عنوان الفتوى : أعلم الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
هل يوجد حديث يدل على أن سيدنا عليا رضي الله عنه أعلم أهل الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل الحديث (...أنا مدينة العلم وعلي بابها.....) صحيح وانه أعلم من سيدنا أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما شق السؤال الأول فلم يثبت في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيتضح لك ذلك إن شاء الله بصورة أوضح في بقية الجواب.
وأما شقا السؤال الثاني والثالث، فقد سئل عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية، وأجاب عنهما بجواب شاف كاف، ننقله لك مختصرا، وإذا أردت التوسع أكثر فراجعه بتمامه في الفتاوى الكبرى، قال رحمه الله:
" لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين إن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر، بل و لا من أبي بكر وحده، ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم، بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ذكر في كتابه تقويم الأدلة على الإمام إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي و ما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك، وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهي ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ويرضى بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه مثل قصة مشاورته في أسرى بدر فأول من تكلم في ذلك أبو بكر وعمر وكذلك غير ذلك، وقد روي في الحديث أنه قال لهما: [ إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما] ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهذا بخلاف قول عثمان وعلي.
وفي السنن: عنه أنه قال: [اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ] ولم يجعل هذا لغيرهما ...
وفي صحيح مسلم: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال: [إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا].
وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي من كتاب الله فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي، وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة…
وأيضا فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما، وأبو بكر أكثر اختصاصا فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين، كما روى أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه...
وفي الصحيحين وغيرهما : [ أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون : أفي القوم محمد أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه فقال: أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه فقال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسوؤك] وذكر الحديث
فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دون غيرهم لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين: النبي ووزيراه ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته، وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول مخالف نصا وهذا يدل على غاية البراعة.
وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص لكن تلك النصوص لم تبلغهم، والذي وجد من موافقة عمر للنصوص أكثر من موافقة علي، وهذا يعرفه من عرف مسائل العلم وأقوال العلماء فيها وذلك مثل: نفقة المتوفى عنها زوجها فإن قول عمر هو الذي وافق النص دون القول الآخر، وكذلك مسألة الحرام قول عمر وغيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر.
وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [قد كان في الأمم قلبكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر]
وفي الصحيحين : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر فقالوا: ما أولت يا رسول الله؟ قال: العلم]
وفي الترمذي وغيره: أنه قال : [ لو لم أبعث فيكم لبعث عمر]
وأيضا فإن الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة التي هي عمود الإسلام وعلى إقامة المناسك التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها، وأقام المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم فنادى: [أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان] فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين فلما لحقه قال : أميرا أو مأمورا ؟ قال: بل مأمورا فأمر أبا بكر على علي بن أبي طالب.
وكان علي ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين وغير ذلك لأبي بكر وكان هذا بعد غزوة تبوك...
وفي الصحيحين: عن أبي سعيد قال: وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضا فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع، فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاته صلى الله عليه وسلم ومدفنه، وفي ميراثه، وفي تجهيز جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار، بل كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويقومهم ويبين لهم ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد والأخوة، وفي الحرام، وفي الطلاق الثلاث وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر.
وكانوا يخالفون عمر وعثمان وعليا في كثير من أقوالهم ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء مما كان يفتي فيه ويقضي، وهذا يدل على غاية العلم، وقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام الإسلام فلم يخل بشيء منه بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة...
وأما حديث مدينة العلم فأضعف وأوهي ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين أنه موضوع من سائر طرقه، والكذب يعرف من نفس متنه لا يحتاج إلى النظر في إسناده فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدا بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن وتلك القرائن إما أن تكون منتفية وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام.
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل ظنه مدحا وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير طريق علي رضي الله عنه. انتهى.
والله أعلم.