عنوان الفتوى : هل تنسب "الحركة" لله سبحانه وتعالى؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل يجوز أن ننسُب مصطلح "حركة" إلى الله تعالى؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله.

أولا:

لفظ الحركة لم يرد إثباته أو نفيه لله تعالى، لكن ثبت أنه يجيء ويأتي لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا.

قال تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) الفجر/22.

وقال الله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) البقرة/210.

وروى الترمذي (2382) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ... ) والحديث صححه الألباني في "صحيح الترمذي".

وروى البخاري (1145)، ومسلم (1261) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ).

وروى مسلم (1348) عن عَائِشَة أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟).

فالإتيان والمجيء والنزول : هي من جنس الحركة المذكورة، وفي معناها؛ لكنها ليست بنفس اللفظ المذكور "الحركة".

ثانيا:

اختلف السلف في نسبة الحركة إلى الله، فمنهم من أثبتها، كالإمام حرب الكرماني (ت280هـ)، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي (ت280هـ)، وقد نسبا القول بها إلى أهل السنة.

قال الإمام حرب الكرماني: "والله تبارك وتعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم، ويتحرك، ويسمع ويبصر وينظر، ويقبض ويبسط، ويفرح، ويحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر، ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )" انتهى من "مسائل حرب" (3/974).

وقد نقل حرب هذه العقيدة عمن أدركه من أهل العلم، من أصحاب الحديث وأهل السنة.

قال في أول هذا الفصل (3/ 967): "هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها: فهو مبتدع، خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم" انتهى.

وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله: "وأما دعواك أن تفسير "القيوم" : الذي لا يزول من مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه، أو التابعين؛ لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء؛ لأن أمارة ما بين الحي والميت: التحرك؛ كل حي متحركٌ لا محالة، وكل ميت غيرُ متحركٍ لا محالة.

ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك، مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة، إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووقّت لنزوله وقتاً مخصوصاً، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً ولا عويصاً" انتهى من نقض الدارمي على المريسي، ص 52.

وقال الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله (ت561هـ): " وقيل لإسحاق بن راهويه: ما هذه الأحاديث التي تحدث بها، أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، والله يصعد، ويتحرك؟

قال للسائل: تقول إن الله تعالى يقدر على أن ينزل ويصعد ويتحرك؟ قال: نعم، قال: فلم تنكره!" انتهى من في "الغنية لطالبي طريق الحق"، ص88.

ومنهم من نفى اللفظ، مع إثباته المعنى.

وفي بيان اختلاف السلف في نسبة الحركة إلى الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"والفعل صفة كمال لا صفة نقص، كالكلام والقدرة. وعدم الفعل صفة نقص، كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع، وهو المطلوب.

وكان الناس قبل أبي محمد ابن كلاب صنفين: فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.

فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.

وأما الحارث المحاسبي: فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذّر من ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث إنه رجع عن قوله.

وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين، ورجح قول ابن كلاب، وذكر ذلك في قول الله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) [ التوبة: 105]، وأمثال ذلك.

وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور. وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم.

وطائفة أخرى من السلفية كنعيم بن حماد الخزاعي، والبخاري صاحب الصحيح، وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم كأبي عمر ابن عبد البر وأمثاله: يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلاً ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة؛ لكونه غير مأثور.

وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء كأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن بطة، وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين كأبي عبد الله بن حامد، وأمثاله، ومنهم طائفة ثالثة، كالتميميين، وابن الزاغوني، غيرهم يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم) انتهى من "درء التعارض" (2/6- 8).

ثالثا:

والأقرب في هذه المسألة: هو الإمساك عن نفي الحركة وإثباتها؛ لأنه لفظ فيه إجمال؛ إذ يحتمل حركة كحركة المخلوق، ينشأ عنها تفريغ مكان وشغل مكان آخر، أو حركة إلى مكان يحتاج إليه.

وإنما نثبت لله ما ورد من النزول والمجيء والإتيان، مع نفي التكييف والتشبيه، والتبري من لوازم فعل المخلوق المختصة به.

قال ابن القيم رحمه الله: "وأما الذين أمسكوا عن الأمرين وقالوا: لا نقول: يتحرك وينتقل، ولا ننفي ذلك عنه، فهم أسعد بالصواب والاتباع، فإنهم نطقوا بما نطق به النص، وسكتوا عما سكت عنه، وتظهر صحة هذه الطريقة ظهوراً تاماً فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت النص عنها مجملة محتملة لمعنيين: صحيح وفاسد، كلفظ الحركة والانتقال والجسم والحيز والجهة والأعراض والحوادث والعلة والتغير والتركيب، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق وباطل، فهذه لا تُقبل مطلقاً ولا تُرَدُّ مطلقاً؛ فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه المسميات ولم ينفها عنه، فمن أثبتها مطلقاً فقد أخطأ، ومن نفاها مطلقاً فقد أخطأ؛ فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله، وما يجب إثباته له، فإن الانتقال يراد به انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليه، إلى مكان آخر يحتاج إليه، وهو يمتنع إثباته للرب تعالى، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع إثباتها لله تعالى، ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل؛ من كونه فاعلاً، وانتقاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، فهذا المعنى حق في نفسه، لا يعقل كون الفاعل إلا به، فنفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفعل وتعطيل له.

وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك، وهو فعل يقوم بذات الفاعل، يتعلق بالمكان الذي قصد له، وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه، وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة، وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة.

وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة، فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له" انتهى من مختصر الصواعق المرسلة، ص472.

والحاصل: أن إثبات لفظ الحركة لله، مختلف فيه بين السلف، والأقرب: الإمساك عن ذلك نفيا أو إثباتا، مع إثبات ما جاء في النصوص من المجيء والإتيان والنزول والهبوط والدنو، إثباتا يليق بالله تعالى، بلا تكييف أو تشبيه.

والله أعلم.

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...