عنوان الفتوى : هل أقسم موسى عليه السلام بالنعمة؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل موسى عليه السلام حلف بغير الله في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) القصص/ (17)، فهل موسى عليه السلام حلف بغير الله، أم حلف بالنعمة؟ وإذا كان حلف بالنعمة، فما هو الدليل أن الحلف بالنعمة حلال؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله.

أولا:

من الثابت أن الحلف والقسم لا يجوز إلا بالله تعالى.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( أَلاَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ: لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ) رواه البخاري (3836)، ومسلم (1646).

وفي رواية للبخاري (2679)، ومسلم (1646): أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ).

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة، منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد" انتهى من "التمهيد" (14/367).

والحلف بـ"النعمة": هو من جملة الحلف بغير الله تعالى.

جاء في فتاوى "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء":

" أما حلفه بنعمة الله، وكعبة الله: فلا يجوز، ولا ينعقد يمينا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كفر أو أَشْرَكَ )...

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عبد الله بن قعود ، عبد الله بن غديان ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى. "فتاوى اللجنة الدائمة" (23/13).

ثانيا:

ما ورد في قول الله تعالى عن خبر موسى عليه السلام:

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) القصص/17.

مراد موسى عليه السلام به: أي بإنعامك علي بالنعم، كنعمة العزة والمنَعَة، أو نعمة التوفيق للهداية والتوبة.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) أي: بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 225).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" فـ ( قَالَ ) موسى ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) بالتوبة والمغفرة، والنعم الكثيرة " انتهى من "تفسير السعدي" (ص613).

وهذه (الباء)، في كلمة ( بِمَا ) بعض أهل العلم رأى أنها سببية؛ أي: يخبر موسى عليه السلام أنه بسبب إنعام الله عليه؛ فسيكون شاكرا لله تعالى، فلن يعين ظالما على ظلمه؛ فيكون هذا من باب شكر النعمة.

قال الطيبي رحمه الله تعالى:

" ... وعلى الوجه الثالث: الباء سببيّة: … فالمعنى: بسبب ما أنعمت عليّ من القوّة؛ أشكرك، فلن أستعمل القوّة إلا في مظاهرة أوليائك " انتهى من "حاشية الطيبي على الكشاف" (12/ 25).

وقال ابن جُزي رحمه الله تعالى:

" ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ): الظهير: المعين، والباء سببية، والمعنى: بسبب إنعامك عليّ؛ لا أكون ظهيرا للمجرمين، فهي معاهدة، عاهد موسى عليها ربه ... " انتهى من "التسهيل" (3/427).

وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها للقسم.

وأشار إلى هذا الإمام الطبري رحمه الله تعالى، فقال:

" وقولُه: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ). يقول تعالى ذكره: قال موسى: ربّ بإنعامك عليّ؛ بعفوك عن قتل هذه النفس، ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) يعنى: المشركين. كأنّه أقسم بذلك " انتهى من "تفسير الطبري" (18/191).

والمشهور في كلام أهل العلم أن جواب هذا القسم محذوف مقدّر بنحو: لأتوبنّ، أو لأمتنعنّ.

قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى:

" وقد انتهج موسى عليه السلام نهج آدم عليه السلام إذ قال: ( ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ).

والباء في ( ‌بِمَا أَنْعَمْتَ ) للقسم، والتقدير: أقسم ‌بما ‌أنعمت به علي من المغفرة، والجواب محذوف، أي: لأتوبنَّ " انتهى من "البحر المحيط" (8/293).

وقال الألوسي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى:( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) فوجهه ظاهر، والباء في ( بِما ) للقسم، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل " انتهى. "روح المعاني" (10/264).

وعلى هذا القول بأن هذا قسم، فهو قسم بفعل الخالق عز وجل، وصفته، وهي الانعام، كما أشار الألوسي، وليس قسم بالنعمة المخلوقة.

وقال النسفي رحمه الله تعالى:

" و ( بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) قسم جوابه محذوف؛ تقديره: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة؛ لأتوبن " انتهى من "مدارك التنزيل" (2/634).

والحلف بصفات الله تعالى الذاتية والفعلية مشروع، كالحلف بأسماء الله سبحانه وتعالى، وراجع للأهمية جواب السؤال رقم: (122729).

وجملة: ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) حملها بعضهم على أنها خبر من موسى عليه السلام، ومعناه: الدعاء؛ أي: لا تجعلني ظهيرا للمجرمين.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

" وقد ذُكِر أن ذلك في قراءةِ عبد الله: ( فَلا تَجْعَلْنِي ظَهيرًا للمُجْرِمِينَ ). كأنّه على هذه القراءة دعا ربّه، فقال: اللهمّ لن أكون لهم ظهيرا " انتهى. "تفسير الطبري" (18/191).

وقال الواحدي رحمه الله تعالى:

" قال الأخفش: قوله: ( فَلَنْ أَكُونَ ) معناه: فلا أكونن. وهذا خبر في معنى الدعاء، كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرا. ونحو هذا ذكر الفراء؛ واحتج بأن في حرف عبد الله: ( فَلا تَجْعَلْنِي ظَهيرًا )؛ على الدعاء " انتهى من "التفسير البسيط" (17/358).

ويدل لهذا ما رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2 / 442)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (16 / 258)، والحاكم في "المستدرك" (2 / 408)، بإسناد رواته ثقات: عَنْ مِسْعَر، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ سَاجِدٌ: ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ) فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لِي: مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً قَطُّ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا.

وصححه محققو "مصنف ابن أبي شيبة".

وذكره ابن أبي شيبة في "باب الدعاء".

وحملها بعضهم على أنها خبر بمعنى الالتزام والعهد. وقد سبق نقل هذا المعنى في كلام ابن جزي، رحمه الله.

قال الواحدي رحمه الله تعالى:

" ومذهب المفسرين أن هذا خبر وليس بدعاء؛ أخبر عن نفسه أنه لا يكون ظهيرا للمجرمين بعد ذلك " انتهى من "البسيط" (17/358).

وهذا هو ما يشير إليه تفسير قتادة رحمه الله تعالى، حيث روى عبد الرزاق في "التفسير" (2/ 490): عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ )، قَالَ: " إِنِّي لَنْ أُعِينَ بَعْدَهَا ظَالِمًا عَلَى فُجْرِهِ ".

الخلاصة:

أن قول موسى عليه السلام، في قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ )، حمله بعضهم على أنه قسم، وعلى هذا القول فالقسم هنا قسم بصفة من صفات الله تعالى الفعلية، وليس قسما بالنعمة المخلوقة، ويشير إلى هذا ما سبق من استعمال ابن عمر لقول موسى عليه السلام هذا دعاء في صلاته، وهو الراوي لحديث النهي عن الحلف بالمخلوق.

والله أعلم.