وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها ..إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون ، وتهديدهم بأن اللّه عليم بالمفسدين ..
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم. وما ينشأ في الأرض الفساد - في الواقع - إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة. لا اعتراف اللسان. فاعتراف اللسان لا قيمة له. ولا اعتراف القلب السلبي. فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس .. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية .. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية ، فتتوحد العبودية .. لا عبودية إلا للّه. ولا طاعة إلا للّه. ولا تلقي إلا عن اللّه. فليس إلا للّه تكون العبودية.
وليس إلا للّه تكون الطاعة. وليس إلا عن اللّه يكون التلقي .. التلقي في التشريع ، والتلقي في القيم والموازين ، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية .. وإلا فهو الشرك أو الكفر.
مهما اعترفت الألسنة ، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله ، إلا أن يكون هناك إله واحد ، يدبر أمره: و «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» .. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد والتشريع لهم في حياتهم ، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية وأقام نفسه للناس إلها من دون اللّه. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عند ما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عند ما يتعبد الناس الناس. عند ما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته وأن له فيهم حق التشريع لذاته وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى » ..
والإقرار به هو الشرك باللّه أو الكفر به .. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.