عنوان الفتوى : تطوع المضارب بمبلغ شهري وبرد المال لأصحابه عند الخسارة دون طلبهم ذلك
كان معي مبلغ من المال: 300,000 جنيه، بدأت به مشروعا زراعيا، وأخذت من بعض الناس مبلغ 250,000 جنيه لاستكمال المشروع. ولكنهم رفضوا المشاركة، وطلبوا أن تكون على هيئة تجارة يأخذون أرباحها. وكنت أرسل لهم مبالغ شهرية؛ لأنهم يعيشون منها.
ولكن حصلت خسارة كبيرة في المشروع، وفقدت كل رأس المال؛ فنويت أن أدفع إليهم أموالهم كاملة، وأتحمل الخسارة كاملة. وما زلت أرسل لهم مبالغ شهرية يعيشون منها على سبيل الصدقة. هم لم يشترطوا ولم يطلبوا ذلك.
هل هذه الأموال التي أرسلتها، وما زلت أرسلها حتى أستكمل لهم أموالهم تعتبر ربا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما دمت تدفع لهم هذه الأموال على سبيل الصدقة كما ذكرت، وهم لم يشترطوا، ولم يطلبوا ذلك، وأنت لم تلتزم بذلك في الاتفاق معهم، وإنما التزمت به بعد حصول الخسارة بالفعل، وكان ذلك منك على سبيل التبرع أو التطوع، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى صحة ذلك، على خلاف قول جمهور الفقهاء.
قال الونشريسي في «إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك»: نص الفقهاء -رضي الله عنهم- على أن التزام ما يخالف سنة العقود شرعا من ضمان أو عدمه ساقط على المشهور، وكالوديعة على الضمان، والاكتراء كذلك. وحمل القاضي محمد بن يبقى بن زرب -رحمه الله- ما قالوه على ما إذا كان الالتزام عند العقد حتى يكون ذلك على الوجه المناقض للشرع، فيجب حينئذ أن يبقى الحكم تابعا للمشروع.
قال ابن زرب: فلو تبرع بالضمان وطاع به بعد تمام الاكتراء، لجاز ذلك. قيل له: فيجب على هذا القول الضمان في مال القراض إذا طاع به قابضه بالتزام الضمان؟ فقال: إذا التزم الضمان طائعا بعد أن شرع في العمل فما يبعد أن يلزمه. ونقل ابن عتاب عن شيخه أبي المطرف بن بشير أنه أملى عقدا بدفع الوصي مال السفيه قراضا إلى رجل على جزء معلوم، وإن العامل طاع بالتزام ضمان المال وغرمه. وصحح ابن عتاب مذهبه في ذلك، ونصره بحجج بسطها وأدلة قررها ومسائل استدل بها، وقال بقوله فيها، واعترض غيره من الشيوخ ذلك وأنكره، وقال: التزامه غير جائز، وفي سماع ابن القاسم ما يشهد لصحة الاعتراض على ابن بشر، وفي رسم الجواب من سماع ابن القاسم ما يؤيد صحة قوله. اهـ.
بل ذهب الشوكاني إلى أنه يصح تضمين المضارب بالشرط في العقد ذاته.
فقال في (السيل الجرار) في المضارب والوديع والوصي والوكيل ونحوهم: تجب عليهم التأدية، ولا يضمنون إلا لجناية أو تفريط، وإذا ضَمِنُوا ضُمِّنُوا؛ لأنهم قد اختاروا ذلك لأنفسهم، والتراضي هو المناط في تحليل أموال العباد. اهـ.
والمقصود أن تطوع السائل برد رأس المال، وتبرعه لأصحابه بما تجود به نفسه شهريا على سبيل الصدقة، له وجه معتبر، طالما لم يكن ذلك مشروطا في العقد، ولم يكن بمجرد الشروع في العمل، بل بعد حصول الخسارة بالفعل.
وهذا ما نصت عليه المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المراجعة والمحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، كما جاء في معيار رقم (56) المتعلق بضمان مدير الاستثمار:
- لا يجوز اشــتراط الضمان المطلق على مدير الاســتثمار، ولا تطوعه بالضمان عند عقد الاستثمار.
- لا يجوز أن يلتزم مدير الاستثمار بالضمان بعد عقد الاستثمار صراحة أو ضمنا.
- يجوز عند حصول الخسارة الكلية أو الجزئية أن يتطوع مدير الاستثمار بالضمان بمحض إرادته. اهـ.
وجاء في ملحق مستند الأحكام الشرعية:
- مستند كون يد مدير الاستثمار يد أمانة هو أن مدير الاستثمار في هذا المعيار لا يخلو من أن يكون شريكا مديرا أو مضاربا أو وكيلا بالاستثمار، وقد اتفق الفقهاء على أن يد هؤلاء يد أمانة لا تضمن إلا بالتعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط؛ لأن التضمين بالشرط مظنة تحويل عقد الاستثمار إلى قرض جر نفعا.
- مستند جواز تطوع مدير الاستثمار بالضمان بمحض إرادته عند حصول الخسارة الكلية أو الجزئية، هو كونه محسنا في هذه الحال، وما على المحسنين من سبيل. اهـ.
والله أعلم.