عنوان الفتوى : ترويح الأنبياء عن النفس... رؤية شرعية سلوكية
هل الأنبياء -عليهم السلام- كانوا يروحون عن أنفسهم أم لا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كان المقصود بالترويح: أن الأنبياء عليهم السلام لم يسلكوا طريق الرهبانية، والغلو في العبادة، وأنهم كانوا يتناولون من لذائذ المباحات -من الأنكحة، والأطعمة، وغيرها- ما يستعينون به على طاعة الله سبحانه؛ فهذا صحيح.
فقد أمر الله الرسل بالأكل من الطيبات، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {المؤمنون:51}، وأخبر أن لهم أزواجا، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً {الرعد:38}.
وذم الله الرهبانية، كما قال سبحانه: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ{الحديد:27}.
وفي فتح القدير للشوكاني عند قوله سبحانه: أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {يوسف:12}، قال: قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين ... مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير إذا أكل كيف شاء، أو المعنى: نتسع في الخصب ... ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء وقيل: المراد به اللعب المباح من الأنبياء، وهو مجرد الانبساط وقيل: هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب، ويتقوون به عليه، كما في قولهم: إنا ذهبنا نستبق، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا: ونلعب، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- لجابر: «فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك» .اهـ.
وفي الصحيحين -واللفظ لمسلم- عن أنس، أن نفرا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه. فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها هو من الزهد المباح. وأما الامتناع من فعل المباحات مطلقا؛ كالذي يمتنع من أكل اللحم، وأكل الخبز، أو شرب الماء، أو لبس الكتان، والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب؛ فهذا جاهل ضال من جنس زهاد النصارى. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} نزلت هذه الآية بسبب أن جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على ترك أكل الطيبات. كاللحم ونحوه وترك النكاح. وفي الصحيحين عن أنس {أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما بال رجال يقول أحدهم: أما أنا فأصوم، ولا أفطر، ويقول الآخر: أما أنا فأقوم، ولا أنام، ويقول الآخر: أما أنا، فلا آكل اللحم. لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني}. وفي صحيح البخاري {أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا قائما في الشمس. فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مروه أن يستظل، وأن يتكلم، وأن يجلس، ويتم صومه}. وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} . فأمر بالأكل من الطيبات والشكر له، والطيب هو ما ينفع الإنسان، وحرم الخبائث، وهو ما يضره، وأمر بشكره، وهو العمل بطاعته بفعل المأمور وترك المحذور. وفي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله ليرضى على العبد يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها} وقال تعالى: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} ... ومن حرم الطيبات التي أحلها الله من الطعام واللباس والنكاح، وغير ذلك، واعتقد أن ترك ذلك مطلقا هو أفضل من فعله لمن يستعين به على طاعة الله؛ كان معتديا معاقبا على تحريمه ما أحل الله ورسوله، وعلى تعبده لله تعالى بالرهبانية، ورغبته عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما فرط فيه من الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كذلك من أسرف في بعض العبادات: كسرد الصوم، ومداومة قيام الليل، حتى يضعفه ذلك عن بعض الواجبات؛ كان مستحقا للعقاب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: " {إن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه}. اهـ.
وانظر الفتوى: 408730.
والله أعلم.