عنوان الفتوى : الرخصة للمريض بالشكوى من الألم
هل يجوز للمريض الشكوى من الألم؟
لا بأس للمريض أن يشكو إلى طبيبه أو ممرضه أو قريبه أو صديقه ما يجده من وجع وما يحسه من ألم، ما لم يكن ذلك على سبيل التسخط للقدر، وإظهار الجزع والضجر.
وذلك أن المشكو إليه وخصوصًا الطبيب والممرض، قد يكون عنده من الدواء ما يزيل ألمه أو يخففه على الأقل.
على أن في الشكوى لمن يثق الإنسان به نوعًا من التخفيف عن النفس، وخصوصًا إذا تجاوب معه المشكو إليه وواساه، وشاركه مشاركة وجدانية.
وقديمًا قال الشاعر :
شكوت وما الشكوى لمثلى عادة
ولكن تفيض الكأس عند امتلائها !
وقال آخر :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع !
وقد روى البخاري عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ” إنى لأوعك كما يوعك رجلان منكم “.
وروى عن القاسم بن محمد أن عائشة رضى الله عنها قالت : وارأساه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ” بل أنا وارأساه ! “.
وروى عن سعد قال : جاءني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعودني من وجع اشتد بي زمن حجة الوداع فقلت : بلغ مني الوجع ما ترى … الحديث .(انظر هذا الحديث والحديثين قبله في البخاري مع الفتح : كتاب المرضى باب ما رخص للمريض أن يقول : إنى وجع أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع . الأحاديث (5666، 5667، 5668).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عروة بن الزبير قال : دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء – يعنى بنت أبى بكر وهى أمهما – فقال لها عبد الله: كيف تجدينك ! قالت : وجعة (الأدب المفرد للبخاري حديث 509).
وهذا يرد على من قال من العلماء: إن أنين المريض وتأوهه مكروه . وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مقصود . وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة في الباب . ثم قال : فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى (الفتح 10/ 124) . ا هـ.
قال القرطبي : والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك، فلا يستطاع تغييرها عما جبلت عليه، وإنما كلف العبد ألا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه، كالمبالغة في التأوه والجزع الزائد ؛ لأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر، وأما مجرد التشكي فليس مذمومًا، حتى يحصل التسخط للمقدور. (الفتح 10 /124).
بل روى مسلم عن عثمان بن أبى العاص : أنه شكا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده، فقال له : ” ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل : بسم الله ثلاثًا، وقل – سبع مرات -: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ” (مسلم في السلام (2202)، وأبو داود (3891)، والترمذي (2081).
قال العلماء : يؤخذ منه ندب شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به، رجاء لبركة دعائه (ذكره العلامة القاري في مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح 2/ 298).
وكان الإمام أحمد يحمد الله أولاً، ثم يخبر عما يجده، لخبر ابن مسعود : إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك. (المبدع في شرح المقنع 2/ 215).
قال الحافظ ابن حجر تعقيبًا على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عائشة : ” بل أنا وارأساه “: (فيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكم شاك وهو راض . فالمعول في ذلك على عمل القلب، لا على نطق اللسان). (الفتح 10 /125، 126) . والله أعلم.
وينبغي لمن شكى إليه أن يخفف عن المريض باللمسة الحانية، والكلمة الهادية، والدعوة الصالحة، كما فعل الرسول الكريم مع سعد، فقد روت عائشة بنت سعد أن أباها قال: تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني …. الحديث، وفيه: ثم وضع يده، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال : ” اللهم اشف سعدًا، وأتمم له هجرته ” قال فما زلت أجد برده على كبدي – فيما يخال إلى – حتى الساعة (الأدب المفرد للبخاري حديث 509).
وقال ابن مسعود : دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي، وقلت : يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ” أجل، كما يوعك رجلان منكم ” . فقلت: ذلك إن لك أجرين، قال : ” أجل ” ثم قال : ” ما من مسلم يصيبه أذى، مرض فما سواه، إلا حط الله سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها ” (البخاري : حديث 5660).
وهنا ينبغي لمن شكا إليه المريض أن يخفف عنه بذكر فضل الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، وثواب من ابتلى فصبر واحتسب، وأن ما يصيبه من ألم هو طهارة له وكفارة لسيئاته، أو زيادة في حسناته، أو رفع لدرجاته، وأن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويذكر له من الآيات والأحاديث، وسير الصالحين ما يثبت قلبه دون أن يمله ويثقل عليه، كما يحسن أن يعلمه ما يرقى به نفسه، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عثمان بن أبى العاص.
وهذا في الشكوى إلى الخلق.
أما الشكوى إلى الخالق جل شأنه، فقد حكاه القرآن الكريم عن أنبياء الله تعالى ورسله الكرام:
فعن يعقوب عليه السلام : قال : ” إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ” (يوسف : 86).
وعن أيوب عليه السلام : ” وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ” (الأنبياء : 83).
وفى هذا رد على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم (انظر الفتح 10 /124)، وفى هذا يقول بعضهم : علمه بحالي يغنى عن سؤالي !
ولكن المؤكد أن الدعاء والابتهال إلى الله عبادة، بل ” هو العبادة ” كما صح في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إنما المكروه حقًا هو شكوى العبد ربه ! وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر (المصدر السابق)، وهذا متفق عليه، وهو ما يقع فيه بعض من يغفل عن النعم . ولا يذكر إلا البلاء.