أرشيف المقالات

جمعية نهضة القوى

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
احتفلت هذه الجمعية البرة منذ يومين بانقضاء عامين من جهادها النبيل في إنهاض القرية المصرية.
وهذه الجمعية هي أيضا من أعمال الشباب؛ ولعلها أقرب أعمالهم الجليلة إلى الخير المحض! فإن ما ركبوه إلى اليوم من قحم السياسة، وما عالجوه من خطط الاقتصاد، إنما كان مبعثه الغرور القومي، أو الشعور الوطني، أو هما معا؛ أما هذا العمل الخالص عاطفة البر في الإنسان بأخيه الإنسان؛ وهذه العاطفة إنما غرستها في القلوب يد القدرة، وأنمتها قوة الفطرة، وفرضتها طبيعة الحياة، ليحصل بها التئام شمل الناس، وانتظام عقد المجتمع، واتحاد وجهة الإنسانية بالتعاون والتضامن إلى كمال البشري الممكن راع الشباب - وهم موضع الحس المرهف من الأمة - ما جره تفشي الأمية على القرى المصرية من انقطاع السير، وانخزال الحركة، وانتشار العلل، وانفجار الأحداث، واغبرار العيش، وهي مصدر القوة للشعب، ومورد الثروة للوطن، فحشدوا جنودهم في هذا الميدان، وسددوا جهودهم إلى هذا الغرض، وراحوا يهاجمون الجهل والفقر والمرض في تلك الحظائر أو المقابر التي ضمنت أجوافها السود أربعة أخماس الأمة، ثم دأبوا يقرعون الآذان بالخطابة، ويخزون الضمائر بالكتابة، ويهيبون بالحكومة والقادة أن يأخذوا من تجميل المدينة لتأثيل القرية، ومن ترف الباشا لحاجة الفلاح، ومن فلسفة الخاصة لأمية العامة، حتى ارتفعت حجب الأسماع، وانكشفت أغطية القلوب، فعطف على قضية القرويين رجال البلد من أولي الحكم وأهل العلم وذوي المثالة، وألفوا من قدرة الشبيبة، وخبرة الكهولة، دستور العمل المنتج لإنجاد الفلاح وإسعاد القرية لعل أنطق الأدلة بخطورة العمل الذي تقوم به هذه الجمعية الجليلة أن أصف لك قرية أعرف بيوتها كما أعرف بيتي، وآلف أهلها كما آلف أهلي، وستجد حين توازن بين قريتي وقريتك أنني وصفت على الجملة قرى مصر جميعا: كومة من سبانخ الأرض قام عليها أكواخ متلاصقة من اللبن، سقوفها بالخشب والقصب، وحلوها بالعلف والحطب، وجملوها بشرفات من الروث اليابس، ثم جعلوا ظهورها خلاء للحاجة، وبطونها مسرحا عجاجا لشتى الأوالف والدواجن من الكلاب والقطاط والدجاج والبط، ثم جمعوا بين قاعة الإنسان وزريبة الحيوان في فناء واحد، فالحديث يمتزج بالخوار، والمضغ يشتبه بالاجترار، والرجل والثور، والمرأة والبقر، والطفل والعجل، يعيشون في شيوعية عجز عن تحقيق حلمها (الروس)! لا يؤديك إلى هذه الدويرات العمى مسلك واسع ولا طريق مشروع، إنما هي طوائف وطوائف، تفتحت كل طائفة منها على زقاق ضيق غير نافذ، ولن تستطيع الدخول في هذا الزقاق إلا من الطريق الدائر حول القرية!.

بلى قد يشق البلدة منفذ صاعد هابط متحدر متعرج وعر، ولكنه بين الفجوات والحفر يكون أشبه بصراط الحق بين مزالق الفتنة يركبها من الشمال مستنقع ومن الجنوب مستنقع، ثم يحيط بها ويتخللها من السرجين والسماد منها الرطب ومنها اليابس، وفي أحضان هذه التلال، وعلى حوافي هذه المناقع، قامت مجالس القوم، يجلسون فيها تحت الجدران وفوق المصاطب يستجمون حينا من العمل الدائب والعناء المرهق، لا يألمون لسع البعوض، ولا ينكرون ريح الوحل؛ ثم لا يجري بينهم إلا الحديث القابض كتضاعف الدين على الأرض، وتحكم المالك في الريع، وفتك الآفات بالزرع، وإلحاح الكساد إلى القطن، وما تدخله تلك الحال على النفس الجاهلة من وساوس الأطماع وسخائم الحقد وغوائل الحسد! اصطلحت على دمائهم الفقيرة جراثيم الملاريا والبلهارسيا والانكلستوما، فغدوا كواسف الوجوه، خواسف الجسوم، خوائر القوى، يعالجون المرض بالصبر، ويخففون الألم بالتسليم، ويدافعون الموت بالتعاويذ، ويسيئون الظن بالمستشفيات التي لا تقبلهم إلا بالشفاعة، ولا تعاملهم إلا بالفظاظة، ولا تحسن علاجهم إلا بالمال في العيادات الخاصة.

وأين المال من رجل كل ما يملكه أجرة يومه لقوت يومه؟ وليت هذا القوت كان من الأقوات التي تصلح الجسم، وتدفع السقم، وترد العافية! إنما هو في الغالب رغفان من الذرة أو الشعير مأدومة ببعض أحرار البقول واللبن المملح.
استغل الملاك ضعفهم، والمرابون جهلهم، فوضعوا أيديهم على أختامهم يطبعونها على العقود والصكوك في غير رحمة ولا ذمة، حتى إذا انقضى الحول وآل كدح الأسرة الناصبة، وجهد الماشية الاغبة، وشقاء الفلاح المسكين، إلى الثمرة المرجوة، عدا عليها الدائن اللص، أو المالك الظالم، فجباها لجيبه، أو جناها لمخزنه ذلك على الإجمال وصف القرية، فهل تجد فرقا بينها وبين أخصاص الهمج في نشأة الحياة وطفولة الزمن؟ وتلك هي على التقريب حال الفلاح، فهل تجد فرقا بينه وبين البهيم الذي لا يصطنع العلم، ولا يدعي المدنية، ولا يزعم لنوعه الرقي؟ فإذا استطاعت هذه الجمعية الشابة أن تجعل من هذه الأقذار المركومة مسكنا يجمل في العين ويجدي على الصحة، ومن هذا الكائن المهمل رجلا يشعر بالحياة ويسير مع الأمة، فقدر في نفسك أي واجب تؤدي وأي خير تفيد!! أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢