عنوان الفتوى : تهافت القول بأن الإسلام يتساهل في التحرش بالمرأة
سؤالي يتعلق بالحديث التالي: جاء رجلٌ إلى النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم- فقال: يا رسولَ اللهِ إني عالَجتُ امرأةً في أقصى المدينةِ، وإني أصَبتُ منها ما دونَ أن أمَسَّها، فأنا هذا فاقْضِ فيما شئتَ، فقال له عُمَرُ: لقد ستَرَك اللهُ لو ستَرتَ نفسَك. قال: فلم يَرُدَّ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم- شيئًا، فقام الرجلُ فانطَلَق، فأتبَعَه النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم- رجلًا فدَعاه، وتَلا عليه هذه الآيةَ: وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. فقال رجلٌ منَ القومَ: يا نبيَّ اللهِ هذا له خاصةً؟ قال: بل للناسِ كافةً.
وقد ورد في روايات مختلفة لهذا الحديث ما يدل على أن الرجل المذكور فعل ما فعل في تلك المرأة إكراها. فإن كان ذلك صحيحا ألا يجب عليه الاستسماح من المرأة التي اعتدى عليها، بما أن تحليل المظالم من شروط التوبة عند ظلم العباد؟
وقد رأيت من يدعي أن هذا الحديث يدل على أن الإسلام يتساهل في التحرش، ولا يبالي بمشاعر المرأة الضحية.
فما قولكم في هذا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه القصة ثابتة في الصحيحين والسنن والمسانيد، ولم نجد فيها ما يدل صراحة على أن هذا الرجل قد أكره هذه المرأة، وقد يكون ذلك فُهِم من قوله: "عالجت امرأة".
ففي كتاب إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض: يريد بالمعالجة التناول منها، ولكن بمدافعة ومشقة والمعالجة: المصارعة. انتهى.
وهذا ليس صريحا في الدلالة على هذا المعنى، فقد يكون المقصود مجرد الملاطفة والمداراة.
وقد قال الطيبي في شرحه على مشكاة المصابيح في بيان معنى المعالجة: "عالجت امرأة" أي: داعبتها، وزاولت منها ما يكون بين الرجل والمرأة. انتهى.
والظاهر أن هذا المعنى الثاني هو المقصود، وقد يكون هذا هو السر في أن شراح الحديث لم يتعرضوا لأمر الاستسماح، فإن كانت مطاوعة له في ذلك، فهي من جنت على نفسها حين طاوعته.
وعلى تقدير أنه قد أجبرها على هذا الفعل، فلا يمكن الجزم بأنه لم يستسمحها، فربما يكون قد فعل ولم يذكر في الحديث، والأصل أن من تمام التوبة الاستسماح فيما يتعلق بحقوق العباد.
ومن يستدل بهذه القصة على أن الإسلام يتساهل في التحرش. نقول له: إن الدعوى أكبر من الدليل. فما حدث من هذا الرجل مع هذه المرأة حدث فردي، وفي أمر لا يقره الإسلام، ومن المعلوم أن التشريع الإسلامي فيه كثير من التدابير الوقائية التي تصون المجتمع من وقوع مثل هذه الأفعال الشنيعة، وتجعل المرأة في مأمن منها، فحرم الإسلام الاختلاط الذي لا يكون فيه تمايز بين الرجال والنساء، وكذلك تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأمر بغض البصر عن الحرام، وألزم المرأة المسلمة بالستر والحجاب وحرم التبرج. وتجد أدلة ذلك، في هذه الفتاوى: 28829، 128489، 16441
وقد بينا في هذه الفتوى الأخيرة كيف أن الإسلام كرم المرأة.
ومن أراد التوسع في هذا الجانب، فيمكنه الاستفادة من كتاب: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، تأليف الأستاذ الدكتورعبد الكريم زيدان -رحمه الله تعالى- وهو موسوعة في هذا المجال.
ومن يتهمون الإسلام بهذا الأمر هم أولى بهذا الاتهام، فإنهم باسم الحريات الشخصية يطلقون العنان للمرأة في أن تلبس ما تشاء، وتكشف من جسدها ما تشاء، وتخرج وتدخل بلا ضوابط، وغير ذلك من أمور معلومة تغري الآخرين بها، وتدفعهم إلى استفزازها والتلاعب بعواطفها وإيقاعها في مصائدهم فتكون ضحية لهم، فانتشرت الفواحش، وكثر الأولاد مجهولو الأب أو الأبوين، وكثرت الدور التي تؤوي أمثال هؤلاء وهم في حالة ضياع، وينشؤون وفي قلوبهم حقد على المجتمع... إلى غير ذلك من الآثار السيئة لغياب القيم النبيلة.
والله أعلم.