عنوان الفتوى : غيبة الأب وكيفية الاستحلال منها
في إحدى المرات قد اغتبت أبي أمام أحد أصدقائي، وقد تبت من هذا العقوق. وهذا الصديق لم يكن يعرف أبي حين اغتبته، وحتى الآن لا يعرفه. وأعني بقولي لا يعرفه، أي: لم يلتق به، ولا يعرفه شخصيا، ولا يعرف اسمه ولا مكان سكنه، ولكني لما اغتبت أبي سميت أبي بعينه.
الآن فكرت في الزواج من ابنة هذا الصديق، لكن تذكرت ماذا حصل مني، فأخشى أنني لو تسببت في تعرّف هذا الصديق على أبي الكريم الذي اغتبته، أكون عاقا.
فهل من البر بأبي ألا أتزوج ابنة هذا الصديق، حتى لا يتمكن هذا الصديق من رؤية أبي والتعرّف عليه، حتى يبقى أبي على ستر، أو ليس هذا من البر؟
كذلك إذا تزوجت امرأة غير هذه. كيف أصنع مع هذا الصديق في الوليمة، لا أدعوه حتى لا يلتقي بأبي؟ هل هذا من البر؟
وإذا كان هذا من البر. هل علي أن أذكر هذا الصديق بما قلت له في حق أبي، ثم أقوم بنفيه والدفاع عن أبي دون الوقوع في الكذب؟ كأن أقول له: أنا ذكرت لك مرة أن أبي كذا وكذا، لكني كنت مخطئا، وأبي فيه كذا وكذا من الخير ... ثم بعد ذلك لا يضر إن تسببت في تعرفه على أبي بعينه؟
وأنبه إلى أنني لا أسأل عن كيفية التوبة من هذا الذنب.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الغيبة حرام باتفاق الفقهاء، وتحريمها ثابت بالكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا {الحجرات: 12}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام. رواه البخاري.
ومن أخطر أنواع الغيبة اغتياب الأب، فهو أكبر في الإثم، وأسوأ في الطبع من اغتياب غيره؛ لما يجب له من التوقير والبر والإحسان.
فالواجب عليك هو التوبة من اغتيابه، ويكون ذلك بالندم، والإكثار من الاستغفار والدعاء له، والثناء عليه بالخير أمام الناس ومنهم من اغتبت أباك عنده، إضافة إلى استحلال أبيك، وطلب المسامحة منه. إذا لم يترتب عليه ضرر أكبر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو شيء؛ فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح، أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه . أخرجه البخاري.
وإن كان لا يمكن الاستحلال منه بسبب كون ذكر الأمر قد تترتب عليه مفاسد أكثر، فالأولى ستر الموضوع، والتوبة، والإكثار من الاستغفار له، والدعاء له، والثناء عليه بالخير أمام الناس، مع الإكثار من العمل الصالح.
وقد فرق بعض أهل العلم بين من بلغه الاغتياب فيجب تحلله، بخلاف من لم يبلغه ذلك فيكفي الاستغفار له، والثناء عليه بالخير.
ولا ننصحك بتذكير صديقك بالموضوع، فقد يكون نسيه، بل ينبغي كثرة الثناء على الوالد أمامه فقط.
قال نجم الدين ابن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين": وأما كفارة الغيبة، فاعلم أن المغتاب قد جنى جنايتين:
إحداهما: على حق الله تعالى، إذ فعل ما نهاه عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والجناية الثانية: على محارم المخلوق؛ فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل، جاء إليه واستحله، وأظهر له الندم على فعله.
وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل، جعل مكان استحلاله: الاستغفار له؛ لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيُوغر صدره، وقد ورد في الحديث: «كَفَّارَةُ مَن اغْتَبتَ أَن تَسْتَغْفِرَ لَهُ». اهـ.
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": والقول الآخر: أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه، وذكر محاسنه، وقذفه بذكر عفته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه. وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، قدس الله روحه.
واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقًا وغمًّا، وقد كان مستريًحا قبل سماعه، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله، وأورثته ضررًا في نفسه أو بدنه، كما قال الشاعر:
فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه، فضلًا عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربما كان إعلامه به سببًا للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدًا، ويورثه علمُه به عداوةً وبغضاءً مولِّدَةً لِشَرٍّ أكبر من شر الغيبة والقذف، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب، والتراحم والتعاطف والتحابب. اهـ.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في أسنى المطالب، في شرح روض الطالب: (ويستغفر الله) تعالى (من الغيبة) إن لم يعلم صاحبها بها (فإن علم صاحبها) بها (استحل منه) فإن تعذر استحلاله لموته، أو تعسر لغيبته البعيدة، استغفر الله تعالى ... اهـ.
وقال أبو الليث السمرقندي -الحنفي- في "تنبيه الغافلين": قد تكلم الناس في توبة المغتاب، هل تجوز من غير أن يستحل من صاحبه؟ قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز ما لم يستحل من صاحبه. وهو عندنا على وجهين:
إن كان ذلك القول قد بلغ إلى الذي اغتابه؛ فتوبته أن يستحل منه.
وإن لم يبلغ: فليستغفر الله -تعالى- ويضمر أن لا يعود إلى مثله. اهـ.
ولا يضرك لو ترتب على زواجك تعرف صديقك على الوالد، وكان في نفس صديقك شيء على الوالد. فقد ذكر العلماء أن من تاب من ذنب، فقد أتى بما هو واجب عليه، وإن بقي أثره، ومثلوا لذلك بمن رجع عن بث بدعة بعد أن كثر أتباعه فيها، وإلى هذا أشار صاحب مراقي السعود بقوله:
من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا
وإن بقي فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع.
وقال القاري في المرقاة: قال ابن حجر: تنبيه: لو تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به، فهل ينقطع إثم دلالته بتوبته؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، أو لا، لأن شرطها رد الظلامة، والإقلاع، وما دام العمل بدلالته موجودا فالفعل منسوب إليه، فكأنه لم يرد ولم يقلع؟...
قال القاري: والأظهر الأول، وإلا فيلزم أن نقول بعدم صحة توبته، وهذا لم يقل به أحد، ثم رد المظالم مقيد بالممكن، وإقلاع كل شيء بحسبه حتمًا، وأيضا استمرار ثواب الاتباع مبني على استدامة رضا المتبوع به، فإذا تاب وندم، انقطع، كما أن الداعي إلى الهدى إن وقع في الردى -نعوذ بالله منه- انقطع ثواب المتابعة له، وأيضا كان كثير من الكفار دعاة إلى الضلالة، وقبل منهم الإسلام، لما أن الإسلام يجب ما قبله، فالتوبة كذلك، بل أقوى، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. انتهى.
وخلاصة القول أنه لا حرج عليك في الزواج بابنة صديقك، ولا سيما إن كانت ذات خلق ودين.
وخشية تعرفه على أبيك، ومعرفة كونه هو من اغتبت، لا يمنع ذلك الزواج، فقد لا يعرف صديقك كون أبيك هو المقصود بالغيبة فالأسماء كثيرة ومتشابهة، وربما يكون قد نسي الموضوع برمته، وحتى لو لم ينسه فقد بينا لك ما يجب عليك؛ فأعرض عن التفكير في مثل هذا، فهو أقرب إلى الوسوسة.
والله أعلم.