{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ } . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفاً للعرب ومشهوراً عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة!
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيراً بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . . ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك: { ألم يجعل كيدهم في تضليل؟ } . . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته ، شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . . ولعله كان بهذا يذكر قريشاً بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته ، في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم ، كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته؛ فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة: { وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول } . . والأبابيل: الجماعات . وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان: حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف: الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول: أي فتيت طحين! حين تأكله الحشرات وتمزقه ، أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .
ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصوير لحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .