عنوان الفتوى : مخالطة الناس... رؤية أخلاقية دعوية
أعيش في مجتمع يعج بالفساق، ولا يزورون المسجد إلا نادرًا.
فكيف يمكنني التعايش معهم، رغم أني لا أتحمل مجالستهم؛ لكثرة ما يتكلمون به من معصية الله تعالى، ولاستماعهم للأغاني في معظم الأوقات؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن السبيل الأمثل للتعايش مع المجتمع هو مخالطتهم في الخير، والصبر على أذاهم، والإحسان إليهم قدر الإمكان، واعتزالهم في الشر والسوء.
وقد جاء في سنن الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المُسْلِمُ إِذَا كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ المُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ. وحَسَّن إسناده ابن حجر في فتح الباري.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: والضابط النافع في أمر الخلطة أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة. ويعتزلهم في الشر، وفضول المباحات.
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم، فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم ..
وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه، ويشجع نفسه ويقوي قلبه. ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك، بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك، ونحو ذلك، فليحاربه، وليستعن بالله، ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه. اهـ.
ومخالطة الناس في الخير لا تعني السكوت عن المنكرات، أو إقرارها، ولا موافقة الناس على الباطل، أو الجلوس في مجالس اللغو والعبث بلا مصلحة راجحة؛ كالإنكار، أو دعوتهم إلى الله، أو نحو ذلك.
وينبغي اغتنام الفرص، وانتقاء الأساليب المناسبة للنصح والتذكير في مجالس الناس العامة، وصرف أهلها عن اللغو إلى الخير والذكر.
وأما اعتزال الناس -في غير مجالس السوء والشر- فله آثار سلبية، كافتقاد الناس للقدوات الذين يذكرونهم وينصحونهم، ونفور الناس عن المتدينين، والنظر إليهم أنهم مستكبرون عن مخالطة الناس.
واعلم أن المسلم كما أنه ينظر إلى المخالفين بعين الشرع فيأمرهم وينهاهم، إلا أنه كذلك مأمور بالنظر إليهم بعين القدر فيرحمهم ويعتذر لهم، ويترفق بهم.
قال ابن القيم في الرسالة التبوكية: سائرا فيهم بعينين:
عين ناظرة إلى الأمر والنهي؛ بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم.
وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم، ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس لهم وجوه المعاذير فيما لا يخل بأمر ولا يعود بنقض شرع، قد وسعتهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته. اهـ.
وأما ازدراء العصاة واحتقارهم، والترفع عليهم، فهذا قد ينبئ عن أمراض خطيرة من عجب وكبر، ورؤية نفس وتَألٍّ على الله، ما قد يكون أشد خطرا من الذنوب الظاهرة.
قال ابن القيم في مدارج السالكين: تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه، وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به.
ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع، والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى، والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب أنفع له، وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها.
فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المدل من مقت الله، فذنب تذل به لديه، أحب إليه من طاعة تُدل بها عليه. اهـ.
وكثير ممن يسلك سبيل التدين يغفل -للأسف- عن أمر رحمة العصاة والشفقة بهم.
وعلى المؤمن أن يكثر من الدعاء بالصلاح والعافية والمغفرة، والستر لأفراد المجتمع المسلم.
والله أعلم.