• 1048
  • عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي ، مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا ، قَالَ : فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : " خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ "

    حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، قَالَ : قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي ، مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا ، قَالَ : فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ

    أقبية: أقبية : جمع قَبَاء وهو ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص
    قباء: القَبَاء : ثوب يلبس فوق الثياب والجمع أقبية
    خبأت: خبأت : سترت وحفظت
    خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ
    حديث رقم: 2486 في صحيح البخاري كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها باب: كيف يقبض العبد والمتاع
    حديث رقم: 2542 في صحيح البخاري كتاب الشهادات باب شهادة الأعمى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره، وما يعرف بالأصوات
    حديث رقم: 5487 في صحيح البخاري كتاب اللباس باب القباء وفروج حرير
    حديث رقم: 5548 في صحيح البخاري كتاب اللباس باب المزرر بالذهب
    حديث رقم: 5803 في صحيح البخاري كتاب الأدب باب المداراة مع الناس
    حديث رقم: 1814 في صحيح مسلم كِتَاب الزَّكَاةِ بَابُ إِعْطَاءِ مَنْ سَأَلَ بِفُحْشٍ وَغِلْظَةٍ
    حديث رقم: 3565 في سنن أبي داوود كِتَاب اللِّبَاسِ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْأَقْبِيَةِ
    حديث رقم: 2874 في جامع الترمذي أبواب الأدب باب
    حديث رقم: 5275 في السنن الصغرى للنسائي كتاب الزينة لبس الأقبية
    حديث رقم: 18562 في مسند أحمد ابن حنبل أَوَّلُ مُسْنَدِ الْكُوفِيِّينَ حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيِّ ، وَمَرَوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
    حديث رقم: 4906 في صحيح ابن حبان كِتَابُ السِّيَرِ بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا
    حديث رقم: 4907 في صحيح ابن حبان كِتَابُ السِّيَرِ بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا
    حديث رقم: 9341 في السنن الكبرى للنسائي كِتَابُ الزِّينَةِ لُبْسُ الْأَقْبِيَةِ
    حديث رقم: 6117 في المستدرك على الصحيحين كِتَابُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذِكْرُ مَنَاقِبِ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
    حديث رقم: 6288 في المستدرك على الصحيحين كِتَابُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذِكْرُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
    حديث رقم: 5831 في المعجم الأوسط للطبراني بَابُ الْمِيمِ بَابُ الْمِيمِ مَنِ اسْمُهُ : مُحَمَّدٌ
    حديث رقم: 8724 في المعجم الأوسط للطبراني بَابُ الْمِيمِ مَنِ اسْمُهُ مُنْتَصِرٌ
    حديث رقم: 5709 في السنن الكبير للبيهقي كِتَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ بَابُ مَا وَرَدَ فِي الْأَقْبِيَةِ الْمُزَرَّرَةِ بِالذَّهَبِ
    حديث رقم: 4401 في شرح معاني الآثار للطحاوي كِتَابُ الْكَرَاهَةِ بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ
    حديث رقم: 581 في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم وَمِنْ ذِكْرِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
    حديث رقم: 7062 في مسند أبي يعلى الموصلي مسند أبي يعلى الموصلي بَقِيَّةُ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
    حديث رقم: 5568 في معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني الأسمَاء مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أُمُّهُ رُقَيْقَةُ بِنْتُ أَبِي صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، كَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ ، وَكَانَ فِي لِسَانِهِ فَظَاظَةٌ ، يُكْنَى أَبَا الْمِسْوَرِ ، تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ ، وَلَهُ تَسْعَوْنَ سَنَةً ، وَقِيلَ : وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةِ سَنَةٍ ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ
    حديث رقم: 2585 في مُشكِل الآثار للطحاوي مُشكِل الآثار للطحاوي بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
    حديث رقم: 2583 في مُشكِل الآثار للطحاوي مُشكِل الآثار للطحاوي بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
    حديث رقم: 2584 في مُشكِل الآثار للطحاوي مُشكِل الآثار للطحاوي بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

    عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية. فقال لي أبي مخرمة انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئاً. قال: فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه وهو يقول خبأت هذا لك، خبأت هذا لك.
    المعنى العام:
    نكتفي بما سيذكر في المباحث العربية وفقه الحديث عن المعنى العام:
    ، إن شاء الله. المباحث العربية (المؤلفة قلوبهم) أحد الأصناف الثمانية المستحقين للزكاة، قيل: هم ناس أسلموا إسلاماً ضعيفاً، وقيل: كفار يعطون ترغيباً في الإسلام، وقيل: مسلمون لهم أتباع كفار ليأتلفوهم، وقيل: مسلمون أول ما دخلوا الإسلام ليتمكن الإسلام من قلوبهم. قال الحافظ ابن حجر: والمراد بالمؤلفة هنا هذا الأخير. لقوله -في روايتنا السادسة: فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، وقد سرد أبو الفضل بن طاهر في كتابه المبهمات أسماء المؤلفة في عهده صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية -وهؤلاء من قريش- وعيينة ابن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، ومالك بن عوف النضري، والعلاء بن حارثة الثقفي. وذكر الواقدي في المؤلفة معاوية ويزيد ابني أبي سفيان، ومخرمة بن نوفل، وقيس بن عدي. وزاد ابن إسحق: النضر بن الحارث والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم. وذكر ابن الجوزي فيهم زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة. وغير هؤلاء، يزيدون -عند بعضهم على أربعين نفساً. (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً) قسماً بفتح القاف، اسم للمقسوم وليس مصدراً، أي قسم مالاً على جماعة. (لغير هؤلاء كان أحق به منهم) هذه الأحقية من وجهة نظر عمر، أو هي في الواقع ونفس الأمر إذا قطعنا النظر عن علة إعطائهم، أما مع ملاحظة العلة فهم أحق. (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني) أي خيروني بين أن يطلبوا العطاء بالإلحاح والغلظة والصوت العالي والتبجح، وبين التشهير بي ونسبتي إلى البخل، ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين. (ولست بباخل) أي فاخترت مداراتهم بالعطاء. (وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية) أي غليظ البطانة، أو الشريط الذي يوضع على الأطراف، أي قويها، وفي رواية: وعليه برد والرداء ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان، والبرد البردة بسكون الراء كساء أسود فيه خطوط أو صور، والنجراني بفتح النون الأولى نسبة إلى نجران، بلد معروف بين الحجاز واليمن. (فأدركه أعرابي) وفي رواية: فجاء أعرابي من خلفه وفي بعض الروايات أن ذلك وقع من الأعرابي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم خارج من المسجد داخل حجرته، فكأنه لقيه خارج المسجد فأدركه، وهو يكاد يدخل، فكلمه وأمسك بثوبه يمنعه من الدخول. فقد ذكر البخاري هذا الحديث عقب حديث عن جبير بن مطعم: أنه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس مقبلاً من حنين علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، حتى اضطروه إلى شجرة بها شوك -وفي رواية: حتى عدلوا بناقته عن الطريق، فمر بشجر فيه شوك، انتهش ظهره وانتزع رداءه، فقال: اعطوني ردائي فلو كان عدد هذه الفروع والأوراق نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوباً، ولا جباناً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجل قسمة غنائم حنين أربعين ليلة حتى عاد من الطائف، فلم يصبر الأعراب. (فجاذبه حتى انشق البرد، وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي: يحتمل أنه على ظاهره، وأن الحاشية انقطعت وبقيت في العنق [أي انفصلت البطانة عن وجه الرداء، فكان الوجه في يد الأعرابي والبطانة في العنق، وربما كان اتصالهما ضعيفاً] ويحتمل أن يكون معناه، بقي أثرها، لقوله في الرواية الأخرى: أثرت بها حاشية الرداء. وفي الرواية السابقة: ثم جبذه إليه جبذة رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي. وجبذ وجذب بمعنى واحد. (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية) بفتح الهمزة، جمع قباء بفتح القاف، فارسي معرب، وقيل: عربي. واشتقاقه من القبو، وهو الضم، ويقال: هو الذي له شق من خلفه. قال القرطبي: هو ثوب ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف، يلبس في السفر والحرب، لأنه أعون على الحركة. اهـ وفي رواية: قدمت على نبي الله صلى الله عليه وسلم أقبية. وفي رواية: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج، مزرورة بالذهب، فقسمها في ناس من أصحابه. (ولم يعط مخرمة شيئاً) أي في حال القسمة، ففي رواية: فقسمها في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة. ومخرمة هو ابن نوفل الزهري كان من رؤساء قريش، ومن العارفين بالنسب، تأخر إسلامه إلى الفتح، وشهد حنيناً، وأعطى من غنيمتها مع المؤلفة، ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وخمس عشرة سنة. (ادخل فادعه لي) في الرواية الرابعة فقام أبي على الباب فتكلم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج ومعه قباء. قال ابن التين: لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور إليه، فخرج معه. (فخرج وعليه قباء منها) يحتمل أنه كان يحمله على كفه، ولم يكن يلبسه. (وهو يريه محاسنه) في رواية فتلقاه به، واستقبله بأزراره. (خبأت هذا لك) زاد في رواية يا أبا المسور. (فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة) زاد في رواية: فأعطاه إياه. وجزم الداودي أن قوله: رضي مخرمة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ورجح الحافظ ابن حجر أنه من كلام مخرمة. اهـ والمعنى فنظر مخرمة إلى القباء فبدا عليه الرضا، فقال صلى الله عليه وسلم: رضي مخرمة. (عن عامر بن سعد عن أبيه سعد) بن أبي وقاص. (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً) أصل الرهط الجماعة دون العشرة. (وهو أعجبهم إلي) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي. (مالك عن فلان)؟ أي مالك؟ مبتدأ وخبر، وعن فلان متعلق بمحذوف حال، والتقدير: أي شيء حصل لك حالة كونك معرضاً عن إعطاء فلان. (والله إني لأراه مؤمناً) لأراه بفتح الهمزة أي لأعلمه، قال النووي: ولا يجوز ضمها [فتكون بمعنى لأظنه] فإنه قال: غلبني ما أعلم منه ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ولو لم يكن جازماً باعتقاده لما كرر المراجعة. (أو مسلماً) أو بسكون الواو، فالإيمان التصديق القلبي، والإسلام العمل بالجوارح. (خشية أن يكب في النار على وجهه) يقال: أكب الرجل أي سقط، وكبه الله، أي أسقطه، فالرباعي بالهمز لازم، والثلاثي متعد. قال النووي: وهذا بناء غريب، فإن العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة فيتعدى بالهمزة، وهنا عكسه، والضمير في يكبه للمعطي، لا الذي منع العطاء. (أقتالاً أي سعد) أي حرف نداء. أي لا ينبغي أن تفعل ذلك يا سعد كأنك تقاتل. قال النووي: معنى الحديث أن سعداً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناساً ويترك من هو أفضل منهم في الدين، وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك، فأعلمه به، وحلف أنه يعلمه مؤمناً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً. فلم يفهم سعد من الجواب النهي عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت ثم رآه يعطي من هو دونه بكثير، فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الإنسان، فقال: يا رسول الله-، مالك عن فلان؟ تذكيراً، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى، ثم نسيه. فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة، إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين، وأنه يعطي ناساً مؤلفة، في إيمانهم ضعف، لو لم يعطهم كفروا، فيكبهم الله في النار، ويترك أقواماً هم أحب إليه من الذين أعطاهم، لا يتركهم، احتقاراً لهم، ولا لنقص دينهم، ولا إهمالاً لجانبهم، بل يكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من النور والإيمان التام، واثقاً من أنه لا يتزلزل إيمانهم لكماله. قال: وقد ثبت هذا المعنى في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله تعالى، ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد. فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير. (أن أناساً من الأنصار قالوا يوم حنين) سيأتي وصف هؤلاء الناس، وحنين واد قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات، ويوم حنين أي غزوة حنين، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليها لست خلت من شوال سنة ثمان من الهجرة، مكث بمكة بعد فتحها نصف شهر لم يزد، ثم بلغه تجمع قبائل هوازن يؤيدهم ثقيف لحرب المسلمين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش لم يسبق للمسلمين، اثنى عشر ألفاً من الرجال بخيل وإبل وسلاح، يبعث على الغرور، حتى قال رجل منهم: لن نغلب اليوم عن قلة، فكانت هزيمة المسلمين وفرارهم، ثم كانت العودة والكرة على المشركين فهزموا، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، السبى ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أربعون ألفاً. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر تقسيم الغنائم، وحبسها بالجعرانة -وهي على بعد ثمانية عشر ميلاً من مكة إلى جهة الطائف- حبسها أربعين يوماً حتى عاد من حصار الطائف، رجاء أن تسلم هوازن فيرد إليها السبى. والحديث في توزيع غنائم حنين. (حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء) أصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئاً، لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئاً لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل، والكفر طارئ عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم. قاله الحافظ ابن حجر. (فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل) أي ولم يعط الأنصار شيئاً، كما جاء في الرواية التاسعة، ووضحت الرواية الحادية عشرة بعض هؤلاء الرجال، ولفظها: أعطي أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل. (فقالوا) أي الأنصار، وأسند القول إليهم مع أن القائل بعضهم لرضاهم بالقول. (يعطي قريشاً ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم؟) وفي الرواية الثامنة إن هذا لهو العجب، وإن غنائمنا ترد عليهم؟ وفي الرواية التاسعة فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعي؟ وتعطي الغنائم غيرنا؟ وفي الرواية الثانية عشرة فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس، وفي الرواية الثالثة عشرة فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها. وما أريد فيها وجه الله. وكل هذا القول حصل من المجموع على التوزيع، والقصد من قولهم: وسيوفنا تقطر من دمائهم أنهم قريبو عهد بالإسلام، لم يخدموا ولم يجاهدوا في سبيله، ونحن الذين رددناهم إلى الإسلام، فنحن أحق بغنائمه. والاعتراض بقريش لما أنهم أهله صلى الله عليه وسلم، ففي إيثارهم الشبهة، وإلا فقد ذكرنا أن البعض لم يكن قرشياً. (فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم) رسول الله نائب فاعل، والإشارة مفعول حدث بضم الحاء وكسر الدال المشددة، مبني للمجهول ومن بيانية، بمعنى أي والتقدير حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم. وفي الرواية الثامنة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم) أي في قبة من جلد مدبوغ، والمعنى أرسل إليهم وأمر باجتماعهم في هذا المكان، وذكر ابن إسحق عن أبي سعيد قال: لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في نفوسهم، حتى كثرت منهم المقالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك، فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك. (فقال: ما حديث بلغني عنكم)؟ في الرواية السابعة فقال: أفيكم من أحد غيركم؟ فقالوا: لا. إلا ابن أخت لنا. قال: إن ابن أخت القوم منهم. وفي الرواية الثانية عشرة فقام فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار. ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ -ضلالاً بضم الضاد والتشديد، جمع ضال، والمراد هنا ضلالة الشرك، والمراد بالهداية الإيمان- وعالة فأغناكم الله بي؟ أي فقراء فأغناكم الله بالإسلام والغنائم؟ ومتفرقين فجمعكم الله بي وكانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع، لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله تعالى: {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [الأنفال: 63]. قال الحافظ ابن حجر: وقد رتب صلى الله عليه وسلم ما من الله عليهم على يديه من النعم ترتيباً بالغاً فبدأ بنعمة الإيمان، التي لا يوازي بها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال، لأن الأموال تبذل في تحصيلها، وقد لا تحصل. اهـ. فقال: ألا تجيبوني؟ فقالوا: الله ورسوله أمن بفتح الهمزة والميم، وتشديد النون. أفعل تفضيل من المن، وفي رواية فقالوا: ماذا نجيبك يا رسول الله؟ ولله ولرسوله المن والفضل. فقال: أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا -لأشياء عددها، ذكر الراوي أنه لا يحفظها قيل: إن الراوي كنى بكذا وكذا عمداً على طريق الأدب، وهي كناية عما روى فقال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فأويناك، وعائلاً فواسيناك فقالوا في جواب ذلك: رضينا عن الله ورسوله بل المن علينا لله ولرسوله. قال الحافظ ابن حجر: إنما قال ذلك تواضعاً منه وإنصافاً، وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم، وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نبه على ذلك بقوله ألا ترضون....إلخ، فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه، بالنسبة لما حصل عليه غيرهم من عرض الدنيا الفانية. اهـ. والجمع بين هذه الروايات ظاهر، وترتيب ما قاله صلى الله عليه وسلم فيها سهل. (فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا -يا رسول الله- فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشاً ويتركنا؟ وسيوفنا تقطر من دمائهم)؟ في الرواية الثامنة قالوا هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون وفي الرواية التاسعة فسكتوا ويحتمل أن يكونوا سكتوا أولاً، ثم أجابوا بالجوابين المذكورين ويحتمل أن بعضهم سكت، وبعضهم أجاب، وأن بعضهم أجاب بالجواب الثاني، وبعضهم أجاب بالجواب الأول. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم) في الرواية السابعة: إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة [يقصد ما أصيبوا به في حروبهم وخذلانهم وقهرهم والغلبة عليهم] وإني أردت أن أجبرهم [وأعوضهم وأطيب خاطرهم عن مصيبتهم] وأتألفهم [ليثبتوا على الإيمان الطارئ الحديث، الذي دخله كثير منهم من غير اطمئنان ويقين]. (أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله)؟ الاستفهام للتقرير، أي حملهم على الإقرار بما بعد النفي، أي أقروا بأنكم ترضون، والمراد من الناس قريش وغيرهم من غير الأنصار، والمراد من الأموال الغنائم التي قسمت، والرحال البيوت التي يرحل إليها، وفي رواية أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ وفي الرواية التاسعة أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم؟ وفي الرواية الثانية عشرة ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ ولا شك أن بعض هذه الروايات بالمعنى من تصرف الرواة. (فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به) يقال: انقلب على عقبه إذا رجع، وما في لما موصولة، أي للذي ترجعون به خير من الذي يرجعون به. (فقالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا) هذه الجملة جاءت في الرواية السادسة والتاسعة والروايات يكمل بعضها بعضاً؛ فبعض الرواة يذكر ما لا يذكره الآخر. (الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) هذه العبارة وردت في الرواية الثانية عشرة، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار ما يلبس فوقه؛ وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه صلى الله عليه وسلم، أراد الأنصار هم البطانة والأصفياء، وألصق الناس بي، وأقرب إلى من غيرهم. وفي المراد من قوله: ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. أقوال كثيرة، قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه. منها الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعاً، وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبق إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قال: ويحتمل أنه لما كانوا أخواله، لكون أم عبد المطلب منهم أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة. وقال ابن الجوزي: لم يرد صلى الله عليه وسلم تغير نسبه، ولا محو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجر لانتسب إلى المدينة وإلى نصرة الدين. فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسع تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم، وانتسبت إليكم كما كانوا ينسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة سبقت، فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدل بغيرها. وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة، ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاث لاخترت أن أكون من الأنصار. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح. والذي تستريح إليه النفس أن يقال: إن لولا حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، فيقال هنا: امتنع كوني من الأنصار لثبوت كوني مكياً مهاجراً، ولولا هذا الواقع الذي لا يرتفع لتمنيت أن أكون من الأنصار، وإنما قدرنا التمني والحب والرغبة لأن كونه فعلاً من الأنصار ليس في مقدرته ولا يملكه، إنما يملك التمني والرغبة، ومن هذا القبيل المقولة المشهورة: لو لم أكن مصرياً لتمنيت أن أكون مصرياً.، فكأنه صلى الله عليه وسلم يطيب خاطرهم بأنهم خير العباد في خير البلاد، ولو فرض أن هناك اختياراً له في الزمن البعيد بين أن يكون مكياً أو أنصارياً لاختار أن يكون أنصارياً لولا ما يحصل عليه من فضل الهجرة وشرفها. (لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار) هذا تتميم للكلام السابق، أي إذا كنت في الماضي لم أنتسب إليكم فإني منذ الآن منكم وأعيش بينكم وأفضل البقاء معكم على البقاء مع سواكم. وفي الرواية الثامنة لو سلك الناس وادياً أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار. وفي الرواية الثانية عشرة لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم. فاختلاف الألفاظ من تصرف الرواة، والشعب بكسر الشين اسم لما انفرج بين جبلين، والوادي المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء. (فإنكم ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض. قالوا: سنصبر) في الرواية الثانية عشرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض الأثرة الاستئثار بالأمر المشترك، أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق، فالمعنى لا تحسبوا إعطائي قريشاً دونكم أثرة، وتفضيلاً لغيركم عليكم فوجودي معكم يعدلها ويزيد، إنما الأثرة الحقيقية، والاستئثار بالأمور دونكم ستلقونها بعد وفاتي، وأوصيكم بالصبر وعدم المقاتلة، حتى تلقوني، وستجدون عوض ما فقدتم. والأثرة فيها لغتان. ضم الهمزة وإسكان الثاء، وفتح الهمزة والثاء، وهي أصح وأشهر. (قال أنس: فلم نصبر) فقد نافسوا على السلطة وحاولوا، وحاربوا. (لما كان يوم حنين) كان تامة، ويوم فاعل. أي يوم غزوة حنين. وقد مر قريباً مكانها وزمانها، وما وقع فيها. (أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم) في الرواية العاشرة جاء المشركون بأحسن صفوف، رأيت، قال: فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة [المشاة] ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم. وإنما فعلوا ذلك ليستميتوا في القتال. (ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف) وهم الذين فتح بهم مكة. (ومعه الطلقاء) جمع طليق، وهم من حصل لهم المن عليهم يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم، فكانوا ألفين، فكان جيش المسلمين يوم حنين اثنى عشر ألفاً. فقول الراوي في الرواية العاشرة: ونحن بشر كثير، قد بلغنا ستة آلاف. وهم من الراوي عن أنس، كما قال القاضي عياض. (فأدبروا عنه حتى بقي وحده) ضمير فأدبروا للعشرة آلاف والطلقاء. وقوله: حتى بقي وحده. قصد به المبالغة، فإن المائة بجوار الاثنى عشر ألفاً في حكم العدم، وقيل: المراد بقي وحده متقدماً مقبلاً على العدو، والذين ثبتوا معه كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن عمر قال: لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين، وروى أحمد عن ابن مسعود قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر وذكر النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلاً. (فنادى يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما شيئاً) أي لم يفصل بينهما بشيء فسرهما فيما بعد بقوله: التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار..ثم التفت عن يساره، فقال: يا معشر الأنصار. وفي الرواية العاشرة فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا للمهاجرين. يا للمهاجرين. ثم قال: يا للأنصار. يا للأنصار. فمراد أنس بالنداءين في الرواية التاسعة النداءان الخاصان بالأنصار. وهذا لا يمنع أن يكون قد نادى غيرهما، أو أمر غيره أن ينادي، ففي الصحيح من حديث العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ صار يركض بغلته إلى جهة الكفار، وقال: أي عباس. ناد أصحاب الشجرة، وكان العباس صيتاً. قال: فناديت بأعلى صوتي: أين أصحاب الشجرة؟ قال: فوالله لكأني عظمتهم حين سمعوا صوتي عظمة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك. وفي رواية فجعل الرجل يعطف بعيره فلا يقدر، فيقذف درعه، ثم يأخذ بسيفه ودرقته، ثم يؤم الصوت. (وهو على بغلة بيضاء فنزل) عن البغلة، واستنصر، فقال: اللهم أنزل نصرك. (فانهزم المشركون) معطوف على محذوف، أي فعاد المسلمون، فقاتلوا قتالاً شديداً. (فقسم في المهاجرين والطلقاء) المفعول محذوف، أي فقسم الغنائم. (فبلغه ذلك) قيل: الذي بلغه سعد بن عبادة، كما في بعض الروايات. (وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد) مجنبة بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون، هي الكتيبة من الخيل تأخذ جانب الطريق، وهما مجنبتان ميمنة وميسرة بجانبي الطريق، والقلب بينهما. (فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا) قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها تلوذ. اهـ أي تتجه إلى الخلف فراراً من النبل. (يال المهاجرين...يال الأنصار) قال النووي: هكذا في جميع النسخ في المواضع الأربعة يال بلام مفصولة مفتوحة، والمعروف وصلها بلام التعريف بعدها. (هذا حديث عمية) قال النووي: هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه. أحدها: عمية بكسر العين وتشديد الميم المكسورة والياء المشددة. قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا، قال: وفسر بالشديد [أي هذا حديث شديد]. والثاني: عمية كالسابق إلا أنه بضم العين. والثالث: عمية بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء، وبعدها هاء السكت، أي حدثني به عمي، وقال القاضي: على هذا الوجه معناه عند جماعتي، أي هذا حديثهم. قال صاحب العين: العم الجماعة. والوجه الرابع كذلك إلا أنه بتشديد الياء، وفسره الحميدي بعمومتي أي هذا حديث فضل أعمامي، أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي، كأنه حدث بأول الحديث عن مشاهدة، ثم لعله لم يضبط هذا الموضع، لتفرق الناس، فحدثه به من شهده من أعمامه، أو جماعته الذين شهدوه، ولهذا قال بعده. قال: قلنا: لبيك يا رسول الله. والله أعلم. (فقبضنا ذلك المال) أي جمعنا هذه الغنائم، فحبست في الجعرانة، حتى حاصروا الطائف. (ثم رجعنا إلى مكة) الرجوع كان إلى الجعرانة القريبة من مكة، إذ بينها وبين مكة ثمانية عشر ميلاً. وهي بكسر الجيم وكسر العين وتشديد الراء، وقد تسكن العين. وفيها قسمت غنائم هوازن. (أتجعل نهبي ونهب العبيد) العبيد اسم فرسه، أي أتجعل غنيمتي وغنيمة فرسي..... (فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع) يقصد من بدر عيينة بن حصن، نسبة إلى بدر جد أبيه، كما جاء في الرواية السادسة عشرة، ويقصد من حابس الأقرع بن حابس الحنظلي. قال النووي: هكذا هو في جميع الروايات مرداس غير مصروف، وهو حجة لمن جوز ترك الصرف بعلة واحدة، وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر. (عن عبد الله) أي ابن مسعود. (فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف) بكسر الصاد، وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود. قال ابن دريد: وقد سمي الدم أيضاً صرفاً. وفي الرواية الرابعة عشرة فغضب من ذلك غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له. (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله) ذكر لفظ الجلالة هنا للإشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، والأصل إذا لم يعدل رسول الله والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لا أحد يعدل إذا لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) قال ذلك عملاً بقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] فالمراد سأصبر على الأذى، كما صبر أولوا العزم من الرسل. (قال: قلت: لا جرم. لا أرفع إليه بعدها حديثاً) أي حقاًَ والتزاماً أن لا أرفع إليه حديثاً أسمعه بعد هذه الحادثة، لئلا أغضبه، كما أغضبته، وفي الرواية التالية حتى تمنيت أني لم أذكره له. (فقال: يا محمد. اعدل) وفي رواية اتق الله يا محمد. وفي رواية يا محمد. والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما أراك تعدل. وفي رواية ما أراك عدلت في القسمة. (ويلك) أي هلاكاً لك بسبب قولتك، وفي رواية ويحك. (لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل) قال النووي: روي بفتح التاء في خبت وخسرت وبضمها فيهما، ومعنى الضم ظاهر، وتقدير الفتح: خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل، لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل. (إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) الحناجر جمع حنجرة، وهي الحلقوم والبلعوم، وكله يطلق على مجرى النفس، وهو طرف المرئ مما يلي الفم، وفي الرواية السابعة عشرة قوم يتلون كتاب الله رطباً؛ لا يجاوز حناجرهم. وفي الرواية الثامنة عشرة فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم. وفي الرواية التاسعة عشرة يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم. والتراقي جمع ترقوة بفتح التاء وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو، وهي العظم الذي بين فقرة النحر والعاتق. والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها. وقيل: لا يعلمون بالقرآن فلا يثابون على قراءته، فلا يحصل لهم إلا سرده، ويؤيد هذا المعنى لفظ الرواية السابعة والعشرين: يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم. وقال النووي: المراد أنهم ليس لهم حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب. قال الحافظ ابن حجر: وهو مثل قوله فيهم أيضاً: لا يجاوز إيمانهم حناجرهم أي ينطقون بالشهادتين ولا يعرفونها بقلوبهم. وفي معنى قراءتهم للقرآن رطباً -أو ليناً رطباً الواردة في الرواية السابعة عشرة- أنهم من الحذق في التلاوة إلى درجة الإتيان به على أحسن أحواله. وقيل: المراد أنهم يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به. وقيل: هو كناية عن حسن الصوت به. حكاها القرطبي. قال الحافظ ابن حجر: ويرجح الأول رواية يقرءون القرآن كأحسن ما يقرؤه الناس ويؤيد الثاني رواية قوم أشداء أحداء ذلقة ألسنتهم بالقرآن. قال النووي: هكذا هو في أكثر النسخ لينا بالنون، أي سهلاً، وفي كثير من النسخ ليا بحذف النون، ومعناه سهلاً، لكثرة حفظهم، وقيل: ليا أي يلوون ألسنتهم به، أي يحرفون معانيه وتأويله، وقد يكون من اللي في الشهادة وهو الميل. اهـ. (يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) وفي الرواية السادسة عشرة يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية. وفي الرواية السابعة عشرة يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وفي الرواية الثامنة عشرة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية. والرمية هي الصيد المرمي، فعيلة بمعنى مفعوله، وهي الغرض الوارد في الرواية المتممة للعشرين، والدين هنا هو الإسلام، وقيل: المراد به طاعة الإمام، والمعنى كما قال القاضي يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ في الصيد إلى الجهة الأخرى. اهـ. وفي الرواية التاسعة والعشرين يخرجون من الدين، كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه. ووجه الشبه سرعة الدخول والخروج، دون الاستقرار، ودون أن يعلق بالسهم شيء من الصيد، يصور هذا المعنى قوله في الرواية الثامنة عشرة: (فينظر الرامي إلى سهمه. إلى فصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة. هل علق بها من الدم شيء؟) وفي الرواية التاسعة عشرة ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلا قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، وفي الرواية العشرين فينظر إلى النصل فلا يرى بصيرة [البصيرة القليل من الدم، يستدل به على إصابة الرمية] وينظر في النضي فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق، فلا يرى بصيرة. ونصل السهم حديدته المدببة في طرفه. ورصاف السهم بكسر الراء مدخل النصل أو عقبة تشد على مدخل النصل. ونضي السهم بفتح النون وكسر الضاد وتشديد الياء، وهو القدح. وقدح السهم عود من خشب يسوى فيدخل فيه الريش من جهة، والنصل من جهة أخرى. وقذذ السهم بضم القاف وتشديد الذال، وهي ريش السهم. وفوق السهم بضم الفاء موضع الوتر منه، يقال: فاق السهم إذا وضع فوقه في الوتر. والمعنى أنه ينظر إلى سهمه جملة، ثم تفصيلاً، لينظر: هل أصاب سهمه الرمية أو لم يصبها؟ فلا يرى أثراً للإصابة، فكأنه لم يصب، وإن أصاب، كذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام. وفي رواية الطبري لا يتعلقون من الدين في شيء كما لا يتعلق بذلك السهم وإلى ذلك أشار بقوله في الرواية التاسعة عشرة. (سبق الفرث والدم) أي سبق السهم الدم وما في الكرش لسرعته، فجاوزهما ولم يتعلق فيه شيء منهما، بل خرجا بعده. (بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مختلطة بترابها، لم تميز بعد، وفي الرواية السابعة عشرة بذهبة في أديم مقروظ [أي جلد مدبوغ بالقرظ] لم تحصل من ترابها أي لم تخلص من ترابها. قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بذهبة. وفي رواية ابن ماهان بذهيبة على التصغير. (وزيد الخير الطائي) قال النووي: كذا هو في جميع النسخ الخير بالراء، وفي الرواية التي بعدها زيد الخيل باللام، وكلاهما صحيح، كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير. اهـ. (أتعطي صناديد نجد وتدعنا؟) أي سادات نجد، واحدها صنديد، بكسر الصاد. (فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس) في الرواية السابعة عشرة فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار. وفي ملحق الرواية ناتئ الجبهة، وفي الرواية التاسعة عشرة أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم. أما كث اللحية بفتح الكاف وتشديد الثاء فهو كثيرها وكثيفها، ومشرف الوجنتين أي مرتفع الخدين بارزهما، وغائر العينين غير مستوي العينين ولا بارزهما، بل هما داخلتان بشكل ظاهر، وناتئ الجبهة وناتئ الجبين وناشز الجبهة فهي قريبة، لأن الجبين جانب الجبهة. ولكل إنسان جبينان، يكتنفان الجبهة، والنتوء والنشوز هو البروز. أما ذو الخويصرة ففي رواية البخاري بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم جاءه عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي. قال الحافظ ابن حجر: قيل: هو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج. وقد اعتمد على ذلك ابن الأثير في الصحابة، وقد جاء أن حرقوصاً اسم ذي الثدية الآتي ذكره، وليس كذلك. وقد ذكر الطبري حرقوص بن زهير في الصحابة؛ وذكر أنه كان له في فتوح العراق أثر، وأنه الذي فتح سوق الأهواز، ثم كان مع علي في حروبه، ثم صار مع الخوارج، فقتل معهم. وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر: القصة التي في حديث جابر [روايتنا الخامسة عشرة] صرح في حديثه بأنها كانت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ثمان، وكان الذي قسمه النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فضة، كانت في ثوب بلال، وكان يعطي منها كل من جاء، والقصة التي في حديث أبي سعيد صرح فيها بأنها كانت بعد بعث علي إلى اليمن، وكان ذلك في سنة تسع، وكان المقسوم فيها ذهباً، وخص به أربعة أنفس. فهما قصتان في وقتين، اتفق في كل منهما إنكار القائل. وصرح في حديث أبي سعيد [روايتنا التاسعة عشرة] أنه ذو الخويصرة التميمي، ولم يسم القائل في حديث جابر، ووهم من سماه ذو الخويصرة ظاناً اتحاد القصتين، لكن أخرج أحمد والطبري: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بحنين، فقال: يا محمد.... فذكر الحديث، فيمكن أن يكون تكرر ذلك منه في الموضعين، عند قسمة غنائم حنين، وعند قسمة الذهب الذي بعثه علي. اهـ. (فمن يطع الله إن عصيته؟) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وقد سبق في الرواية الخامسة عشرة ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ وفي رواية العدل إذا لم يكن عندي فعند من يكون؟ وفي رواية عند من يلتمس العدل بعدي؟ وفي رواية والله لا ترون بعدي رجلاً هو أعدل عليكم مني. (أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟) في الرواية الرابعة عشرة ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟. (ثم أدبر الرجل) في الرواية السابعة عشرة ثم ولى الرجل. (فاستأذن رجل من القوم في قتله، يرون أنه خالد بن الوليد) يرون بضم الياء، والمفعول محذوف، والتقدير: يرونه، أي يظنونه خالد بن الوليد، وفي الرواية السابعة عشرة جزم بأنه خالد بن الوليد، وفي الرواية التاسعة عشرة أن قائل ذلك عمر بن الخطاب. قال الحافظ ابن حجر في وجه الجمع بينهما: أن كلاً منها سأل، واستدل برواية مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله. ألا أضرب عنقه؟ قال: لا . ثم أدبر، فقام خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله. أضرب عنقه؟ قال: لا. قال الحافظ: فهذا نص في أن كلاً منهما سأل، وهذا في حديث أبي سعيد وقسمة الذهب، أما حديث جابر [روايتنا الخامسة عشرة] فإنه في قصة قسم وقع بالجعرانة من غنائم حنين، والسائل في قتله عمر بن الخطاب، جزماً ثم قال: وقد استشكل سؤال خالد بن الوليد في ذلك، لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها، والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن، ويجاب بأن علياً لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة، فأرسل على الذهب، فحضر خالد قسمته. اهـ. (ثم نظر إليه وهو مقف) أي مدبر. قد أعطانا قفاه. (فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم) في الرواية السادسة عشرة إن من ضئضئ هذا قوماً وضئضئ الشيء -بكسر الضادين- أصله، قال النووي: وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وحكى القاضي عن بعضهم أنه ضبطه بالضادين والصادين جميعاً، وهذا صحيح في اللغة، قالوا: ولأصل الشيء أسماء كثيرة منها: الضئضئ بالضادين والصادين، والنجار بكسر النون، النحاس والسنخ بكسر السين وسكون النون، والعنصر، والغنض، والأرومة. اهـ. فالمعنى أن من ذرية هذا قوم، لكن في الرواية الخامسة عشرة إن هذا وأصحابه... ولا تعارض، فهو وأصحابه بصفة سيئة، يخرج من أصلابهم ذرية بالصفة السيئة نفسها أيضاً. وفي الرواية السادسة عشرة يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان أي يقاتلون المسلمين الحقيقيين ويقتلون منهم، ولا يقاتلون المشركين. (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد:) في الرواية السابعة عشرة قتل ثمود. والمراد قتل استئصال، لا أبقي منهم أحداً. لا يقال: إذا كان هذا الرجل منهم فقد أدركهم صلى الله عليه وسلم، فما معنى لئن أدركتهم لأقتلنهم؟ فإن المراد لئن أدركتهم مقاتلين أهل الإسلام لقاتلتهم وقتلتهم، أو المعنى لئن أدركت ذريته لأقتلنهم. (سألاه عن الحرورية هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ قال: لا أدري من الحرورية؟ ولكن سمعت.....) إلخ. الحرورية جماعة من الخوارج، تأتي قصتهم في فقه الحديث، نزلوا مكاناً يقال له: حروراء، بفتح الحاء وضم الراء الأولى، فنسبوا إليه، وهو قرية بالعراق، قريبة من الكوفة. قال الحافظ ابن حجر: قوله لا أدري من الحرورية يغاير قوله في حديث الباب [روايتنا التاسعة عشرة] وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فإن مقتضى الأول أنه لا يدري هل ورد الحديث الذي ساقه في الحرورية؟ أو لا ويقتضي الثاني أنه ورد فيهم، ويمكن الجمع بأن مراده بالنفي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصاً بلفظ الحرورية، وإنما سمع قصتهم التي دل وجود علامتهم في الحرورية بأنهم هم. اهـ. (يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم) لفظة من تقتضي كونهم من الأمة، وليسوا كفاراً، بخلاف لفظة في فيؤكد أبو سعيد أنه سمع لفظ في ولم يسمع لفظ من ليحكم عليهم بالكفر. لكن جاء من رواية علي [روايتنا السابعة والعشرين] يخرج قوم من أمتي... قال النووي: والخلاف في تكفيرهم واقع، والصحيح عدم تكفيرهم. اهـ. وجمع الحافظ ابن حجر بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدعوة. اهـ. والتحقيق أنه لا يستدل بلفظة في على تكفيرهم، ولا بلفظة من على عدم تكفيرهم فهم من الأمة قبل خروجهم بلا نزاع عملاً بالحكم الظاهر. وأما الخلاف فبعد خروجهم، وبعد أن اعتقدوا ما اعتقدوا. (قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم) تحقرون بفتح التاء، أي تستقلون صلاتكم إذا قارنتموها بصلاتهم، وفي الرواية التاسعة عشرة يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وفي الرواية السابعة والعشرين ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء وفي بعض الروايات تحقرون أعمالكم مع أعمالهم وفي بعضها يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة وفي بعضها يتعبدون يدأبون ويعملون حتى يعجبوا الناس، وتعجبهم أنفسهم وفي بعضها يتعمقون في الدين وفي حديث ابن عباس فأتيتهم، فدخلت على قوم لم أر أشد منهم اجتهاداً، أيديهم كأنها ثفن الإبل - يابسة من العمل وثفن الإبل ركبها وما يلاقي منها الأرض عند ركوبها، فتغلظ وتخشن- وجوههم معلمة من أثر السجود وفي الرواية الخامسة والعشرين يقولون من خير قول البرية وفي معناه قيل: إنه مقلوب، والمراد من قول خير البرية، وهو القرآن، وقيل: هو على ظاهره، والمراد القول الحسن في الظاهر دون الباطن، ففي رواية الطبراني يحسنون القول ويسيئون الفعل. فهذه الصفات في مجموعها تفيد أنهم كانوا يجتهدون في العبادة، ويكثرون من القراءة والتلاوة، ويظهرون بمظاهر الزهد والخشوع ويبالغون في ذلك لدرجة التنطع والتزمت والاستبداد في الرأي، وتأويل النصوص على غير المراد منها. (آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تتدردر) في الرواية السادسة والعشرين فيهم رجل مخدج اليد، أو مودن اليد، أو مثدون اليد وفي الرواية السابعة والعشرين وآية ذلك أن منهم رجلاً له عضد، وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض وفي الرواية الثامنة والعشرين منهم أسود، إحدى يديه طبي شاة، أو حلمة ثدي. عضد الإنسان: ما بين المرفق إلى الكتف، وذراع الإنسان من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. وحلمة الثدي: ما برز من رأس الثدي، ومنها يخرج اللبن. وطبي الشاة بضم الطاء وسكون الباء حلمة ثديها. ومجدع اليد: كما جاء في بعض الروايات -مقطوعها، ومخدج اليد ناقصها نقصاً خلقياً، يقال: خدج خداجاً نقص. ومودن اليد: قصيرها وناقصها، يقال: ولد مودن أي ناقص الخلقة. ومثدون اليد: ناقصها خلقياً. الهلبات: الشعرات الغلاظ الصلبة كشعر الذنب. البضعة تدردر: البضعة بضم الباء قطعة اللحم، وتدردر أصلها تتدردر، أي تتحرك، وتضطرب، وتهتز، وتذهب وتجيء. فالحديث يصف إحدى يدي الرجل الأسود بأن لها عضد، وليس لها ذراع، فهي تنتهي بالمرفقين، فهي يد ناقصة، قصيرة، وعضد هذه اليد منتفخة مثل ثدي المرأة، أو مثل قطعة اللحم التي تتحرك وتهتز وتذهب وتجيء بحركة صاحبها، كما يهتز ويتحرك ثدي المرأة بحركتها، ويعلو هذه العضد قطعة بارزة مثل حلمة الثدي، حول هذا البروز أو فيه شعرات بيض، أو سبع شعرات بيض غلاظ صلبة خشنة كشعر ذنب الخيل. هذه الأوصاف علامة للرجل، ووجود هذا الرجل في فئة محاربة علامة على أنها الفئة الضالة المارقة عن الدين. (يخرجون على حين فرقة من الناس) قال النووي: ضبطوه في الصحيح بوجهين، أحدهما على حين بحاء مكسورة ونون، وفرقة بضم الفاء أي في وقت افتراق الناس، أي افتراق يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، والثاني يخرجون على خير فرقة بالخاء والراء، وفرقة بكسر الفاء أي أفضل الفرقتين والأول أشهر وأكثر، ويؤيده الرواية التي بعد هذه يخرجون في فرقة من الناس فإنه بضم الفاء بلا خلاف، ومعناه ظاهر. وقال القاضي: على رواية الخاء المراد خير القرون، وهم الصدر الأول، قال: أو يكون المراد علياً وأصحابه، فعليه يكون خروجهم حقيقة، لأنه كان الإمام حينئذ. اهـ. وفي الرواية الحادية والعشرين تمرق مارقة عند فرقة المسلمين وفي الرواية الثانية والعشرين تكون في أمتي فرقتان، فتخرج من بينهما مارقة وفي الرواية الرابعة والعشرين يخرجون على فرقة مختلفة فهذه الروايات تفيد أن هذه الطائفة ستقاتل المسلمين في وقت يكونون فيه مختلفين متفرقين، لكن استشكل على الرواية الخامسة والعشرين قولها: (سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام) حيث أن خروج الحرورية وقتلهم على يد علي رضي الله عنه كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثمان وعشرين سنة، فالتعبير عن هذا التاريخ بأنه آخر الزمان مشكل. وأجاب ابن التين بأن المراد آخر زمان الصحابة. ورد الحافظ ابن حجر بأن آخر زمان الصحابة على رأس المائة، وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة. ثم قال: ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فإن في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعاً: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكاً. وقصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي، قبل الثلاثين بنحو السنتين. اهـ. وعندي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر في آخر الزمان، باعتباره خاتم الأنبياء، فالتعبير بآخر الزمان معناه في هذا الآخر من الزمان. والله أعلم. وأحداث الأسنان جمع حدث بفتح الحاء والدال، وهو صغير السن وفي بعض الروايات حداث الأسنان بغير همزة وضم الحاء، وتشديد الدال، ومعناه شباب جمع حديث السن، وفي بعض الروايات حدثاء بوزن سفهاء، وهو جمع حديث، والأسنان جمع سن، والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب، ومعنى سفهاء الأحلام ضعاف العقول، جمع حلم بكسر الحاء، والمراد به العقل. (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم يقل) أخر بكسر الخاء أي أسقط، زاد في رواية أخر من السماء إلى الأرض والمراد أنه إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكنى ولا يوارى، وإذا لم يحدث عنه كنى أو عرض أو ورى، ليخدع بذلك من يحاربه، واستدل بقوله: الحرب خدعة وهو حديث مرفوع، وخدعة بضم الخاء، وسكون الدال وفتحها، وفتح الخاء وسكون الدال. (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة) كذا في الرواية الخامسة والعشرين، وفي الرواية السادسة والعشرين لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى لولا أن تبطروا بفتح التاء وسكون الباء وفتح الطاء، أي لولا خشية أن تنكروا الخبر ولا تقبلوه لعظمه لأخبرتكم، أو المعنى لولا أن تغالوا في المرح والزهو لأخبرتكم. وفي الرواية السابعة والعشرين لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم [أي من الأجر] لاتكلوا عن العمل أي لاتكلوا على هذا الأجر ولم يعملوا، وفي هذا حث على قتالهم ووعد بالثواب العظيم. (فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟) كلام علي رضي الله عنه لجيشه على طريق الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي لا ينبغي ولا يصح أن يحصل ذلك، يقصد المبادرة بقتالهم قبل قتال معاوية وأهل الشام. (والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم) أي أن يكون الموصوفون في الحديث هؤلاء الحروريين. (فإنهم سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس) أي وخاضوا في أعراض الناس، أما سفكهم الدم الحرام فقد ذكر الحافظ ابن حجر حديثاً صحيحاً عن حميد بن هلال أنهم قتلوا عبد الله بن خباب ذبحوه، وبقروا بطن جاريته وهي حبلى، بدون ذنب، وكان والياً لعلي على بعض تلك البلاد، فأرسل إليهم علي: أفيدونا بقاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله. فأرسل إليهم رسله يناشدهم أن يفيئوا، فقتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم. (إي ورب الكعبة) إي بكسر الهمزة، حرف جواب بمعنى. نعم. وكرر القسم ثلاثاً لتأكيد الخبر. (فنزلني زيد بن وهب منزلاً، حتى قال: مررنا على قنطرة) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ منزلاً مرة واحدة، وفي نادر منها منزلاً. منزلاً مرتين أي حكى لي مراحل حركة جيش علي مكاناً مكاناً ومرحلة مرحلة، حتى قال: وصلنا قنطرة، وهي قنطرة الديرجان، كما جاء في سنن النسائي وهناك خطبهم علي رضي الله عنه. (وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي) أي وقائدهم. والخوارج جمع خارجة، أي طائفة خارجة، قيل: سموا بالخوارج لخروجهم عن الدين، أو خروجهم عن خيار المسلمين. (فقال لهم: ألقوا الرماح، وسلوا السيوف من جفونها) أي قال لهم قائدهم ذلك، لتبدأ المعركة بالوطيس الحامي، بالسيوف، لا بالرماح، فألقوا رماحهم بعيداً، وأخرجوا السيوف من أغمادها. (فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء) أي فإني أخاف أن يذكروكم الله والرحم ويستعطفوكم فيخدعوكم، فتتركوا قتالهم، وتتراجعوا كما حدث يوم حروراء، ويوم حروراء الذي يشير إليه -وكان يقودهم عبد الله بن الكواء اليشكري- أرسل إليهم علي عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع كثير معه، ثم خرج إليهم علي، فناوشهم، وناقشهم، فأطاعوه، ودخلوا معه الكوفة. وسيأتي تفصيل القصة في فقه الحديث. (فوحشوا برماحهم) أي ألقوا بها بعيداً عنهم، يقال: وحش فلان بثوبه أو سلاحه. بفتح الواو وتشديد الحاء وتخفيفها، إذا رمى به. (وشجرهم الناس برماحهم) المراد من الناس المسلمون جيش علي رضي الله عنه، أي طاعنهم المسلمون برماحهم، ومدوها إليهم، وكان هذا السلاح سبباً في الغلبة، حيث يقتل الرمح قبل وصول السيف، يقال: شجره إذا نازعه، ومنه التشاجر في الخصومة. (وقتل بعضهم على بعض) أي قتلوا وتكدست القتلى طبقات، بعضهم فوق بعض لكثرتهم. (وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان) أي قتل الخوارج وكانوا بضعة آلاف، ولم يقتل من أصحاب علي سوى رجلين، قيل: لم ينج منهم عشرة، ولم يصب من جيش علي رضي الله عنه عشرة. (فقال علي رضي الله عنه التمسوا فيهم المخدج) أي ناقص اليد، وفي بعض الروايات المخرج بالراء بدل الدال أي منزوع اليد، مفصول الذراع. (فالتمسوه فلم يجدوه فقام علي....فوجده مما يلي الأرض) في الرواية التاسعة عشرة فالتمس فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت وفي الرواية الثامنة والعشرين فلما قتلهم علي قال: انظروا [أي التمسوا المخدج] فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا..ثم وجدوه في خربة، فأتوا به فوضعوه بين يديه وفي رواية فالتمسه علي فلم يجده، ثم وجده بعد ذلك تحت جدار علي هذا النعت وفي رواية الطبري فقال علي اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه....فطلبوه، فوجدوه في وهدة من الأرض، عليه ناس من القتلى، ولا تنافي بين الروايات فمجموعها يفيد أن علياً رضي الله عنه طلب منهم أن يبحثوا عن المخدج في القتلى، فلم يجدوه في البحث السطحي الأول، فهو واحد بين أربعة أو ستة آلاف قتيل، تكدس بعضهم على بعض، ولثقة علي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصر على وجوده، وقام معهم بنفسه يبحث، وأخذوا يجولون طبقات القتلى وينظرون في الطبقات السفلى، فكان فوقه قتيلان في أرض منخفضة في خربة، في أحضان جدار، فجاءوا به يسحبونه إلى مقر القيادة ليراه الناس، فيثقوا أنهم على الحق، وأن من قتلوا كانوا على الباطل، ويزدادوا يقيناً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام هذه المعاينة كان أبو سعيد الخدري، الذي سمع أوصاف المخدج من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحلف ويقول: أشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأتي به، ونظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. (كلمة حق أريد بها باطل) لا حكم إلا لله، وفي القرآن {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] كلمة حق، وكل حاكم بالحق فحكمه من الله ولله، فإذا أريد اتهام الحاكم بالانحراف قيل له: لا حكم إلا لله، يعرض ببطلان حكمه، وكانوا يكفرون علياً بقبوله التحكيم، كما سيأتي في فقه الحديث. (يتيه قوم قبل المشرق) يقال: تاه يتوه ويتيه إذا ضل، أي يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحق. فقه الحديث تتناول هذه الأحاديث موضوعين أساسيين: إعطاء المؤلفة قلوبهم، والتحريض على قتل الخوارج. ولأدنى مناسبة نظم الإمام مسلم أحاديث المؤلفة قلوبهم مع أحاديث الزكاة، ربما لأنها تشتمل على سؤال العطاء، أو الحرص عليه، وربما لأن للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة يشبه نصيبهم من الفيء، فساق أحاديثهم في الفيء، ولم يصح عنده حديث لهم في الزكاة. ولضعف المناسبة وجدنا الإمام البخاري لا يذكر هذه الأحاديث في كتاب الزكاة، وإنما يذكرها في كتاب فرض الخمس، باب قسمة الإمام. أما الموضوع الثاني فيكاد يكون استطراداً عن الموضوع الأول، لأدنى ملابسة، وهي أن رأساً من رءوس الخوارج اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء بين أربعة من المؤلفة قلوبهم. ولضعف هذه الملابسة وجدنا الإمام البخاري يذكر هذه الأحاديث في كتاب اشتباه المرتدين، باب قتال الخوارج والملحدين. وسنعتبر الأحاديث من رقم (1) إلى نهاية رقم (14) خاصة بالموضوع الأول، والأحاديث من رقم (15) إلى النهاية خاصة بالموضوع الثاني والله الموفق. إعطاء المؤلفة قلوبهم المسألة الأساسية في المجموعة الأولى من الأحاديث إعطاء المؤلفة قلوبهم، وهل كان يعطيهم صلى الله عليه وسلم من أصل الغنيمة؟ أو من الخمس؟. والأحاديث الخمسة الأولى لا توهم العطاء من أصل الغنيمة، فلا إشكال بالنسبة لها، وإنما الإشكال في إعطائه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن. فقال القرطبي في المفهم: الإجراء على أصول الشريعة أن العطاء المذكور كان من الخمس، ومنه كان أكثر عطاياه، وقد قال للأعرابي في هذه الغزوة: ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس مردود فيكم، أخرجه أبو داود والنسائي. والذي رجحه القرطبي جزم به الواقدي. ويذهب الطبري هذا المذهب فيقول: استدل بهذه الأحاديث من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي من أصل الغنيمة لغير المقاتلين، قال: وهو مردود، بدليل القرآن والآثار الثابتة. ويميل القاضي عياض إلى هذا فيقول: ليس في هذه الأحاديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل إخراج الخمس، وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس، قال: والمعروف في باقي الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس، ففيه أن للإمام صرف الخمس، وتفضيل الناس فيه، على ما يراه، وأن يعطي الواحد منه الكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين، وله أن يعطي الغني منه لمصلحة. اهـ كذلك اختار أبو عبيد أنه كان من الخمس. فهذا الفريق يرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن كان من الخمس، ودليله تطبيق أصول الشريعة، وإجراء ما حصل على قواعدها، وتأويل أو توجيه ما يوهم غير ذلك مما ورد في أحاديثها. والجمهور على أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من غنائم هوازن خاصة كان من أصل الغنيمة، لأن النصوص الثابتة في الأحاديث ظاهرة في هذا ومن الصعب تأويلها، وفي حملها على غير ظاهرها تمحل وتعسف. أولاً: لأن الأنصار يعلمون أن الخمس لله ورسوله، فلو أن الإعطاء كان من الخمس لما اعترضوا، ولما غضبوا هذه الغضبة التي وافقهم عليها رؤساؤهم. ثانياً: جمع الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وخطابته فيهم، والاعتذار إليهم بما اعتذر، ولو أن الإعطاء كان من الخمس لذكرهم بحقه، ولم يكن هناك حاجة إلى الترضية والاعتذار. ثالثاً: قول الأنصار في الرواية الثامنة: إن هذا لهو العجب. إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا ترد عليهم. وقولهم في الرواية التاسعة: إذا كانت الشدة فنحن ندعى لها، وتعطي الغنائم غيرنا. واضح وصريح في أنهم يعتبرون ما أعطى للمؤلفة غنائم لهم، وليس الخمس الذي هو من حق الرسول صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أصرح من هذا ما جاء في الرواية التاسعة من قول أنس: فانهزم المشركون، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً. خامساً: لو أن الأنصار أخذوا من الغنيمة شيئاً لرجعوا بالشاة والبعير وما قيل لهم: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون. أمام هذه النصوص ذهب الجمهور إلى أن الإعطاء من الغنيمة خاص بهذه الواقعة لأحد أمرين: إما مراعاة لمصلحة أهم، وإما لسبب خاص في هذه الغنيمة، عن الأمر الثاني يقول الحافظ ابن حجر: وقيل: إنما كان تصرف في الغنيمة لأن الأنصار كانوا انهزموا، فلم يرجعوا حتى وقعت الهزيمة على الكفار، فرد الله أمر الغنيمة لنبيه صلى الله عليه وسلم. اهـ. والمحقق في سير المعركة يرى أن أساس النصر فيها كان ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الكثرة لم تغن شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين، فأساس النصر ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26] فكانت الغنائم حقاً لله ورسوله، وإذا كان لم يستخدم هذا الحق في الانتصارات السابقة التي تدخلت فيها الملائكة فلا يلزم ألا يستخدمه هنا لمصلحة أهم. وعن الأمر الثاني يطنب ابن القيم، فيقول: اقتضت حكمة الله أن فتح مكة كان سبباً لدخول كثير من قبائل العرب في الإسلام، وكانوا يقولون: دعوه وقومه، فإن غلبهم دخلنا في دينه، وإن غلبوه كفونا أمره. فلما فتح الله عليه استمر بعضهم في ضلاله، فجمعوا له، وتأهبوا لحربه، وكان من الحكمة في ذلك أن يظهر أن النصر لله ورسوله، لا بكثرة من دخل في دينه من القبائل ولا بانكفاف قومه عن قتاله. ثم لما قدر الله عليه من غلبته إياهم قدر وقوع هزيمة المسلمين مع كثرة عددهم وقوة عدتهم، ليتبين لهم أن النصر الحق إنما هو من عنده، لا بقوتهم، ولو قدر أن يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظماً فقدر هزيمتهم، ثم أعقبهم النصر، ليدخلوا مكة كما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح متواضعاً متخشعاً، واقتضت حكمته أيضاً أن غنائم الكفار لما حصلت ثم قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه لما بقي فيه من الطبع البشري في محبة المال، فقسمه فيهم لتطمئن قلوبهم، وتجتمع على محبته، لأنها جبلت على حب من أحن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصوراً عليهم، بخلاف قسمته على المؤلفة، لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سبباً لدخولهم في الإسلام وسبباً لتقوية قلب من دخل فيه، كان في ذلك عظيم المصلحة. ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلاً ولا كثيراً مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه، فحرك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى رئيسهم أن يخرجوا معهم أموالهم ونساءهم، فكان ذلك سبباً لتصير غنيمة للمسلمين. ثم اقتضت تلك الحكمة أن تقسم الغنائم في المؤلفة، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف رد من سبي من نسائهم وذراريهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام، فدخلوا طائعين راغبين وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة عما حصل لهم من الكسر والرعب، فصرف عنهم شر من كان يجاورهم من أشد العرب، من هوازن وثقيف بما دفع بهم من الكسرة، وبما قيض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها وكثرتها، وأما الأنصار فبالاعتذار لهم، وتوضيح الحكمة لكبرائهم شرح الله صدورهم، ورجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم ومجاورته لهم حياً وميتاً، وهذا دأب الحكيم، يعطي كل أحد ما يناسبه. انتهى ملخصاً. ما يؤخذ من الأحاديث:

    1- ويؤخذ من الحديث الأول مداراة أهل الجهالة والقسوة، وتألفهم إذا كان فيه مصلحة.

    2- وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة.

    3- واستحباب اتقاء الاتهام بالبخل، وإن كان ظاهر الكرم.
    4- تنبيه الكبير إلى ما يعتقد أنه خير.
    5- توضيح المعلم للمتعلم حكمة التصرف، وإن كان في ذلك كشف لبعض الأستار.
    6- ومن الحديث الثاني احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، والتجاوز عن جفاء الجفاة.
    7- ودفع السيئة بالحسنة.
    8- وإعطاء المؤلفة قلوبهم.
    9- والعفو عمن ارتكب كبيرة لا حد فيها بجهله. 10- وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة. 1

    1- وبيان حلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، وخلقه الجميل من الصفح والإغضاء. 1

    2- ومن الحديث الثالث استئلاف أهل اللسان ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب، ففي بعض روايات الصحيح وكان في خلقه شدة. 1

    3- وفيه الاكتفاء في الهبة بالقبض. 1
    4- واستدل به على جواز شهادة الأعمى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة، فاعتمد به على معرفته وخرج إليه معه القباء الذي خبأ له. 1
    5- واستنبط منه بعض المالكية جواز الشهادة على الخط، وتعقب بأن الخطوط تشتبه أكثر ما تشتبه الأصوات. 1
    6- وفيه رد على من زعم أن المسور لا صحبة له. 1
    7- ومن الحديث الخامس الفرق بين الإيمان والإسلام، وليس فيه إنكار كونه مؤمناً، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان، وأن لفظ الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر وأما الإيمان فباطن، لا يعلمه إلا الله تعالى. قال النووي: وقد زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل لم يكن مؤمناً، وليس كما زعم، بل فيه إشارة إلى الإيمان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب سعد: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه ومعناه أعطي من أخاف عليه لضعف إيمانه أن يكفر، وأدع غيره ممن هو أحب إلي منه، لما أعلمه من طمأنينة قلبه، وصلابة إيمانه. 1
    8- وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافاً للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهر يرده إجماع المسلمين والنصوص في إكفار المنافقين، وهذه صفتهم. 1
    9- وفيه الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما ليس بمحرم. 20- وفيه مراجعة المسئول في الأمر الواحد. 2

    1- وفيه تنبيه المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة. 2

    2- وفيه أن الفاضل لا يقبل ما يشار عليه به مطلقاً، بل يتأمله. ذكره النووي، وقال: فإن لم تظهر مصلحته لم يعمل به. 2

    3- وفيه الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه. 2
    4- وفيه أن الإمام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم. 2
    5- وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم. وهذا مجمع عليه عند أهل السنة. 2
    6- وفيه جواز الأمر إلى أحد الحاضرين لمصلحة، وليس من المناجاة الممنوعة، لوجود أكثر من واحد. قال النووي: وفيه التأدب مع الكبار، وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه، ولا يجاهرون به، فقد يكون في المجاهرة به مفسدة. 2
    7- ومن الحديث السادس إلى الرابع عشر حسن أدب الأنصار، فحين غضبوا قالوا: يغفر الله لرسول الله. 2
    8- وحين سئلوا تركوا المماراة والجدل والتمسك بحقهم. 2
    9- وحسن اعتذارهم عما بدر، إذ بينوا أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبابهم، لا عن شيوخهم أو ساداتهم ورجالاتهم. 30- وإقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه. 3

    1- وأن الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق. 3

    2- وفيها المعاتبة، واستعطاف المعاتب، وإزالة عتبه برفق. 3

    3- والاعتذار والاعتراف. 3
    4- وأن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء. 3
    5- وأن له أن يعطي الغني للمصلحة. 3
    6- وأن من طلب حقه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك. 3
    7- ومشروعية الخطبة عند حدوث أمر سواء أكان خاصاً أم عاماً. 3
    8- وجواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة. 3
    9- وتسلية من فاته شيء من الدنيا بما سيحصل له من ثواب في الآخرة. 40- والحض على طلب الهداية والألفة. 4

    1- وأن المنة على الإنسانية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. 4

    2- وتقديم جانب الآخرة على الدنيا. 4

    3- والصبر عما فات منها رجاء ادخاره في الآخرة. 4
    4- وفيها مناقب عظيمة للأنصار، لما جاء من ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم. 4
    5- وفيها علم من أعلام النبوة قوله: ستلقون بعدي أثرة. 4
    6- وبقوله في الرواية السابعة: إن ابن أخت القوم منهم. استدل من يورث ذوي الأرحام، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وآخرين، ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي التوريث، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطاً وقرابة، ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرهم بحضرته، ونحو ذلك. ذكره النووي. 4
    7- ومن الرواية التاسعة أن النصر من الله، وأن الكثرة في العدد والعدة قد لا تغني شيئاً. 4
    8- والحث على عدم الاغترار بالقوة والعدد. 4
    9- وفيه شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم ورباطة جأشه وثقته بربه. 50- وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقناً النصر، لوعد الله تعالى له بذلك، وهو حق، لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه، آخذ بلجام بغلته، وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد في تلك الحالة أيمن بن أم أيمن. اهـ. 5

    1- وفيها فرار الصحابة في المعركة لعذر، قال الطبري: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة. 5

    2- ومن إكمال المائة لعباس بن مرداس اتقاء اللسان وحماية العرض وتأليف ضعيف الإيمان. 5

    3- ومن الرواية الثانية عشرة وقبلها السادسة إثبات الحوض في الآخرة. 5
    4- ومن الرواية الثالثة عشرة جواز النقل على وجه النصيحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه. قال الحافظ ابن حجر: إن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، أما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق، ويجتنب الأذى فلا. 5
    5- وحلمه صلى الله عليه وسلم وصبره وتأسيه بموسى عليه السلام، امتثالاً لقول الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]. الخوارج والحض على قتالهم هذا هو الموضوع الثاني: وتتناوله الأحاديث من رقم (15) من هذه المجموعة. والمسألة الأساسية فيها: نشأة الخوارج، وفرقهم، ومعتقداتهم، وما آل إليه أمرهم، وحكم علماء المسلمين فيهم، ثم نذكر ما يؤخذ من الأحاديث من أحكام أخرى. يقول الحافظ ابن حجر: أصل الخوارج أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان؛ بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرءون منه، وكان يقال لهم: القراء. لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي، واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي، وكفر من قاتله من أهل الجمل، ولما خرج علي من الكوفة لقتال أهل الشام خرجوا مع علي، وحاربوا بصفين معه، فلما كاد أهل الشام أن ينهزموا رفعوا المصاحف على الرماح، ونادوا: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، فترك جمع كثير ممن كان مع علي -وخصوصاً هؤلاء القراء- القتال بسبب ذلك تديناً، واحتجوا بقوله تعالى: {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} [آل عمران: 23] فلما اتفق أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وكتبوا في ذلك كتاباً كتب فيه: هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية امتنع أهل الشام من ذلك، وقالوا: اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك [تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية] أنكر الخوارج على علي أمرين: الأول: أنه خلع ثوب الإمارة. الثاني: أنه قبل التحكيم، فعند أحمد أنهم قالوا له: انسلخت من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به ثم حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله. ولما رجع علي بجيشه إلى الكوفة انتظاراً لحكم المحكمين فارقه هؤلاء القراء، وخرجوا إلى مكان يقال له: حروراء، ومن ثم قيل لهم: الحرورية. وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء اليشكري، وشبث [بفتح الشين والباء بعدها ثاء] التميمي، فأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فناشدهم فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران. لكنهم أشاعوا في الكوفة أن علياً تاب من قبوله التحكيم، ولذلك رجعوا معه، وجاء رجل إلى علي فقال: إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله. فقال لهم علي: كلمة حق يراد بها باطل [إذ كانوا يقصدون رفض التحكيم، والانخلاع من حكم علي] فقال لهم علي: لكم علينا ثلاثة: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم في الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً. لكنهم خرجوا من الكوفة متسربين شيئاً بعد شيء حتى اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم علي يطلب منهم الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر، لرضاه بالتحكيم، ويتوب. ثم قرروا إرغام الناس على عقيدتهم، وقرروا أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى تنفيذ القرار، فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان والياً لعلي على بعض البلاد ومعه سرية وهي حامل، فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فأرسل إليهم علي رسولاً يطلب منهم تحديد قاتل ابن خباب، فقتلوا رسوله، وقالوا: كلنا قتلناه، فخرج إليهم علي بالجيش الذي كان قد هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة. هذا هو الميدان الذي تتحدث عنه أحاديث الباب. أما بقية أمرهم فإن من بقي منهم أخذ يدعو للعقيدة، وأخذ ينضم إليه سراً من ينضم، ولم يظهر أحد منهم في خلافة علي، إلى أن قتل علي بعد أن دخل في صلاة الصبح على يد رجل منهم هو عبد الرحمن بن ملجم. ثم لما وقع الصلح بين الحسن ومعاوية ظهرت فرقة منهم، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له: النجيلة، ثم عملوا لدعوتهم في الخفاء في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة حكم معاوية وابنه يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق، وولي الخلافة عبد الله بن الزبير. ظهر الخوارج بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على عقيدتهم أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقاً، وفتكوا بمن ينسب إلى الإسلام قتلاً وسبياً ونهباً. فمنهم من يفعل ذلك مطلقاً بغير دعوة منهم ومنهم من يدعو أولاً، ثم يفتك. ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة بقتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم، وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية ودخلت طائفة منهم المغرب [ومازال حتى اليوم من يعتقد عقيدتهم]. ثم قال: وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف -بكسر الميم وسكون الخاء وفتح النون بعدها فاء- كتاباً لخصه الطبري في تاريخه، وصنف في أخبارهم أيضاً الهيثم بن عدي كتاباً، ومحمد بن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري كتاباً كبيراً، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه الكامل. ثم قال: قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار. والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. وقال ابن حزم: ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى من أتى صغيرة عذب بغير النار، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد، فأنكر الصلوات الخمس، وقال: الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال: لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله، ولو اعتقد الكفر بقلبه. وقال أبو منصور البغدادي في المقالات: عدة فرق الخوارج عشرون فرقة. وقال ابن حزم: أسوؤهم حالاً الغلاة المذكورون، وأقربهم إلى أهل الحق الأباضية. أما عن حكم العلماء على الخوارج فقد قال الغزالي في الوسيط تبعاً لغيره في حكم الخوارج وجهان: أحدهما: أنه كحكم أهل الردة. الثاني: أنه كحكم أهل البغي. ورجح الرافعي الأول. قال الحافظ ابن حجر: وليس الذي قاله مطرداً في كل خارجي، فإنهم على قسمين، أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك، لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضاً: قسم خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية، فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط، سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة. اهـ. والحق أن لفظ: طائفة خارجة وخوارج في أصل اللغة يعم من ذكرهم الحافظ ابن حجر وغيرهم، إلى أكثر من عشرين فرقة، فينبغي أن يرتبط الحكم على كل فرقة بما هي عليه، من حيث العقيدة، ومن حيث العمل، فمن أنكر شيئاً علم من الدين بالضرورة، ولو لم يخرج على الحاكم حكم عليه بالردة، ومن خرج على الإمام بشبهة أو بدون شبهة لمنازعة الحكم فهم بغاة، ولو لم ينكروا ما علم من الدين بالضرورة، وقد حفظ القرآن لهم وصف المؤمنين حين قال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9]. والذي أميل إليه أن الخوارج الموصوفين في أحاديث الباب مرتدون، وإن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبالغوا في العبادة والزهد وقراءة القرآن، فالرواية السابعة عشر تقول: قوم يتلون كتاب الله رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود. وفي الرواية الثامنة والتاسعة عشرة: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم -أو حلوقهم- أو تراقيهم، يمرقون من الدين -أو من الإسلام- كما يمرق السهم من الرمية. وفي الرواية السابعة والعشرين: يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم. وفي الرواية الخامسة والعشرين: فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة. وفي الرواية التاسعة والعشرين: يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة. فهذه الأحاديث تصرح بكفرهم وارتدادهم، وتحث على قتالهم وقتلهم، أما كون الذين قاتلهم وقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم المقصودين بالحديث فموضوع آخر، وحتى مع آية المخدج فإن الحكم يعم كل من على شاكلتهم، ووجود المخدج ضمن طائفة ليس علامة على أنهم كذلك، فقد كان في جيش علي رضي الله عنه وحارب معه في الجمل وصفين. إنما العلامة قتله فيهم -كما هو واضح من الرواية السابعة والعشرين والثامنة والعشرين، وأساس الحكم عقيدتهم وأعمالهم. وقد ضرب العلماء بسهم وافر في هذه المسألة، حتى قال القاضي عياض: كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً عند المتكلمين من غيرها، حتى توقف بعض الفضلاء فيها، واعتذر بعضهم بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها أمر عظيم في الدين واعتذر آخرون بأن هؤلاء القوم لم يصرحوا بالكفر، وإنما قالوا أقوالاً لا تؤدي إلى الكفر. وقال الغزالي في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة: والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد. وقد استعرض الحافظ ابن حجر كثيراً من آراء العلماء المكفرين لهم وغير المكفرين، نوردها بتصرف: أقوال غير المكفرين: (أ) قال الحافظ ابن حجر: ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجرى لهم، لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا لتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد، وجرهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك. (ب) وقال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام. (ج) وقال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين، لقوله [في روايتنا الثامنة عشرة]: فيتمارى في الفوقة، هل علق بها من الدم شيء. لأن التماري من الشك، وإذ وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين. قال: وقد سئل علي عن أهل النهر: هل كفروا؟ فقال: من الكفر فروا -قال الحافظ ابن حجر: وهذا إن ثبت عن علي حمل على أنه لم يكن اطلع على معتقدهم الذي أوجب تكفيرهم عند من كفرهم، ثم قال: وفي احتجاجه بقوله يتمارى في الفوق نظر، فإن في بعض الروايات [روايتنا العشرين] وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة وفي بعضها [روايتنا التاسعة عشرة]: سبق الفرث والدم. قال: وطريق الجمع بينهما أنه تردد هل في الفوق شيء أو لا؟ ثم تحقق أنه لم يعلق به بالسهم ولا بشيء منه من المرمي شيء، ويمكن أن يحمل الاختلاف فيه على اختلاف أشخاص منهم، ويقول في قوله: يتمارى إشارة إلى بعضهم قد يبقى معه من الإسلام شيء. (د) وقال القرطبي في المفهم: والقول بتكفيرهم أظهر في الحديث. ثم قال: وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئاً. أقوال المكفرين: (أ) قال الحافظ ابن حجر: استدل بالأحاديث من قال بتكفير الخوارج، وهو مقتضى صنيع البخاري، حيث قرنهم بالملحدين [إذ قال في الترجمة: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم] وأفرد عنهم المتأولين بترجمة. (ب) صرح القاضي ابن العربي في شرح الترمذي، فقال: الصحيح أنهم كفار، لقوله صلى الله عليه وسلم: يمرقون من الإسلام ولقوله: لأقتلنهم قتل عاد وفي لفظ: ثمود وكل منهما إنما هلك بالكفر، ولقوله: هم شر الخلق ولا يوصف بذلك إلا الكفار، ولحكمهم على كل من خالف معتقدهم بالكفر والتخليد في النار، فكانوا هم أحق بالاسم منهم. (جـ) قال الشيخ تقي الدين السبكي في فتاويه: احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة، لتضمنه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنة. قال: وهو عندي احتجاج صحيح، لأنا نعلم تزكية من كفروه علماً قطعياً إلى حين موته، وذلك كاف في اعتقادنا تكفير من كفرهم وفي الحديث الصحيح: من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما. وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطع بإيمانهم، فيجب أن يحكم بكفرهم بمقتضى خبر الشارع، وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ممن لا تصريح بالجحود فيه، بعد أن فسروا الكفر بالجحود، ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالاً، والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم، كما لا ينجي الساجد لصنم ذلك. (د) وقال الطبري في تهذيبه: في الأحاديث رد على قول من قال: لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً. فإنه باطل لقوله: يقرءون القرآن ويمرقون من الإسلام، ولا يتعلقون منه بشيء ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آيات القرآن على غير المراد منه، ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع حديث ابن مسعود: لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وفيه: التارك لدينه المفارق للجماعة. فهذه ثلاثة مذاهب في الحكم على الخوارج المذكورين في أحاديث الباب ومن على شاكلتهم، مذهب يكفرهم، ومذهب يفسقهم ولا يكفرهم، ومذهب يتوقف ولا يحكم بهذا ولا بذاك. قال القرطبي في المفهم: فعلى القول بتكفيرهم يقاتلون، ويقتلون، وتسبى أموالهم، وعلى القول بعدم تكفيرهم يسلك بهم مسلك أهل البغي، إذا شقوا العصا، ونصبوا الحرب، فأما من استسر منهم ببدعة، فإذا ظهر عليه وغلب هل يقتل مع الاستتابة؟ أو لا يقتل؟ بل يجتهد في رد بدعته؟ اختلف فيه بحسب الاختلاف في تكفيرهم. اهـ. وقال القاضي: أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأي الجماعة، وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم، لكن لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يقاتلون، بل يوعظون ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يكفروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يكفرون بها جرت عليهم أحكام المرتدين، وأما البغاة الذين لا يكفرون فيرثون ويورثون، ودمهم في حال القتال هدر، وكذا أموالهم التي تتلف في القتال، والأصح أنهم لا يضمنون أيضاً ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال، وما أتلفوه من نفس ومال في غير حال القتال يضمنوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا وعند الجمهور، وجوزه أبو حنيفة. والله أعلم. ويؤخذ من مجموعة هذه الأحاديث فوق ما تقدم:

    1- في قوله في الحديث الخامس عشر: إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم جواز ترك قتال الخوارج على أنهم من المؤلفة قلوبهم. قال العلماء: وهذا إذا لم يظهروا رأيهم، وينصبوا للناس القتال، فإن فعلوا وجب قتالهم، وعدم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا وأصحابه لأنهم لم يظهروا ما وراءهم، فلو قتل ظاهر الصلاح عند الناس قبل استحكام الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام. نعم لو اعتقدت فرقة مذهب الخوارج مثلاً، ولم ينصبوا حرباً جاز للإمام الإعراض عنهم إذا رأى المصلحة في ذلك. وقال ابن بطال نقلاً عن المهلب: التألف إنما كان في أول الإسلام، إذ كانت الحاجة ماسة لذلك، لدفع مضرتهم، فأما إذا أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف، إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك، فلإمام الوقت ذلك. وحكى الطبري الإجماع على الكف عن قتل من يعتقد الخروج على الإمام ما لم ينصب لذلك حرباً، أو يستعد لذلك، وقال: بشرط أن لا يكفر باعتقاده، وأسند إلى عمر بن عبد العزيز أنه كتب في الخوارج بالكف عنهم ما لم يسفكوا دماً حراماً، أو يأخذوا مالاً، فإن فعلوا فقاتلوهم، ولو كانوا ولدي. ومن طريق ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما يحل في قتال الخوارج؟ قال: إذا قطعوا السبيل، وأخافوا الآمن.

    2- وفي الأحاديث أنه لا يجوز قتال الخوارج وقتلهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، بدعائهم إلى الرجوع إلى الحق. ذكره الحافظ ابن حجر.

    3- قال الحافظ ابن حجر: وفي الأحاديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع. وذلك أن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة، فقالوا: نفى لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين.
    4- خطورة الجهل بالدين والاستبداد بالرأي.
    5- قال ابن هبيرة: وفي الأحاديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفي قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى.
    6- قال الحافظ ابن حجر: وفيها التحذير من الغلو في الديانة والتنطع في العبادة، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سمحة، وإنما ندب الشدة على الكفار، والرأفة بالمؤمنين.
    7- وجواز قتال من خرج عن طاعة الإمام العادل.
    8- ومن نصب الحرب فقاتل عن اعتقاد فاسد.
    9- ومن خرج يقطع الطرق ويخيف السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد. قال الحافظ: وأما من خرج عن طاعة إمام جائر، أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته. 10- وأخذ بعضهم من قوله: سيماهم التحالق في الرواية المتممة للعشرين، ذم استئصال شعر الرأس، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بيان صفتهم الواقعة، دون إرادة ذمها، قال النووي: واستدل بعض الناس على كراهة حلق الرأس بهذا الحديث، ولا دلالة فيه، وإنما هو علامة لهم والعلامة قد تكون بمباح، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، فقال: احلقوه كله أو اتركوه كله. وهذا صريح في إباحة حلق الرأس، لا يحتمل تأويلاً. قال أصحابنا: حلق الرأس جائز بكل حال، لكن إن شق عليه تعهده بالدهن والتسريح استحب له حلقه، وإن لم يشق استحب تركه. اهـ. 1

    1- وفيها أنه لا يكتفى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يختبر باطن حاله. قاله الحافظ. 1

    2- وفيها منقبة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأنه كان الإمام الحق وأنه كان على الصواب في قتال من قاتله في حروبه في الجمل وصفين وغيرهما. قاله الحافظ. 1

    3- وفي استحلاف عبيدة السلماني لعلي في الرواية السابعة والعشرين التثبت من الأمر الغريب، لتأكيده عند السامعين، وليطمئن قلب المستحلف. 1
    4- وحلف المستحلف لتحقيق تلك الغاية المشروعة. 1
    5- ووثوق علي رضي الله عنه من ذاكرته وحفظه لأوصاف المخدج، وعند الطبري أن علي بن أبي طالب قال لأصحابه بعد المعركة: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عنده إلا عائشة، فقال: كيف أنت وقوم يخرجون من قبل المشرق، وفيهم رجل كأن يده ثدي حبشية؟ قال علي: ناشدتكم الله هل أخبرتكم بأنه فيهم؟ قالوا: نعم، قال: فجئتموني؛ فقلتم، ليس فيهم، فحلفت لكم أنه فيهم، ثم أتيتموني به تسحبونه كما نعت لي؟ فقالوا: اللهم نعم. فهلل علي وكبر. 1
    6- قال النووي عند شرحه للرواية الخامسة والعشرين من قوله: أحداث الأسنان: سفهاء الأحلام. يستفاد أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب، وقوة العقل. قال الحافظ ابن حجر: ولم يظهر لي وجه الأخذ منه، فإن هذا معلوم بالعادة، لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة. اهـ. والله أعلم

    حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ، زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أَقْبِيَةٌ فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَى أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا ‏.‏ قَالَ فَقَامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ فَتَكَلَّمَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ وَهُوَ يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ وَهُوَ يَقُولُ ‏ "‏ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ خَبَأْتُ هَذَا لَكَ ‏"‏ ‏.‏

    Miswar b. Makhrama reported:Some cloaks were presented to the Messenger of Allah (ﷺ). My father Makhrama said to me: Come along with me to him; perhaps we may be able to get anything out of that (stock of cloaks). My father stood at the door and began to talk. The Apostle of Allah (ﷺ) recognised him by his voice and came out and there was a cloak with him, and he was showing its beauties and saying: I kept it for you, I kept it for you

    Telah menceritakan kepada kami [Abul Khaththab Ziyad bin Yahya Al Hassani] telah menceritakan kepada kami [Hatim bin Wardan Abu Shalih] telah menceritakan kepada kami [Ayyub Asy Syakhtiyan] dari [Abdullah bin Abu Mulaikah] dari [Al Miswar bin Makhramah] ia berkata; Nabi shallallahu 'alaihi wasallam menerima beberapa pakaian (sejenis jaket), maka ayahku pun berkata, "Marilah kita pergi kepada beliau, mudah-mudahan ada pembagian untuk kita." Setibanya di sana, ayahku berdiri di pintu seraya berbicara. Rasulullah shallallahu 'alaihi wasallam mengenal suaranya, maka beliau pun keluar dengan membawa sehelai jaket dengan memperlihatkan keindahannya kepada ayahku seraya bersabda: "Ini kusimpan untukmu, ini kusimpan untukmu

    Bize Ebû'l-Hattâb Ziyâd b. Yahya El-Hassan! rivayet etti. (Dediki): Bize Ebû Salih Hatim b. Verdân rivayet etti. (Dediki): Bize Eyyûb-ı Sahtiyani, Abdullah b. Ebi Müleyke' den, o da Misver b. Mahreme'den naklen rivayet etti. Misver şöyle demiş: Nebi (Sallallahu Aleyhi ve Sellem)'e bir takım kaftanlar geldi. Bunun üzerine babam Mahreme bana: — «Haydi seninle Nebi (Sallallahu Aleyhi ve Sellem)'e gidelim. Belki bize onlardan bir şey verir.» dedi. (Gittik.) Babam kapıda durarak konuştu. Nebi (Sallallahu Aleyhi ve Sellem) onun sesini tanıyarak beraberinde bir kaftan olduğu hâlde (yanımıza) çıktı. Babama hem kaftanın güzelliklerini gösteriyor, hem de: — «Bunu senin için sakladım; bunu senin için sakladım.» buyurdu

    ایو ب سختیا نی نے عبد اللہ بن ابی ملیکہ سے اور انھوں نے حضڑت مسور بن مخرمہ رضی اللہ تعالیٰ عنہ سے روایت کی انھوں نے کہا : رسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم کے پاس قبائیں آئیں تو مجھے میرے والد مخرمہ رضی اللہ تعالیٰ عنہ نے کہا مجھے آپ کے پاس لے چلو امید ہے آپ ہمیں بھی ان میں سے ( کو ئی قباء ) عنا یت فر ما ئیں گے ۔ میرے والد نے دروازے پر کھڑے ہو کر گفتگو کی تو نبی صلی اللہ علیہ وسلم نے ان کی آواز پہچا ن لی ۔ آپ باہر نکلے تو قباء آپ کے ساتھ تھی اور آپ صلی اللہ علیہ وسلم انھیں اس کی خوبیاں دکھا رہے تھے اور فر ما رہے تھے : " میں نے یہ تمھا رے لیے چھپا کر رکھی تھی میں نے تمھا رے لیے چھپا کر رکھی تھی ۔

    আবূল খাত্ত্বাব যিয়াদ ইবনু ইয়াহইয়া আল হাসসানী (রহঃ) ..... মিসওয়ার ইবনু মাখরামাহ (রাযিঃ) থেকে বর্ণিত। তিনি বলেন, নবী সাল্লাল্লাহু আলাইহি ওয়াসাল্লাম এর কাছে কিছু সংখ্যক কাবা (পোষাক-পরিচ্ছদ পরিধানের জন্য জামা বিশেষ) আসল। আমার পিতা মাখরামাহ্ আমাকে বললেন, “আমার সাথে তার (নবী সাল্লাল্লাহু আলাইহি ওয়াসাল্লাম) এর কাছে চল, হয় তো তিনি আমাদেরকে তা থেকে দু' একটা দিতে পারেন।" বর্ণনাকারী বলেন, আমার পিতা গিয়ে তার দরজায় দাঁড়িয়ে কথা বললেন। নবী সাল্লাল্লাহু আলাইহি ওয়াসাল্লাম তার কণ্ঠস্বর বুঝতে পারলেন। তিনি একটি কাবা সাথে করে তার কারুকার্য ও সৌন্দর্য দেখতে দেখতে বের হলেন এবং বলতে থাকলেনঃ “আমি এটি তোমার জন্য উঠিয়ে রেখেছিলাম; আমি এটি তোমার জন্য উঠিয়ে রেখেছিলাম।" (ইসলামিক ফাউন্ডেশন ২৩০০, ইসলামীক সেন্টার)