عنوان الفتوى : الأكراد.. ومسألة الفدرالية والاستقلال
كنا في مجلس ضم بعض الأصدقاء، ودار الحديث فيه على استقلال الأكراد ومنح الفدرالية القومية لهم، فمال بعضهم إلى أنه لا شيء في ذلك، إذ لا يوجد أي مانع شرعي من الفدرالية المذكورة ، ثم إنه يمكن قياسه على الولايات الموجودة في دولة الخلافة، وأما الاستقلال فهو أيضا لا شيء فيه إذ هو لدفع الظلم عن الشعب المظلوم، وأيضا: فإنه يمكن قياسه على الدول الإسلامية الموجودة على الساحة، والتفريق بين الأمة سابق على استقلال الأكراد، فقد حدثت الفرقة منذ أمد بعيد، ولذا فإن استقلال الأكراد لا يضر. وأما الطرف الآخر فكان يميل إلى أن هذا مما لا يمكن القول بجوازه؛ لأنه شعبة من العصبية القومية، وأيضا: فإنه زرع للفتنة بين الشعب الواحد، وتفريق بينه، وتوهين لقوته، وتحقيق لأغراض الكفار؛ إذ هم يريدون بهذا أن يستخدموا هذا الشعب لمصالحهم. و
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن من أخطر المؤامرات والنكبات التي تلقاها المسلمون في هذا العصر على يد أعدائهم تمزيق وحدتهم وتشتيت شملهم بعد مؤامرتهم الكبرى على إسقاط الخلافة الإسلامية التي كانت -على علاتها- تعتبر رمز الوحدة بين شعوب المسلمين.
ولقد جاءت هذه المؤامرة نتيجة لخطة صليبية ماكرة بعد انتهاء الحروب الصليبية التي عجز فيها الأعداء عن هزيمة المسلمين وردهم عن دينهم بالقوة نتيجة لتمسك المسلمين بدينهم ووحدتهم والقيام بفريضة الجهاد فلجأوا إلى إسقاط الخلافة بالدس والكيد والمكر..
فتحقق لهم ذلك عام: 1918 على يد أحد عملائهم من يهود الدونما هو مصطفى كمال أتا تورك، وما نشاهده من عداوة مزمنة، وعقدة نفسية عند الأوربيين للأتراك راجع إلى عداوة الصليبين للإسلام في القرون الماضية، ولأن الأتراك كانوا أصحاب الخلافة الإسلامية، وقادة المسلمين وحماة الإسلام في ذلك الوقت.
وكانت الدول الصليبية في ذلك الوقت تسمي الخلافة الإسلامية (الدولة العثمانية) بالرجل المريض إشارة إلى أنه سيموت وسيقسمون تركته.
فقد كانت اتفاقية (سايكس-بيكو) بين الدول الاستعمارية الصليبية سنة 1916م هي الاتفاقية المكملة للاتفاق الرئيسي بين الدول الغربية الصليبية وروسيا القيصرية الصليبية في ذلك الوقت، والتي تقضي بتقسيم تركة الدولة العثمانية بعد إسقاطها على الدول الصليبية، وما إن نجحت هذه الخطة حتى توالت حلقات التآمر الصليبي الأخرى فقسم الوطن الإسلامي على الدول الغربية الصليبية كما نشاهد اليوم، وجاء وعد بلفور بإقامة وطن لليهود في فلسطين بعد رفض الخلافة الإسلامية للهجرة اليهودية إلى فلسطين... ثم بروز القوميات والنعرات الطائفية بين شعوب العالم الإسلامي وقيام الأحزاب القومية على أساس الماركسية أو الليبرالية الغربية يغذي ذلك الاستشراق ومكائد الغزو الفكري الذي يزيف التاريخ ويفرق بين الشعوب الإسلامية، والحديث في هذا الموضوع حديث متشعب طويل، وهو حديث ذو شجون فلا يتسع المقام لذكر أكثر مما أشرنا إليه.
والذي نريد أن نصل إليه هو أن هذه الدول والحدود الموجودة اليوم هي من صنع الاستعمار الغربي لا يقاس عليها وعلى مشروعيتها، فهي من صنع الاستعمار الصليبي، ولا دخل للشعوب الإسلامية في وجودها، وحتى أولئك الذين يتربعون على كراسي القيادة فيها... فهي نتيجة للاتفاقية (سايكس-بيكو) -كما رأينا- وتقسيم تركة الرجل المريض، والأعداء هم الذين أحيوا النزعات القومية والدعوات الجاهلية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها منتنة. رواه البخاري ومسلم.
ثم نقول بعد ذلك: إذا صلح أمر المسلمين واتفقوا على قيام وحدة فلا مانع شرعاً -فيما نعلم- من وجود فدرالية أو استقلال داخلي لكل إمارة أو ولاية على أن يكون الولاء للإسلام والمسلمين وخلافتهم العامة التي تجمعهم جميعاً كما كانت الخلافة الإسلامية عبر التاريخ فهذا من باب السياسة الشرعية، وهي باب واسع يخضع للمصلحة ويحققها ما دامت الوسيلة غير محرمة، والذي لا يجوز ولا يقبل هو أن يستمر الظلم على الشعب الكردي المسلم أو غيره من شعوب المسلمين فهذا أمر مرفوض شرعاً وطبعاً، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقوم دولة في الوطن الإسلامي على أساس قومي عنصري أو جاهلي أو يكون ولاؤها لغير الإسلام وأهله.
وعلى كل حال فالتفرقة لا خير فيها، فكلما اتحد المسلمون كان ذلك أقرب إلى شرع الله تعالى، وإلى طاعته وإلى تحقيق المصلحة لهم، هذا ما تدل عليه الأدلة العامة من الكتاب والسنة، فقد قال الله عز وجل: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ(آل عمران: من الآية105)، وقال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال: من الآية46).
والله أعلم.