عنوان الفتوى : الجواب عن بعض الشبهات حول قول الله تعالى: "وجدها تغرب في عين حمئة"
السؤال
كنت قد قرأت عن شبهة حول آية: (وجدها تغرب في عين حمئة)، ووجدت أيضًا ردًّا مقنعًا على الشبهة، ولكن ما زال في قلبي حرج من ثلاثة نقاط حول هذه الشبهة:
أولًا، وهو السؤال الأهم: هل استخدام لفظ: (وجدها) يمكن تأويله بأن ذي القرنين (رآها من منظوره هو)؛ لأني وجدت أحد المشككين يقول: إن هذا تأويل باطل، ومجرد ترقيع، وأن (وجدها) يعني وجدها حقيقةً، وأن هذا اللفظ لم يرد في القرآن، أو عند العرب عمومًا بهذا المعنى، فهل ورد عند العرب استخدام لفظ: (وجد) للتعبير عن شيء من وجهة نظر المتكلم، وليس حقيقةً ثابتة؟
ثانيًا: يؤكد المشكك كلامه هذا بحديث أبي ذر الغفاري: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، والشمس عند غروبها، فقال: (هل تدري أين تذهب؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها تغرب في عين حمئة)، ويقول المشكك لو قبلنا أن القرآن يتكلم من وجهة نظر ذي القرنين، فالرسول هنا لا يمكن أن يتكلم من وجهة نظر ذي القرنين، والرسول يثبتها حقيقة؛ وكنت قد قرأت أن هذا الحديث بهذا اللفظ غير ثابت؛ لأن مدار الحديث في كل رواياته على سفيان بن حسين، وهو ضعيف؛ ولذلك أخطأ الإمام الألباني -رحمه الله- حين قال بتصحيح هذا الحديث، فأرجو التوضيح هل هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت أم لا؟
ثالثًا: يقول هذا المشكك: إن بعض المفسرين -مثل الطبري -رحمه الله- فسرها كما هي، أي أن الشمس تغرب في عين حمئة، فهل هذا صحيح؟ وهل أخطأ الطبري في ذلك؟ جزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه الآية أبين من أن يدور حولها كل هذا اللغط الذي يحدثه المشككون! فليس أحد من البشر يدّعي أن الشمس حين غروبها تدخل عينًا، أو بحرًا، أو شيئًا من الدنيا؛ ولذلك جاء التعبير بـ {وجدها} في غاية الدقة، فهذا الوصف إنما هو في وجدان ذي القرنين، وليس وصفًا لحقيقة غروب الشمس؛ ولذلك قال البيضاوي في تفسيره: لعله بلغ ساحل المحيط، فرآها كذلك؛ إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء؛ ولذلك قال: {وَجَدَها تَغْرُبُ}، ولم يقل: كانت تغرب. اهـ. فتبين بهذا دقة هذا التعبير.
وأما ما أشكل على هؤلاء المشككين، فقد دفعه طائفة كبيرة من المفسرين من قرون طويلة بشيء معلوم للجميع، وهو أن حجم الشمس ليس فقط أكبر من البحر، أو العين، بل هو أكبر من الدنيا بأسرها؛ ولذلك جاء تفسير الجلالين: غروبها في العين في رأي العين، وإلا فهي أعظم من الدنيا. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: وربما توهَّم متوهِّم أن هذه الشمس على عِظَم قدْرها تغوص بذاتها في عين ماءٍ، وليس كذلك، فإنها أكبر من الدنيا مرارًا، فكيف يسعها عين ماء!؟ ... وإِنما وجدها تغرب في العين، كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طَرَفه أن الشمس تغيب في الماء؛ وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان، فوجد عينًا حَمِئة ليس بعدها أحد. اهـ. وراجع لمزيد من أقوال المفسرين في الفتوى: 110627.
وأما المثال الذي يورده السائل لاستعمال (وجد)، فنورده ليس من كلام العرب فقط، ولا حتى من عموم القرآن، ولا من جملة سورة الكهف، بل من ذات السياق نفسه في قصة ذي القرنين، حيث قال الله تعالى بعد ذلك: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:90]، فهل فهم منه أحد أن وجدان ذي القرنين لطلوع الشمس على هؤلاء القوم يعني المماسة، أو الالتصاق، أو نحو ذلك؟! ولذلك جاء في تفسير القرطبي: وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترًا}، ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم. اهـ.
وأما معنى الوجود، فقال الراغب في المفردات: الوجود أضرب:
وجود بإحدى الحواس الخمس، نحو: وجدت زيدًا، ووجدت طعمه، ووجدت صوته، ووجدت خشونته.
ووجود بقوة الشهوة، نحو: وجدت الشبع.
ووجود بقوة الغضب، كوجود الحزن، والسخط.
ووجود بالعقل، أو بواسطة العقل، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة النبوة.
وما ينسب إلى الله تعالى من الوجود، فبمعنى العلم المجرد. اهـ.
فالوجدان ينسب إلى الله تعالى نفسه، ويكون بمعنى العلم المجرد، كما في قوله تعالى في حق أيوب -عليه السلام-: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقوله سبحانه: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [الأعراف:102].
وكذلك العكس، فالعبد يجد ربه، أي: يعلمه، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، قال الزمخشري في الكشاف: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا} لعلموه توابًا، أي: لتاب عليهم. اهـ.
وأما الطبري فلم يكن كلامه في خصوص هذه المسألة، وإنما كان في ذكر القراءتين في لفظة: (حمئة)، و(حامية)، مع توجيه المعنى على كل قراءة، ثم ترجيح أن كلاهما صحيح، وأن هذه العين موصوفة بالوصفين جميعًا.
وأما حديث أبي ذر، فله عدة ألفاظ وروايات، وقد صحّحه بعض أهل العلم باللفظ المذكور.
وإن صح هذا اللفظ، فلا يخرج معناه عن معنى الآية الذي سبقت الإشارة إليه؛ فيكون لبيان ما يراه الناظر للأفق عند منقطع الأرض وقت غروب الشمس, وسقوطها في ماء المحيط، كما سبق في الفتوى: 194307.
وعلى أية حال؛ فرواية الصحيحين لهذا الحديث ليس فيها هذه الجملة محل الإشكال: "فإنها تغرب في عين حمئة"، وانظر للفائدة هذا الرابط: https://islamqa.info/ar/176375
وقال ابن الملقن في شرح صحيح البخاري: ورد في القرآن سجود الشمس، والقمر، والنجوم، وليس ذلك بمخالف لقوله: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}؛ لأن المذكور في الآية إنما هو نهاية مدرك البصر إياها حال الغروب ... وليس معنى: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} سقوطها فيها، وإنما هو خبر عن الغاية التي بلغها ذو القرنين في مسيره؛ حتى لم يجد وراءها مسلكًا لها فوقها، أو على سمتها، كما يرى غروبها من كان في لجة البحر لا يبصر الشاطئ، كأنها تغرب في البحر، وهي في الحقيقة تغيب وراءه، و(في) هنا بمعنى (فوق). اهـ. وانظر الفتوى: 99520.
ثم نختم بوصية شيخ الإسلام ابن تيمية لتلميذه ابن القيم التي ذكرها في كتاب مفتاح دار السعادة حيث قال: قال لي شيخ الإسلام - رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها، ولا تستقرّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها، صار مقرًّا للشبهات ـ أو كما قال ـ، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل. انتهى.
والله أعلم.