ولكن بسبب التطرف الذي وقع فيه الفكر الاعتزالي لم يكتب له الاستمرار في السلطة، فبعد حكمهم في فترة ثلاثة خلفاء عباسيين جاء المتوكل ورفع هذه المحنة التي اكتوى بنارها أئمة العلم: أحمد بن حنبل، وابن نصر الخزاعي، والبويطي وابن معين وغيرهم كثير، والعجيب أن بعض المعتزلة المتأخرين يطعنون في الإمام أحمد ويقولون لامزين ومتهكمين: جلده المعتصم بالسياط! وإذا هم يجعلون غلوهم وتطرفهم حسنة وصبر الإمام أحمد وعدم انجراره وراء الفكر الغالي الذي ذكوه مذمة، ولكن يكفي الإمام فخراً أنه صبر رغم تسليم كثيرين، وأن الفكر المنحرف حتى لو كان يملك السلطة فلن يستطيع أبداً أن يملك العقول، وإن هون بعض علماء اليمن المتأخرين من شأن هذه المسألة ورأى أنها لا تستحق تشدد المعتزلة في فرضها، ولا الصبر الذي صبره الإمام أحمد في رفضها.
بعد خفوت نجم المعتزلة وتنحيتهم من السلطة لم يبق لهم سوى الحلقات العلمية والتنظير العقلي لعقيدتهم وأفكارهم في المساجد ونحوها.
ثم ظهر لا حقاً أشخاص ألفوا كتباً وأبحاثاً في علم العقيدة وناقشوا قضايا عقدية وانتصروا لمذهب أهل السنة -ولو من وجهة نظرهم على الأقل- من أمثال ابن كلاب وغيره، بيد أن ظهور أبي الحسن الأشعري ومدرسته كان قوياً جداً بحيث استطاع أن يجذب الأنظار إليه، وساعده على هذا نجابة تلاميذ مدرسته، ولم تكن الساحة حينها لتتسع لمذهب أبي الحسن فظهر الغلو التكفيري بشدة بين المدرستين الأشعرية والمعتزلية وألفت الكتب في إكفار بعضهم لبعض، وما لبث أن ظهر بعض متشددي الحنابلة فازداد الأمر سوءاً.
لقد كان كل فريق يرى في الآخر مبتدعاً ضالاً مضلاً، وأخذ -تبعاً لذلك- يكفره بعينه دون اعتبار لأي ضابط، ربما بسبب ما هم فيه من عراك، وربما لأن مسألة الضوابط والشروط هذه لم تكن ظاهرة بعد في أذهانهم بشكل واضح، أو للسببين معاً.
الغريب أن المعتزلة رغم قلتهم لم يستطيعوا المحافظة على صفهم العقدي واحداً متحداً بل تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً، وأكفر كل فريق منهم الآخر، فما لبثوا أن تلاشت مدرستهم بسبب البدع التي تراكمت وتكاثرت معهم عبر السنين، وبسبب ما ألحقوا الأمة من ويلات وفتن، وإذا كان الأساس باطلاً فإن ما يبنى عليه باطل كذلك، وهذا ما حدث مع الفرق البدعية، فقد تشظت