عنوان الفتوى : طلاق الثلاث بلفظ واحد وبألفاظ متتابعة
هل الثلاث طلقات بطلقة علما أنه كان يفتى بذلك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر، والدليل حديث ابن عباس في مسلم ولكن هناك من يقول إن هذا الحديث له تكملة عن ابن عباس (أنها كانت قبل الدخول) برواية النسائي. ماصحة ذلك؟ جزاكم الله خيرا، علما أنهم يقولون له نفس سند مسلم، لأنهم يقولون الثلاث طلقات بثلاث طلقات وغير ذلك زنا. أفيدونا بارك الله فيكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه المسألة من المسائل التي كثر فيها الخلاف بين العلماء، فمن اعتبر الثلاث بلفظ واحد ثلاثا وهم الجمهور من العلماء بل حكاه الإمام الجصاص المولود سنة 305 هـ والإمام ابن رجب الحنبلي والسبكي والباجي وغيرهم إجماعا.
وأما الرواية التي فيها أن الطلاق ثلاثا كان قبل الدخول فقد رواها مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن البكير أنه قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل عبد الله بن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال فإنما طلاقي إياها واحدة قال ابن عباس إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل.
والطلاق الثلاث في حق غير المدخول بها على ضربين:
الضرب الأول: أن يقع بلفظ واحد كأن يقول أنت طالق ثلاثا فيقع ثلاثا باتفاق المذاهب الأربعة.
الضرب الثاني: أن يقع بألفاظ متتابعة كأن يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق ففي هذه الصورة حدث الخلاف بين العلماء فذهب الحنفية إلى أن الطلاق يقع بالأولى، وأما الثانية والثالثة فلا تصادف محلا.
قال الحصكفي في الدر المختار: ( وإن فرق ) بوصف أو خبر أو جمل بعطف أو غيره ( بانت بالأولى ) لا إلى عدة ( و ) لذا ( لم تقع الثانية ) بخلاف الموطوءة حيث يقع الكل.
وأما المالكية ففرقوا بين أن يكون الطلاق المفرق - أي الذي ليس بلفظ واحد - متتابعا فيقع ثلاثا أو غير متتابع فلا يقع إلا واحدة.
قال الحطاب المالكي في مواهب الجليل: إذا كرر الطلاق بلا عطف, فقال : أنت طالق أنت طالق أنت طالق يلزمه الثلاث في المدخول بها إلا أن ينوي بذلك التأكيد، وكذا يلزمه الثلاث في غير المدخول بها بشرط أن يكون نسقه ولم ينو التأكيد على المشهور خلافا للقاضي إسماعيل, قال في التوضيح: إذا كانت الزوجة غير مدخول بها وكان كلامه متتابعا بأن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا فالمشهور أنه يلزمه الثلاث إلا أن ينوي التأكيد واحترز بمتتابع مما إذا لم يتابعه فإنه لا يلزمه إلا واحدة بالاتفاق لبينونتها بالأولى فلم تجد الثانية لها محلا.اهـ.
وذهب الشافعية إلى أن طلاق غير المدخول بها يقع كما أوقعه المطلق ولا فرق بين أن يجمع الطلاق بلفظ واحد أو يفرق بينها.
جاء في كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس بن بكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم عن ذلك فقالا لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال إنما كان طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل. ( قال الشافعي ) رحمه الله وما عاب ابن عباس ولا أبو هريرة عليه أن يطلق ثلاثا ولو كان ذلك معيبا لقالا له لزمك الطلاق وبئسما صنعت ثم سمى حين راجعه فما زاده ابن عباس على الذي هو عليه أن قال له إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل ولم يقل بئسما صنعت ولا خرجت في إرساله. أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بكير عن النعمان بن أبي عياش الأنصاري عن عطاء بن يسار قال جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء فقلت إنما طلاق البكر واحدة فقال عبد الله بن عمر إنما أنت قاص الواحدة تبينها وثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره. انتهى من كتاب الأم للإمام الشافعي.
وقال الشربيني الشافعي في مغني المحتاج: ( وإذا طلق الحر ثلاثا ) سواء أوقعهن معا أم لا , معلقا كان ذلك أم لا قبل الدخول أم لا ( أو العبد ) أو المبعض ( طلقتين ) كذلك ( لم تحل له حتى تنكح ) زوجا غيره .
وذهب الحنابلة إلى أنه إن أوقعها معا بلفظ واحد أو بما يفيد المعية كأنت طالق وطالق وطالق وقعت ثلاثا وإن فرقها بانت بالأولى ولم تصادف الثانية والثالثة محلا.
قال الرحيباني في مطالب أولي النهى: ( تطلق ) مدخول بها بوطء أو خلوة في عقد صحيح ( ثلاثا ) بقول زوجها ( أنت طالق أنت طالق أنت طالق ) ... ( إلا أن ينوي بتكراره تأكيدا متصلا أو ) إلا أن ينوي ( إفهاما ) فإن نوى ذلك ( فواحدة ) ... وغير المدخول بها تبين بالأولى , نوى بالثالثة الإيقاع أو لا , متصلا أو لا ... ( و ) إن قال لها أنت طالق ( وطالق وطالق وطالق , فثلاث ) طلقات ( معا , ولو لم يدخل بها ) لأن الواو تقتضي الجمع بلا ترتيب ( ويقبل ) منه ( حكما ) إرادة ( تأكيد ثانية بثالثة ) لمطابقتها لها في لفظها و ( لا ) يقبل منه تأكيد ( أولى بثانية ) لعدم مطابقتها لاقترانها بالعاطف دونها.اهـ.
وأما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه (كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة ) فقد وضح معناه الإمام الباجي المولود سنة 403 في كتابه المنتقى شرح الموطا حيث قال: فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث وبه قال جماعة الفقهاء وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة, وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء, إنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطاة ومحمد بن إسحاق , والدليل على ما نقوله إجماع الصحابة ; لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم ولا مخالف لهم وما روي عن ابن عباس في ذلك من رواية طاوس قال فيه بعض المحدثين هو وهم. قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه: وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة فقد رواه عنه الأئمة معمر وابن جريج وغيرهما وابن طاوس إمام, والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس ثلاث تطليقات ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة فلو كان حالهم ذلك من أول الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله, ما عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة, فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه إن حمل حديث ابن طاوس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله, فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه ، أصل ذلك إذا أوقعه مفرقا.اهـ.
وخالف في ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى وجمع ممن تبعه فقالوا إن الطلاق الثلاث بلفظ واحد تعتبر طلقة واحدة.
والذي نفتي به هو مذهب الجمهور من العلماء؛ وقد سبق بيان أدلة كل قول في الفتوى رقم: 5584 والفتوى رقم: 26539 فتراجع.
والله أعلم.