عنوان الفتوى : عقد المزارعة
إن محافظة الحَسَكة ـ كما لا يَخفَى على سيادتكم ـ منطقة زراعيّة، يعيش مُعْظم السُّكّان على المنتجات من الزراعة البعْلية. وعقود المزارعة الجائزة والباطلة تجري بين صاحب البِذْر وصاحب الأرض على نِطاق واسِع، ونشأ من ذلك خِلافات بين المتعاقِدين بسبب رداءة المواسم الزراعيّة الماضية، حيث زرع البعض في عام 1960 كميات من الشعير، ولم يُمكن حصادها في عام 1961، فنبتت مرة ثانية في نفْس الأرض وأعطت منتوجًا جيِّدًا لموسم عام 1962 الحالي، فادّعى صاحب البذر الأول لعام 1960 أنه شريك مع صاحب الأرض في المحصول، وادعى صاحب الأرض أن العقد انتهى بعام 1961، وكل ما نبت في أرضه له وحده، هذا الموضوع هو مَثار الخلافات العديدة في الوقت الحاضر، فلمن يكون المنتوج؟
المأمول من سيادتكم بيان حكم الشرع الشريف في هذه المسألة، ولكم جزيل الشكر.
فأجابه الأستاذ الزرقا بالجواب التالي:
تلقَّيت رسالتك الاستفتائيّة المؤرخّة في غرة المحرّم من هذا العام عقْب عودتي من مؤتمر العالم الإسلامي الذي عُقد فيه بغداد، وكنت ـ وما زلت ـ في غمرة الامتحانات الجامعيّة، وهذا ما قضى عليَّ بتأخير الجواب.
1 ـ إن سؤالك فيه غموض؛ لأنه ساكت عن ناحية جوهرية في الوقائع يجب بيانها، فقد قلتم ما خلاصته: (أن بذر عام 1960 في بعض عقود المزارعات لم يكن حصاده في عام 1961 لرداءة الموسم، فنبتَ مرة ثانية في نفس الأرض وأعطى منتوجًا جيِّدًا، واختلف صاحب البذر وصاحب الأرض، فكلٌّ منهما يدَّعِي أنه له وحده، فما هو الحكم الشرعي في ذلك).
ونقطة الغموض هي أنكم لم تبيِّنوا: هل بقي البذر نفسه في الأرض بسبب الجَفاف حتى نبت في العام الثاني لما جاء الأرض مطرٌ كافٍ؟ أو أن البذر نبت في عامه الأول الذي أُلْقِي فيه، ولكن الزَّرع النابت لم يكن من الجودة بحيث يساوي تكاليف حصادِه، فبقي السُّنبل دون حصادِه، وتساقَط حبُّه في الأرض حتى جاءه المطرُ الكافي في العام التالي (الحالي) فنبت من جديد وأعطى موسمًا جيِّدًا (كما قد يُشعر به قولكم لرداءة الموسم… فنبت مرة ثانية) فالحكم الشرعي يختلف بين الحالين: على أني سأجيبكم عن كلتا الحالتين فيما يلي:
أ ـ في الحالة الأولى: يكون العقد قد انقضى في نهاية العام المحدَّد به، ولم يتَّفق على تمديده، فبقي البذر في الأرض لصاحبه في الواقع، فبنباته بعد ذلك يكون الزرع النابت ومحصوله له؛ لأنه نماء بذره في أرض غيره دون عقد، ويكون لصاحب الأرض أجر مثل أرضه الذي قد يعادل حِصّته المقرّرة له في العقد السابق أو أكثر أو أقل. هذا مقتضَى قواعد المذهب الحنفي في المزارعة وفي الإجارة، وقد نصوا في إجارة الأرض للزرع على أنه إذا لم يستحصد الزرع في نهاية مدّة الإجارة يبقى رغمًا عن صاحب الأرض إلى حين استحصاده بأجر المِثل؛ لأن تكليف المستأجر بقلع الزرع في نهاية المدة فيه إتلاف للزرع، أما بقاؤه بأجر المثل ففيه رعاية لمصلحة الطَّرَفين.
هذا الحلُّ أقرب إلى المنطق الفقهي من القول في هذه الحالة بأن المحصول يكون موزَّعًا على حكم العقد السابق؛ لأن ذلك معناه القول باستمرار حكم عقد المزارعة بعد انقضاء مدّته إلى العام القابل، وهذا يؤدِّي إلى القول بمنع صاحب الأرض من التصرف بأرضه بعد انقضاء مدة عقد المزارعة، وعدم نبات البذر؛ لاحتمال أن ينبت في أعوام قادمة إذا استمرّ الجفاف، وفي هذا من البعد والمشكلات ما فيه.
فالذي أراه هو ما بيَّنته، والفقهاء يُصرِّحون دائمًا بأنَّ نماء البذر في أرض الغير يكون لصاحب البذر، ويكون لصاحب الأرض تعويض نُقصان الأرض، أي: نقصان قوّتِها الإنباتيّة أو أجر المثل.
ب ـ وأما في الحالة الثانية: فإن المحصولَ الأول الذي لم يُحصَد لقلّته هو محصول مشترك بين صاحب البذر وصاحب الأرض على حكم العقد من مناصفة، أو مرابعة، أو مثالثة بحسب الاتفاق السابق، فعندما يتساقط في الأرض وينبت من جديد يكون المحصول الثاني نماء بذر مشترك في أرض بدون عقد، فهو، أي: المحصول، مملوك بنسبة الملكية في البذر.
ولصاحب الأرض أن يأخذ أولًا من المحصول الجديد قبل القسمة ما يعادل أجر مثل أرضه والنفقات التي أنفقها على الحِراثة والحَصاد والدّياس… إلخ؛ لأن كل ذلك عندئذٍ يكون على الطرفين بنسبة حِصتيهما؛ لأنه نفقة واجبة في سبيل ملك مشترك، فيأخذها مستحِقُّها من المحصول الجديد قبل قسمته.
هذا، ويلحَظ في الفرق الجوهري بين الحالتين أن الأرض في الحالة الأولى لم تُستعمل إلا مرّة واحدة في الإنبات، فيكون لصاحبها تعويض فقط عن استعمال أرضه (وهو أجر مثلها)، بينما في الحالة الثانية فقد استُعمِلت الأرض وأنبتت مرتين: مرّةً ضمن مدّة عقد المزارعة، ووفقًا لهذا العقد، ومرة خارجه، فيكون لصاحبها حِصّة في المحصول الثاني أيضًا؛ لأنه نماء بذر مشترك، كما يكون له تعويض فوق ذلك عن الاستعمال الثاني للأرض خارج نطاق العقد، وهذا التعويض هو ما يعادِل أجر مثل الأرض عن الجزء الذي استعمل منها لأجل حِصة شريكه، وهذا هو الذي يتحقّق عندما يؤخذ ما يعادِل أجر مثل كامل الأرض من مجموع المحصول قبل القسمة.