عنوان الفتوى : لا إلزام بالضمان إلا باليقين
أنا طبيب متخرج في كلية الطب، ولكنني أنتظر أن يتم تعييني في المستشفيات الحكومية، ولهذا أذهب إلى المستشفى؛ للتدريب في أوقات الفراغ.
أتعلم من الأطباء الموجودين في قسم الطوارئ؛ لأنني بعد 6 أشهر سأبدأ بالعمل، وسيعينونني في قسم الطوارئ؛ لهذا يجب أن أتعلم.
في إحدى الليالي جاءت مريضة لقسم الطوارئ تعاني من ألم في المعدة، وتقيؤ، (وأغلب ظني) أنني أخبرت الطبيب المسؤول،
وقال لي: أعطها أدوية للمعدة (أي أنه شخص الحالة بأنها مشكلة في المعدة)، وقلت له: (إن لم تتحسن سأجري لها تخطيطا للقلب، فقال جيد)،
وأعطيتها علاجا للمعدة، وبعد نصف ساعة جاءت المريضة، وأهلها، وقالوا: إنها تحسنت، وأرادوا أخذ الإذن للخروج من المستشفى،
(وأغلب الظن) أنني أخبرت الطبيب المسؤول بأن المريضة تحسنت، وتريد الخروج، فهل تخرج؟ فقال: نعم يمكنهم الخروج. بعدها أنا -أيضا- ذهبت إلى البيت.
في الصباح أخبروني بأن المريضة رجعت بعد ساعات من خروجها، وهي تعاني من ضيق نفس شديد، وتم تشخيص حالتها على أنها جلطة قلبية، وأدخلت قسم العناية المركزة، وتوفيت بعد 5 ساعات بسبب مضاعفات الجلطة القلبية، رحمها الله.
مع العلم أن الخطأ كان في البداية، حيث أخطأنا بتشخيص حالتها بأنها مرض في المعدة، وليست جلطة قلبية،
ولو أجرينا لها تخطيط قلب لتم تشخيص حالتها بشكل صحيح، والأدوية التي أعطيناها لا تسبب الجلطة القلبية، وسبب موتها هو الجلطة القلبية.
ولو تم تشخيصها، وإعطاؤها الدواء الصحيح على الأغلب، لم تكن لتتوفى، والطبيب المسؤول يقول: بأنه لا يتذكر أنه رأى هذه المريضة تلك الليلة بسبب كثرة المرضى، ولا يمكننا التحقق من الأمر، فهل هذا يعتبر قتل خطأ؟ ومن المسؤول عنه إن كان قتل خطأ؟
لأنني في غالب ظني أنني لم أتخذ أي قرار من نفسي، بل سألت الطبيب المسؤول، وهو الذي قرر.
فهل المسؤولية تقع على الطبيب المسؤول وحده؟ أم علينا الاثنين؟ أم علي وحدي؟ مع العلم بأن أهل المتوفاة لا يعلمون بالأمر، ولم يتم فتح تحقيق رسمي بالأمر.
مع العلم بأنه لو تم فتح تحقيق رسمي في الأمر سيعاقبونني، والطبيب المسؤول، وأخاف من ذلك، وأصابني القلق، والاكتئاب بسبب هذه المسألة،
ولا أعلم ما يجب علي فعله، وأنا في حيرة. سألت بعض المشايخ، وقالوا، بأن هذا تأخير في التشخيص، ولا يجب عليكم الضمان،
وبعضهم قال: بأن حالتها تقع ضمن القاعدة (لا يضمن من قصر في إنقاذ إنسان من الهلاك).
وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس من اختصاصنا البت، والحكم في مثل هذه القضية، فإثبات تقصيركم، أو نفيه يرجع فيه إلى الجهات المختصة، في التحقيق في مثل هذه الواقعة، وتحديد المسؤول.
والذي يعنينا بيانه أمور:
الأول: أن الأصل براءة الذمم من الحقوق، حتى يتبين، ويُعلم موجب لثبات الحقوق في الذمم، فالشك في التسبب في موت المريض، لا يترتب عليه شيء، ولا يوجب كفارة، ولا دية.
قال ابن حزم في المحلى: إن شَكَّت أمات من فعلها، أم من غير فعلها؟ فلا دية في ذلك، ولا كفارة؛ لأننا على يقين من براءتها من دمه، ثم على شَكٍّ، أمات من فعلها، أم لا، والأموال محرمة، إلا بيقين. اهـ.
وقال الجويني في غياث الأمم: كل ما أشكل وجوبه، فالأصل براءة الذمة فيه، كما سبق في حقوق الأشخاص المعينين، فهذا منتهى المقصود فيما يتعلق بالأملاك من المعاملات، والحقوق الخاصة والعامة. اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم، والأجساد من حقوقه، وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها. اهـ
وقال العلوي في النوازل: فمن تصدى للإفتاء، فليحجم عن الإقدام على إلزام الضمان إلا بصريح، أو ظاهر، وإلا وجب عليه التمسك بالأصل الذي هو براءة الذمة .اهـ.
الثاني: الأحوال التي يكون فيها الطبيب مسؤول عن خطئه ذكرناها في الفتوى: 400786 .
الثالث: إذا أفتاك عالم موثوق في علمه، وديانته بعدم الضمان، فيسعك العمل بفتواه، ولا ينبغي للمستفتي أن يكرر السؤال دون موجب، ولا يبحث عن فتاوى، وأقوال أخرى في المسألة حتى لا يضطرب، ويتحير.
والله أعلم.