملوك - سواء كان يملكه مؤمن أم كافر- أدى حقوق الله ولم يفرط فيها - فلم يفرط لا في صلاة ولا في عبادة- وأدى حقوق مالكيه، ولم يغش ولم يخدع ولم يعبث بماله، ولم يفسد عليه حياته، فهذا يعطى أجره مرتين؛ لأنه أدى حقين متقابلين.

وثالثاً: رجل يملك جارية مملوكة له، فيؤدبها بالآداب السامية الرفيعة، من آداب الكتاب والسنة؛ حتى تكمل وتستقيم وتصبح كالزهرة بين يديه، ثم يعتقها لوجه الله، ثم يتزوجها أيضاً، فهذا يعطى أجره مرتين.

والذي يعطي هذا الأجر هو الله، فهو الذي يملك ذلك.

هذا هو التفسير الأول للآية، أي: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقد زعموا أنهم مؤمنون، وليسوا في حاجة إلى إيمان جديد برسول الله وكتابه، فواعدهم الله إن آمنوا حق الإيمان بأن يعطوا أجرهم مرتين، ويغفر لهم، وهو الغفور الرحيم، ويعطيهم النور الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. وهذا التفسير موجه إلى أهل الكتاب، فمن رحمة الله تعالى بهم وجه إليهم هذا النداء، فهو يقول لهم فيه: يا من تدعون الإيمان وأنتم مبطلون ولستم على حق، آمنوا بحق بالله ورسوله؛ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد:28]. وواضح على هذا التوجيه أن الآية موجهة لأهل الكتاب.

التوجيه الثاني لمعنى هذا النداء: أن النداء موجه للمؤمنين

قال: [ وهناك أيها القارئ الكريم! تفسير لهذه الآية ] أي: أن الآية تحمل توجيهاً آخر، فالقرآن حمال الوجوه، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا التوجيه الثاني مشرق أيضاً ونير [ وهو أنها لنا نحن المؤمنين من عرب وعجم، ومن مشركين وأهل كتاب، فهي لكل مؤمن ومؤمنة بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً. إذاً: فالنداء بعنوان الإيمان كغيره من نداءات الرحمن، جميعها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ روي أن سعيد بن جبير قال: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة] أمة الإسلام [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. [الحديد:28] ] بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً [ اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28] ] أي: امتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، [ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28] ] واثبتوا على ذلك [ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28] أي: نصيبين من رحمته. وزادهم ] عطاء آخر [ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28]، يعني: هدى تبصرون به من العمى والجهالة. وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد:28]. ففضلهم بالنور والمغفرة. رواه ابن جرير ] الطبري في تفسيره.

الدليل على صحة التوجيه الثاني لمعنى النداء في أنه موجه إلى المؤمنين

قال: [ ومما يرجح هذا التفسير قوله تعالى بعد نهاية الآية: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29] ] وهذا يرشح ويرجح الوجه الذي هو لنا. فهم زعموا أنهم يؤتون أجرهم مرتين، وأن هذا خاص بهم، فأعلمهم تعالى أن هذا لعباده المؤمنين، وأبطل مزاعمهم، وعلمهم بأنهم لا يستطيعون أبداً أن يتصرفوا في عطاء الله وفضله، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء [ واللام في لئلا صلة ] زائدة [ لتقوية الكلام ] فقط؛ لأن زيادة المبنى تزيد في المعنى، وهذه قاعدة عامة في كلام البلغاء والفصحاء من العرب [ لذا قرأها ابن مسعود ] رضي الله عنه أحد قراء الصحابة الكرام [ ( لكي يعلم ) ] أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فيأخذونه ويحرمون المؤمنين، أو يختصهم به دون غيرهم من الناس [ و] قراءة ابن مسعود هذه [ هي قراءة بالمعنى لا غير؛ إذ قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد:29] ... إلى آخره كأنه قال: أعطينا عبادنا المؤمنين الصادقين من غير أهل الكتاب هذا الذي أعطيناهم من مضاعفة الأجر، والنور يمشون به، ليعلم أهل الكتاب المتبجحين أنهم لا يقدرون على منع شيء من فضل الله على أحد أراد الله إعطاءه إياه. فلنذكر هذا؛ فإنه علم عظيم. زادنا الله وإياكم منه.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].

دلائل وجود نور الإيمان عند المؤمن

الآن نعيد تلاوة الآيات، ونتذكر هذه المعاني التي ذكرناها.

قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]. وهذا يشمل أهل الكتاب إن هم حقاً آمنوا بموسى وعيسى، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أمرهم بالإيمان به؛ لأن إيمانهم ليس بشيء ولا بصالح، فهو يقول لهم: يا أيها الذين آمنوا ادعاء بأنهم آمنوا اتقوا الله، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يعطيكم أجركم مرتين. هذا أولاً. ثم يجعل لكم نور الإيمان والإسلام تمشون به في الحياة، ولن يكون هناك إثم ولا جريمة، ولا باطل ولا شر. ثم يغفر لكم ذنوبكم الماضية واللاحقة. وهذا الوجه صالح ومشرق، وليس فيه بأس.

وإن أخذناها لنا -وهي لنا أيضاً والله، ولا نشك في هذا- فيكون المعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحديد:28]، أي: يا من آمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28]، أي: لا تفجروا، ولا تفسقوا، ولا تخرجوا عن أوامر الله ورسوله؛ فتنغمسوا في ظلمات الآثام والذنوب، بل اتَّقُوا اللَّهَ [الحديد:28] أولاً. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد:28]، أي: تمسكوا واثبتوا بالإيمان بالله ورسوله. يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ [الحديد:28]، أي: يعطكم أجركم مرتين مضاعفاً. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد:28] ذنوبكم، فلا تلاقونه يوم القيامة وعليكم ذنوب. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].

أحببت أن تعرفوا أن هناك نوراً يمشي به أهل الإيمان، وهو ليس ممسوساً ولا ملموساً، ولكن دلائله: أن الرجل أو المرأة يمشي أحدهما أربعين سنة أو خمسين سنة أو ستين سنة في هذه الحياة ولا يسرق بيضة، ولا يزني بامرأة، ولا يفجر بها، مع أن لكل منهما الغرائز الدافعة لهما إلى الشهوات، ووالله لولا هذا النور لوقع هذا. فالرجل أو المرأة يباشران الحياة ليلاً ونهاراً ولا تحسن لهما أنفسهما كلمة سوء أو باطل أو منكر يقولانها، والذي عصمهما هو الله، وقد عصمهما بالنور الذي أوجده في قلبيهما. وهذا النور واضح.

والذين يتقلبون ويتورطون في الجرائم والموبقات إلى سفك الدماء وإراقة دماء المؤمنين والمؤمنات ليس لهم نور، بل إنهم والله يعيشون ظلام حالك، ويمشون فيه. ولذلك تجد أحدهم يعذب أخاه المؤمن، ويمزق بطنه، ويكسر عظامه، ويعلقه في أعمدة الكهرباء، وينكل به. فهذا ليس مؤمناً، وليس له نور، بل والله ما رأى النور ولا عرفه. فافهموا هذا يا جماعة الإيمان! ويا إخوة الإسلام! فالله قد وعدنا بأن يجعل لنا نوراً نمشي به؛ حتى لا نقع في الحفر والمهالك، وهذا النور ليس كهرباء، بل هذا النور يتولد من الأعمال الصالحة، وهذه الأعمال الصالحة إذا أديت أداء حقيقياً سليماً خالية من معوقات الإنتاج، ولم يكن فيها رياء ولا شرك، وفُعِلت كما فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم فوالله لتولدن هذا النور الذي تسمونه بالحسنات. وهذه الحسنات هي إشراقات القلب والنفس؛ نتيجة الإيمان وصالح الأعمال. والذي ليس له إيمان ولا عمل صالح لن يأتيه هذا النور، ولذلك لا تلوموه إن سب أو شتم، أو سرق أو كذب، أو زنى أو فجر، أو سفك الدماء أو قتل، أو قال الباطل أو الكفر؛ لأنه يمشي في ظلام، ولم يعرف هذا النور.

والبرهان على هذا واضح والحمد لله، فالرجل المؤمن والمرأة المؤمنة بحق يشعران في أنفسهما أن هذا الإيمان وهذه الصالحات من صلاة وزكاة وذكر الله وتلاوة كتابه قد أنتجت لهم نوراً، ولذلك لا يتمرغون في الأوساخ والقاذورات، وقد تمر على أحدهما أربعين يوماً بل أربعين سنة ولا يقول كلمة سوء، ولا ينطق بها؛ لأن له نوراً يحجبه ويبعده عن أن يتلوث بأوساخ الكلام والأعمال.

أهمية تقوى الله تعالى ومعناها

لأنه يوجد معنا من لم يحضر هذه الدروس، بل من عاش أربعين سنة ولم يحضر فيها حلقتين، ولا سأل يوماً عن خير، أقول: تقوى الله مثل المظلة الشمسية التي تتقي بها حر الشمس، ومثل الدرع الذي يلبسه المحارب؛ ليتقي به النبال والرصاص، ومثل البناء الذي تبنيه وتعيش تحته؛ تتقي به المطر والحر البرد، ومثل الثوب الذي تلبسه؛ تتقي به البرد أو الحر. والله عز وجل لا يتقى بالحصون العالية، فهو فوقنا، ولا يتقى بالجيوش الجرارة، فهو الذي أوجدها، ولا يتقى بالدخول في السراديب، وإنما يتقى الله تعالى أيها الأبناء! بطاعته، فأطعه ولا تعصه، وتكون بذلك قد اتقيت عذابه وسخطه ونقمته، وهو يأمرنا بأن نتقيه رحمة بنا. وإذا عصيته وجاهرت بالمعاصي فقد أعلنت الحرب على الله، فاستعد لنقمة الله.

فالله يتقى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فإذا قال: اسكت فاسكت، وإذا قال: تكلم فتكلم، وإذا قال: امش فامش، وإذا قال: قف فقف، وإذا قال: نم فنم، وإذا قال: استيقظ فاستيقظ، وهذه هي حياة المؤمنين. فإذا جاء الصوم صاموا، وإذا جاء الإفطار أفطروا، وإذا نودي للصلاة حضروا فصلوا، وإذا نودي للجهاد خرجوا. وهذا هو شأنهم. وبذلك يتقون الله ربهم.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ [الحديد:28] بمعنى: يعطكم كِفْلَيْنِ [الحديد:28]، أي: نصيبين من الأجر، وعبر عن الأجر بالرحمة، فقال: مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]؛ إذ أجر الله للعبد هو الجنة دار السلام. ثم قال: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.